Charcoal jar

Sunday, March 20, 2011

عَضَّني كتابٌ مسعور

باكتشافهم الولادة أحرز البشريون نصراً فائقاً وأخيراً على صعيد نشاط الجسد. وهو نصرٌ فائقٌ لأن الولادة كانت العملية الثنائية التي منحتهم أول حصيلة فيزيائية حية ينتجها الجسد، (بعد انمحاق المحاولات الأحادية الأولى لإنتاج كائن حي بالعون الذاتي)، ولا يزالون يحملون عبء إنتاجها مراراً وتكراراً، مع ما تقتضيه من احتشاء وتغذية. وهو نصرٌ أخير لأنهم اكتفوا به في ما يبدو، وأضربوا عن ما يليه بداهةً من انتصارات كانت أدنى إلى منالهم منه، بحكم ما يتيحه النمط التكراري لأية عمليةٍ إنتاجية ذات طابع إحصائي من إمكانات الانتقال (خطِّياً بأهون الاعتبارات) إلى ما يليها قفزةً أبعد في النسيج الأعمى للحدوث، لولا أنهم أقاموا الولادة الثنائية عائقاً، فالتفتوا من ثَمَّ، لا إلى حصيلتها، بل إلى العملية ذاتها، مأخوذين بشرطها الثنائي يكررون النصر إلى غير نهاية، حتى لم تعد الولادة البيولوجية شيئاً يثير، فتنادوا إلى كواكب الذهن ينهبونها نهباً يتصايحون: هيا نلد الكتب!. ولكن كما رأينا؛ لا يزال قَصْر الإنسان مشيداً، وبئر الخيال معطلة، وقد لم تأخذهم الصيحة إلا بمقدار. اتجهوا في أعقابها، لا إلى ولادة الكتب كما صاحوا، بل إلى استقصاء الممكنات داخل سلسلة التكرار ذاتها يستنتجون منها انتصارات تعاونية منطقية على صعيد الذهن؛ يراكمون المعلومات والملاحظات تخزيناً وتعليماً وتجريباً وتعبيراً وطباعةً وتخابراً وتوارثاً نحو المزيد من الدقة والإتقان في إنتاج الفنون والصناعات، فضاع، ربما إلى غير رجعةٍ، الأمل في أن يحقق الواحد نصراً بمفرده، ودع عنك تعطيلاً وإنشاءً لفظياً؛ ما يتغنى به الرائعون حَمَلة الأرحام العقيمة من (مخاض الكتابة) وما شاكله من تعابير ميتة.
ليس خافياً أن الكتاب الورقي لم يكن أول وحدة تخزينية للكتابة في تاريخ البشرية، سبقته أوعية كثيرة أودعها السابقون أعمال الخيال والتفكير، ولما لم تكن تلكم الأعمال ذات نازعٍ مَنَوِيٍّ إلا من وجه المجاز فقد تعذَّر على أوعيتها الحوامل أن ترقى بها إلى أفق المشيمة الأعلى، فبقيت خزائن ربك لا حَيَّة الكهرباء تصلكم بها فتبصرون فتُطردون، ولا قوارب الذهن تحمل من سفينة البطن يونس، وبقي الضبّ يرتعد على الجدار ينظر آسفاً إلى ذيله المبتور يرقص.
الكتاب الورقي، حيوان المكتبة، عامل الأرشيف المجنَّد، هو (روح) معذَّبي ميشيل فوكو التي تنمو طارئة على أجسادهم تغزوها يا دووب أثناءما هم معلقون على (شاشة الإظهار) لإكمال عملية (إنتاج الحقيقة) التي لا بد لنجاحها من نشاط الروح المستحدَثة. وهو على أية حال لا يغادر موضعه إلا ضمن سلسلة الفعاليات المجازية والإحداثات الداخلية التي يجود بها الشهود. أي لا يعمل الكتاب الورقي إلا من خارجه، من روحه الوعائية الخُلَّب التي استحدثها الشهود في أحشائهم لتستقبل فيض الحقيقة. الكتاب الورقي ليس شخصاً، ولا هو كاتبه.
الكتاب المولود من لحم ودم، الكتاب الشخص، هو الحيوان الخلاء المفترس الضَّاري، الحيوان الخرافي، (خيال) شخصيات جيل دولوز المفهومية التي تنمو على (مسطَّح المحايثة) أثناء عملية (إبداع المفهوم) التي لا بد لحصولها من نشاط الشخصية المفهومية.
وهل تخلو من المغزى كتبٌ قبل ولادة الكتاب الورقي سُطِّرت على جلود الحيوانات الميتة؟.
الآن، هل نحن شهودٌ على ما ينذر باندثار الكتاب الورقي؟، بل نحن شهود على ما يبشر بالكتاب المولود. ولا حتى الكتاب الإلكتروني يفي بذلك. ولكلّ (ميتافيزياء) أن تصير (علماً) كما أراد كانْت. لا أريد الولادة المجازية الباكية لأصحاب (مخاض الكتابة)، بل أريد الكِتَاب الذي يولد فعلاً، كما تلد الأمهات أوغاد الكوكب. وكان محمد المهدي المجذوب بشيراً به إذ كتب: (أحلم بجيل يجعل الكتابة جزءاً من العَيْش). وترجمتها: أحلم بأرضٍ تجعل السديم جزءاً من الإقليم. أحلم بإنسان يلد كتاباً من لحم ودم، يتنفس. أحلم بي ألتهم كتاباً من اللحم لا من الورق، بفمي لا بعيني. أحلم بي طريح الفراش يسعفونني بمصل الإقليم خمساً وعشرين حقنةً في السرَّة خوفاً من عدوى السديم؛ عضَّني كتاب مسعورٌ، ولا أتعافى.
يحدث هذا عندما يصعب التمييز حقاً بين (الكاتِب) و(العايِش). عندما يغدوان لحمةً واحدةً، عندما لا تعرف أيَّ النعتين تطلق على شخص؛ فهو مستوجب الكتابة والعيش شيئاً واحداً. وكان لطفاً من المجذوب أن يَلِي بحلمه (جيلاً)؛ لأن نازعاً كهذا لا ينتسب إلى حقبة ولا إلى إطار زمني. إنه ضرب دمويّ من التفكير ما كان المجذوب ليلغ فيه لو أنه فكِّر حقبياً. بل هي حال؛ بالاستخدام الصوفي لـ(حال)، أعني أن تغدو الكتابة قطعةً حيةً من عيش العايش؛ عضواً يجوع ويرتجف، ولا يتجزأ عن ما يملأ الجسد من سُعَار التنفُّس والحياة و(العَيْش). أن لا يعود الكتاب جليساً وحسب، بل جَسِيداً، يداً، عيناً، قلباً، كبداً، كتاباً، أماً، ولداً، أباً، حبيباً، فريسةً، مفترساً.
إذن، هل يموت الكتاب الورقي؟، لا أعرف هذا، لكن، ليموت شيء ما؛ عليه أن يحيا أولاً، أليس كذلك؟.

Wednesday, March 16, 2011

حليبٌ في المهَبّ

الأثرُ. مرضعةٌ لغير التغذية. حليبٌ في المهب. ولأنّ العالَم نزّاعٌ بطبعه إلى الْتِقَامِ أي ثدي يعرض به في طريقه ويتغذى على ما يَرضعه منه، فهي قابلية يتحلَّى بها العالَم والفنان على السواء، لا أثر الفنان. (يأكل المجاز. يَشرب الشَّايَ في القلب الخطأ: نجلاء عثمان التوم). و(العالَم) يستخدم هذه القابلية؛ لا اضطراراً ولا احتياجاً ولا رغبة، ولكن وأكثر؛ لا اختياراً، بل وفاءً منه وحفظاً لتقاليد المشاركة والاتصال الراسخة أن تُبقي على وجوده بمنجاة من البطلان، وإنْ على المستوى الإشاري بوصفه (دالاً) على حزمة بعينها من العناصر اتفق لها أن تتراضى على صيغة اعتبارية من الحدود تربط بينها علامات الجمع المحفوظة وهي مفترقة، لتنصبّ جمعاء عبر علامة التساوي سبيكةً مسكوكةً يُشار إليها بـ(العالم) دون الوقوف مطوَّلاً لدى واقع كونها مقداراً صناعياً ذا قيمة اعتبارية.
هذه القابلية لتناول العارض جوهرياً، يستخدمها الفنان أيضاً؛ ولكن من باب أسلوب الغلطة. أي أنه يُقْبِلُ عَمْداً على أيٍّ مما يهمّ وما لا؛ فيلتقم الثدي المسموم والثدي الميت والثدي المريض والثدي الخالي والثدي الـ...، ويستخلص منه ما لذّ له من الأغذية، وهو يعلم، كما إنه يضع هذا التشوُّه الترفيهي على عمله اختياراً. الفنان يَرْضَعُ لذَّةً ويُرْضِعُ لذَّةً. وهذا توقيعُهُ الأنشودة؛ توقيعه النائم في كل أحدوثة وملحمة وأمثولة وأسطورة وتمثال ونقش و...، يضعه في الظلام بيضةً بمثابة الخطة البديلة، فمتى ما انقلب الأثر نظاماً ومنهجاً واستقرَّ بعون آلات العالم المتأهِّب حاملاً فأس الملاحظة، حتى يستيقظ بيض اللذّة المدفون يغني في تربة الأثر، ويسعى جيشاً داخلياً من الحيث المستحيل عاملاً على مكافحة عوالق الملاحظة والتغذية والموعظة عن جلد الأثر، ثم يعيده إلى مهبّه طيراً أسود يشدو بحليبه المُظْلِم، وأيّ حليب؟.
إن الفنان يبذل عمله كما يبذل أي بشري يومَه عبر سنِيّ عمره. وما الأثر الفني إلا يوماً للنموّ والإخفاق والإصابة والتعلم و...!. لا يبذل الفنان أمثولات إلا بقدر ما يُشْرِقُ قلب الطفل إذ ينطق مفردةً يفهمها ذووه، ليس لأنها معبِّرة في نظره، ولا لأنها تعني أيَّ شيء جوهري، فقط هو يفرح بها لأنها تنشط بالخارج، وتعمل عمل الوصلة تسري عبرها تيارات الجوهر الثقافي المتراكم ـ علماً؛ لغةً، موعظةً، ديدناً، قوانين، ملاحظات، ملخصات، اختصارات،... ـ على أكتاف أهليه الفرحانين بالمثل إذ عثروا أخيراً في هذا المعجم الرضيع على ما يمكِّنهم من توريثه خبراتهم وتجاربهم و...، يَحْشُونَهُ بها. ومع ذلك، مع ذلك!، أفكار موحشة تتمزّق في بطن الطفل كبيضة الزمن، رطانات من العالم الجيني الدفين تُخرج أثقالها في قيامة التنفس والتعليم تنشرها؛ قبائل تكافح في أرض إدراكه كل المدخلات الطفيلية الفايروسية المقتحِمة، كتائب خرساء من كريات (الأنا المُظْلِمة) البيضاء المنسلَّة من قصر عدم الشريك الذي يفتح هذا أنفاقه السفلى حتى إذا فشلت طلائع المقاومة في طرد أغذية الخارج التيارية التهمتها وحوّلتها، فإذا بـ(فنَّانٍ)، مذعوراً أبداً من فأس (مَن عاشَرَ قوماً) يدفع الجزيةَ، مستدِيراً تلقاء نفسه غَيْرَاً؛ عينين مقلوبتين إلى داخله تضيئان بلد الروح البعيد لمرتاديه يستكشفونه بما هو أوفى إتاحةً من نشرات سياحية مبتسرةٍ تلفظها الألسن كما تلفظ الطابعةُ الورق، وقد يقيم بعضُهم بالداخل، وقد يتركون ذريةً، أما العائدون فهؤلاء رسل الرَّوَاج والمجاز والفهم وسوء الفهم والتناول الذرائعي؛ هم أبطال الفتوحات الانثربولوجية العائدون ظافرين إلى العالم من منابع نِيل الـ(أنا المُظْلِمة) بالكشوفات الجغرافية والأسطورية والتفاسير، وتحت سراويلهم الجوهرة الفذّة: زمبارة التحليل النفسي الفريدة. ظلمةٌ، إذا هذا يفتحها فذاك يغلقها، مشرِعاً فَمَه المجاني عَرَضاً يلتقم ويرسل من عاهاته المستحدَثة إشارات يا محسنين الكرامة لله.
يقع العالم، تحت وطأة الجوهر الثقافي الطاغية، في إدمان الموعظة، اغتياب الشخص في تجربته، ولا يتخلى أبداً عن المرجع والقاموس، ولا يؤدي خدماته بحماس ما لم يَنْحَشِ على مدار اللحظة بالنكات والنوادر والنفائس والأخبار والتقارير والسلع والعلوم و...، يؤذِّن فيها بالحج من رأس كعبته الزهراء تأتيه رجالاً، وعلى كل ضامر تأتيه، من كل فجٍّ عميق.
يريد العالم توسعة المتجر ما أمكن كي يزداد نطاق اختياراته من ما يرضع، وهو لهذا، لهذا!، يستنجد بالفنان لينهل من عمله ما يعينه على سياسة المتجر، ممسكاً ما دام بين يديه بثديه؛ ثدي الفنان، الذي يبدو عامراً بمحصول وافر من اقتصاد المجازات الذي يَهِبُ الوجودَ رخاءً سياسياً بمحمولات أبدية مطَّاطة تتراوح. وفي أحيان كثيرة يتناول العالم ما يرطنه الفنان غير مبال بنوعية ما يصدر عنه من إشعاع يكون سالباً على الأرجح، (إنه يلمع!)، يهتف المتسوِّق مأخوذاً: (إنه يلمع!)، ويروح يحشو به فمه منتشياً إذ يحلبُ اللمعانُ غُدَدَ المجازات البارَّة بركةً رقراقةً في اللقمة تحت اللسان الفرحان. (طبعاً قد يَنْظُر، ولا يَرَى: رندا محجوب).
لا تطلُب القراءة الذرائعية من المقروء غير ما هو يستعرض، بمبدأ المنطق الإيجابي لآلية العرض والطلب؛ أي ما هو في حدودِ مشروعيَّةٍ متفاهَم عليها شريطة أن تحقِّق النفع للطرفين وفقاً للتسعيرة الوضعية السارية. أما القراءة بمبدأ اللذة، فهي تستدرج المقروء إلى فتح أعمى نطاقاته والتحديق فيها بذات الانفعال البادي على العينين اللتين تطالعانه. القراءة: إيقاظ المادة الغذائية التبادلية العاملة داخل الحقلين. وإذا اضطررنا إلى تعيين وظيفة الفنان؛ فهي وظيفة تؤدَّى مرة واحدة لا غير: أن يخطو منسلخاً عن بابه، أن يوجِد مجرىً بين نطاقين.
ولكن، إذا كان الأثر، بفضل جذرية التوقيع الشخصي للفنان عليه، منيعاً ضد قابلية التغذّي العرَضي والتغذية العرضية، فإن مناعته هذي تتهالك ذاتياً أمام إغراء قابلية أخرى استثنائية، يستوردها الأثر إدراكياً: أسلوب الغلطة. و(مُشَاعٌ في التنفُّس شَطَطُ الحِرَاسة: رندا محجوب). عبوديات وأسفار. طبقات متشاربة من اللحوم والتوصيلات الداخلية والزلقانات والتغاذي وأعمال الرؤيوية البيئية تشعل في الأثر هوس الالتهام، الجوع المرَضيّ، طفْحٌ من العلاقات والترحيلات المتواترة؛ سواءٌ، أعمداً كان تواترها أم بـ(حُكْم العادة)، فهي في المحصلة تغدو نفقاً احتياطياً بابه داخل القصر وبابه الآخر خارج الأسوار، يرقد سطراً ميتاً، ناذراً بقاءه لتهريب عائلة الملك كجزء من مناعة القصر لا مغزى لوجوده غير أمرٍ واحد: (للحَيِّزِ أنثى: محفوظ بشرى)، القصر غير منيع ولا بُدَّ مقتحَم. يوضع أسلوب الغلطة مفارقةً معماريةً لتعزيز مناعة الأثر الفني على أساسٍ من افتراضٍ احتياطي يستبطن اللامناعة. واسطة العَقْد الهشة التي منحت أعظم الكنائس مهابتها، وهي حجر واحد إذا سُحِبَ من مكانه انهار البناء بحاله. ولكي ينام حقل البطيخ في بطن الفنان المنخدع اختياراً في صيف خريفه الإدراكي، فإنه يترك هذا الباب موارباً لينمو عليه عضوٌ استدراكيٌّ نفقاً سرياً للهروب، هو الشرط الضروري الذي بموجبه يأمن الأثر الفني من خطر الزوال مهما كثر عليه الغزاة، كما بموجبه يَسقط قصر الأثر الفني في إمكان التناول واستعصاء التناول، بضمانةٍ من أنه مهما قُلِبت غُرَفُهُ رأساً على عقب فإن شيئاً منه يبقى مغلقاً، وليس بالضرورة داخل إحدى الغرف، شيء مغلق في لا وجوده، في هربه، في نجاته، في ربما لم يكن هناك، ولكن النفق!. هناك سر في هذا النص!، هناك إذاً إغراء بفتحه ونبشه!. السِّرِّية دِينُ إزالة السِّرِّية. إرادة تدمير الغواية. أو كما كتب الفنان محيي الدين بن عربي: (الإشارةُ نداءٌ على رأس البُعْد وبوحٌ بعين العِلَّة).

Thursday, March 3, 2011

الحياة التي... الحياة

صَرَخَ في الحواسِّ الكونيةِ العظيمةِ، وهي منهمكةٌ بدأبٍ في قياسِ أشياءِ العالمِ، تسجِّلُ المقاديرَ والأحجامَ والمساحاتِ والأبعادَ والأزمانَ و...، كلَّ شعورٍ وكلَّ مادةٍ، ما أمْكَنَ قياسُهُ منها دنيوياً وما لم يمكن، تصنِّفه تفاضلياً في مستوياته الهيكليةِ المتغيِّرَةِ ثم تختم عليه.
صَرَخَ في آلهةِ الأشكالِ المستقرةِ للصوتِ، وهي على شرفِ ليلةِ العالمِ الأخيرةِ في حقلِ الغفرانِ، تعكف، في تواطؤٍ فاضحٍ بينَها والطبيعةَ، على أشياءَ فادحةٍ؛ أشياءَ نادرةٍ وفظيعةٍ، تقومُ معها بأعمالٍ، يبدو من ظاهرها، تُؤَدَّى لأغراضٍ احتفاليٍة لا أكثرَ، غير أنَّ الذي لم يَخْفَ عليه، تولِّدُ طاقةً شعوريةً مضادَّةً، غايَتُها تكوينَ ساحلٍ جاذِبيٍّ مقنَّعٍ بالهذرِ والضحكاتِ الفارغةِ، يكبحُ حركةَ الموسيقَى عند قدومها ويصفِّدها بالمادة إلى شروطِها القياسيةِ المتعارَفِ عليها في عالَمِ الشَّهادة.
صَرَخَ في الغافرِ الآليِّ النائمِ يُرْغِي رؤىً، ويُزْبِدُ مِنْ خيالاتٍ وطمثِ عواصفٍ وأزمنةٍ خميرةٍ ما يسيلُ من ركنَي شفتيه شفَّافاً وسميكاً كَمَنِيِّ غريرٍ، وتنحدرُ الفقاقيعُ الصغيرةُ على فَكِّه الناعم؛ فَكِّ الصبيِّ، ثم تنقِّطُ على صدرِهِ الآخذِ عُلُوَّاً وانخفاضاً في تنفُّسٍ رتيبٍ، والعالمُ يتهاوَى مِنْ جهاتِهِ الطفلةِ الممعنةِ ضرباً مغبوناً بالعكاكيزِ والأغصانِ الخضراءِ على عقلِ الهندسةِ الطفل؛ يتهاوى نحو الحقل مُتَّخِذَاً لنفسه مِنْ خِزْيِهِ سلوكَ النادمين ولاهجاً بنجوى التائبين.
صَرَخَ في وجه الحيرة الخالد الطائف حول الزمان مثل روحٍ حيوانيةٍ شقيةٍ طائفةٍ حول قبر حيوانها الْمُعْرِضِ عنها، وجنب الحيرة انتصبَت ليلةٌ عضويةٌ حيَّةٌ ووحيدةٌ، مأخوذةٌ بحالها من صلب الزمانِ وهي بَعْدُ دون الحدوث؛ انتصبَت ممسكةً ببوق هائل له أذرعٌ بلا عددٍ، كالحقيقةِ في قلبِ الواشي، ممتدةٌ منه كالوَصْلات إلى داخل الحياة، تنفخ فيه بصوتٍ لا صوتَ فيه فيهدل الكنـزُ الكلاميُّ المعجمُ في اللحم باعثاً في الخلايا نداءَ الوثيقةِ الصناعيةِ الأولى ليتولَّى خدمُ الحقل الملائكيون بعد ذلك إدارة الطيران.
صرخ في الصِّبْغَةِ الحمضيةِ المنشورةِ داخل نظام الوجود خميرةً أبديةً؛ حقلَ ألغامٍ خالدٍ يتناسخ في السلالات يُرَاسِلُ بَعْضَه باللُّغْزِ وآبارٍ، وينثر أوهاماً وعلوماً ونوافذَ ومغاليقَ تسعى بين أسطر المادةِ لا تعي الرَّمْزَ ولا تَعِي الصَّرَاحَة.
صرخ في القدورِ الواقفةِ يُوْدِعُ فيها النورُ بيضَه الأسودَ، يُقْفِلُها خْلفَه صبيانُه مُحْدِثين عليها من مؤخِّراتهم طلاسمَ موسيقيةً يجلبونها وهي بَعْدُ ثماراً وهميةً من دكاكين سوق الصُّوَرِ الكائنة بجنَّةِ القِدَمِ الخفية؛ يدفعون لقاءَها أشياءَ غاليةَ من حُسْنِهِم وحَدَاثةِ السِّرِّ فيهم، يأتون بها في مواكبَ هازجةٍ فيأكلونها عادةً عند حوافِّ العقل الطبيعيِّ ناظرين بشوق وحسرةٍ إلى مساقط عقلٍ لا يُسَمَّى ولا يُنَالُ بِعَيْنٍ تَرَى المكانَ وتبكي، يُنادون الظلالَ بأسماء أخواتهم فتناديهم كأنهم صَدَقوا، يريقون الطلاسمَ الموسيقيةَ في أحشائهم مع جرعاتٍ من النورِ والسهر والدَّمِ والعمَى، يتأوَّهون كعاشقاتٍ، وسرعان ما تُعادُ كتابة الموسيقى على ألواح أكبادهم بأحبارٍ صوتيةٍ مستعارةٍ من نفخة الصُّورِ فتسري هنيئاً مريئاً تتنـزَّل عبر محوِّلاتهم الهضميةِ الطاهرةِ لتخرج الثمرةُ الواحدةُ منها لحناً معجماً فتنطبع على فُوَّهَةِ القِدْرِ وهي قفلٌ؛ وهي خِتْمٌ، وهي رَصَدٌ، وهي، في الآنِ نفسه وبالأساس، مفتاحٌ يعرفه قَرِينُ القِدْرِ الموافق من أهل الأرض. هذا، قبل أن تُرْسَلَ إلى الزهور التي، وهي تَلِدُ الزمنَ في صباحاتِ الأرض وفي أسحارها، تُوْلَدُ أيضاً لعمرٍ بطول الشهقة يكفل لها أن تستقبل بأذرعها العضليةِ اللاقطةِ ما كُتِبَ لها من إرسال النور الأسود، فتنطوي كحاضنةٍ على ما وَفَدَ إليها من قدورٍ مملوءةِ بالبيض النَّيِّء تغمرها بالحياة والعاطفة، ثم تلفظها على العالمين زمناً متَّقِداً بتوافيق الممكن المجهولة واقترانات الأفلاك. زمنٌ، لَهُ في الأبدان أسْبِلَةٌ؛ وفي الأنفُسِ أنهارٌ، وفي العقول آبارٌ، وفي الأبصار نظامٌ هندسيٌّ يصرِّفُهُ للنَّاهلين. وما من زهرة منها، إلاَّ وفي أحضانها انفجرت شمسٌ سوداء وأفرخت ضحكةَ الْخُلْدِ الساخرة من عالَمٍ حيٍّ تبهجه الرموزُ أكثر مما يبهجه النبضُ في رسغ اليد. وما من زهرة منها، إلاَّ وهي جريمةٌ مجرَّدة؛ وهي نورٌ صارخٌ يتخبَّط بانزعاجٍ وجهلٍ وسط قطيع السعادات المذعور، وهي كلمة معطَّلة يتَّحِدُ الشعورُ بالطغيانِ أُشْنَةَ على ساقيها، وهي تقف مذهولةً حافيةً وترتعش في مياه أزَلِها الباطنيِّ الأخضر، خالدةً تحيض النورَ وتبعث في الأجناسِ عملَ الظواهر المائية.
صرخ في ضمير الغائب الْمُتَّصِلِ الذي يقف على رصيف الخيال مثل سلامٍ باطلٍ يفتعل الغيرةَ والهياجَ فيهجم وهو في رهب وتخاذلٍ متأصِّلٍ في صميمه على حبل الحياة المشفَّرِ بالروحِ ثم يرتدُّ صارخاً مرتعداً يسبُّ ويشكو قبل أن يلمس الحبلَ، وينطوي إلى رُكْنه الرَّكين في مخزن الضواري حبيسة الأنفس؛ مخزن الدهورِ قِطَعِ الغيارِ المجهولةِ، مخزن الضمائرِ الباطلةِ والوحدانياتِ الوثائقيةِ المعطَّلة.
صرخ حَبِيبِي في الحياةِ ذاتها. الحياة التي لم تَعُد لي ولم تَعُد للموسيقى ولم تَعُد للطَّيَرانِ ولم تَعُد للجريمة. الحياة التي شَفَّتْ وخَفَّتْ، حتَّى لم تَكَدْ يدٌ تُدْرِكُ لَحْمَها. الحياة التي ركضت كجِنِّيٍّ فَزِعٍ على تراب العقل اليابسِ واْنحَشَرَت في طبقاتِ الحقل التراكميِّ، ضاعت في المفاتيح الخاطئة. الحياة التي...

Sunday, February 20, 2011

القيامة: حكاية شعبية من جبل اليوم

صرتُ ألقَى «مصرعي» كثيراً هذه الأيام. صحيح أنني تنفَّستُ بإسراف، وبعثرتُ ما لا يُحصَى من الإشارات برهاناً على وجود الحظيرة فيها «حياتي» و«صوابي» و«كتابي» و«أمّنا» يتماطرون. ولكن أصحّ منه؛ أنني نجحتُ على نحو محقَّق في تجنُّب البقاء على قيد «حياتي»، بقدر ما حقَّقْتُ من نجاحٍ في تجنُّب «مصرعي» كلما رأيتُهُ يسير مسرعاً يطنطن شاكياً من حماقات أخيه «حَيَاتي» راكلاً بقدمه النتوءات.
أيامٌ تقطَّرَت وأنا طافح على أسطحها. يوم يتسلّمني من يوم دون أن يشكِّل قيدُ «حياتي» عقبةً أمام انتقالٍ بهذه الصعوبة. أشعر أحياناً بأن الأيام تخدعني بـ«كتابي»، وتنقلني من قيد إلى قيد بألعاب سرعة أعجز عن ملاحظتها بسبب انهماكي في الحَدّ من أضرارٍ أخرى تنال مني عادةً جراء عملية الاقتلاع والزَّرْع اليومية هذه التي يرتجّ لها دماغي ولا يستقرّ إلا عند انتصاف الليل ليبدأ الزلزال من جديد تحت نوم «كتابي».
ثم رأيتُ ذاتَ يومٍ متجراً اسمه «قَيْد الهَامِلة»، لا أعرف حتى الآن على وجه التعيين كيف عمل مفعول هذه الضربة، لكن الرعب الذي أصابني كان في ما يبدو كفيلاً بتفتيت قيد «حياتي» شذراتٍ من نُشَارَة مادّة النّوم اللعَابيّة الشفّافة السائلة من ثغر «كتابي». وبدا لي أنني لمستُ فرعاً من اليوم لم أكن بمدركه إلا لأنه ارتطم بي متجاوزاً حدّ السرعة المنضبطة ذاتياً على مقاسي لتضمن غفلتي كلما تناقلتني الأيام. الأرجح عندي أنِّي لما رأيتُ ـ في حرارة الضربة والرعب ـ رتبةَ «قيد حياتي» من رتبة «قيد الهاملة»، اهتزَّ إيماني بـ«كتابي»، وأمسكتُ بالمثل عن سرعة التصديق التي طالما قابلتُ بها بهلوانيات اليوم وهي تشتِّت انتباهي على نحو ما سبق، أكفُر مرةً بكتابي، وألف مرة أؤمن، وكتابي يؤاخذني تدلُّلاً بالمرة، يدرجني قسراً في «ذهابي»، وكم أتشتَّت.
أمّا أن يطير «صوابي»، هكذا، بلا أي إشعار سابق، فهذا ما على الأيام أن تشمِّرَ عن ساقٍ لتواجهه أكثر من تشميرها لمواجهة بلوى تسكُّعي بلا قيد «حياتي» وتمرُّغي كالحمار الأجرب بين الجبل والقارب. أنا نفسي، منبوذاً إلى كتلة الجدري، لم أكد أتلقّى إشعاراً، إلا أنني توقعتُ الطيران ما إن رأيتُ «صوابي» يتململ في القفص وينقر قانطاً على القضبان ناظراً إليّ بعينين اختمر خلف شاشتيهما «ذهابي». ثم ثبت لي أنه يا مات حيث هو يا طار، يومَ رأيتُهُ يعلو بجناحيه الواهنين ناطحاً السقف برأسه في يأس انتحاريّ أخجلني من استمساكي بالأمل في بقائه. هكذا، طار «صوابي». ونظرتُ فارغاً إلَى كُلِّ إلَى. ولم يخجل أحد.
«كتابي» في عالم المثيل يأكل الثدي. «ذهابي» معتوه بـ«كتابي»، «ذهابي» المكتوف برائحة اللعاب يجهل أين كتلة الجدري. «نفْسي» يتنفس. «حياتي» في الحظيرة يأكل الكتف. «صوابي» الطائر يأكل العين الطائرة. «مصرعي» يُحْدِقُ بي على كل رأس.
بِتُّ كتلتي خالية. أقوم كل صباح بدافع البول لا غير، وحين أخفض ألبستي مُسَوِّياً جسدي بما يلزم لاندفاع البول خارجاً بحساب أن لا يصيبني من رذاذه شيء، يبغتني شعور بأني نائم أبول تحت ثيابي فأُوْشِكُ أن أهُبَّ واقفاً لأعيد إنزال ثياب لا أراها تَحُول بيني وجِلدي عَرَتْها رطوبة طفيفة من بلل البول الذي برَّدَه الهواء.
بعدها لم يعد «مصرعي» قانعاً بالتذمر، فقرر أن يتحرَّش بي. «نلتقي كثيراً هذه الأيام!. لماذا تتبعني إسماعيل؟، ها؟». زأَر في وجهي وهو يَصِرُّ بأضراسه بغبن مجوف ناظراً إليّ بعينين لئيمتين تضمان عشرين ضرساً على الأقل!. أردتُ أن أذكِّره: (لستُ إسماعيل، نسيت؟)، لكن شُلّ لساني من الخوف فوقعَت كلماتي في بطني، وأعجبني «مصرعي». لم أعِ إلا وأنا أندفع إلى حضنه بلا إرادة. وكم جسيمة مهمة إحصاء الأيام على من يُقْحَم في حالٍ مماثلة. ولما عادني الكلب أدركت أني تخلفت عن كل الأيام التي تلت آخر مرة لقيت «مصرعي». وعجزت أيضاً عن الاهتداء إلى كتلة الجدري لما رأيت ذيل «كتابي» ناعماً يتراقص غبطةً من داخل أرض المثيل ويصفع خدِّي برقَّة.
ثم سمعتُ الراوي يحدِّث عن أمرٍ غريب يسمونه «الغَد»، يقولون إنه يحدث في اليوم التالي، ولم أعرف أحزن ولا عرفت أفرح. لأنه لم يكن لـ«حياتي» نفوذ عدا يومه المفرد. نطاق عصبي من الكلب والعين والزمن؛ يطفو قارباً على سطح مياهه اليومية، أجري به من الحافة عبر القعر إلى الحافة الأخرى، ولا ينقلب إلا جبلاً وأنا تحت، قارباً وأنا تحت، أجري بـ«حياتي» في نطاقٍ لعله اليوم التالي تتابعياً، وأنا، في دوام الجري، أظنه يومي المفرد مقلوباً؛ الجبل قارباً، والقارب جبلاً. ولعله محض تََيْوَامِ النطاقِ جبلاً حيناً وقارباً حيناً.
لم أمُتْ مرةً في يوم مجاور لأعرف طعم ما لم يمكن، ولم أعرف من الذي أمكن غير أن أذعن للمكان. ومع ذلك، لم أخطِّط لأن يكون التحديث التتابعي لليوم أياماً، بالغاً ما اشتطَّ جوعي إلى الإفلات من أسفل الجبل القارب، أقل واقعيةً من حضور الموت. لهذا كلب وعين وزمن. كلب وعين وزمن.
ذبحتُ اليوم لقلبي قمراً مراً، كما اشترط الراوي، لتحميل «حياتي»؛ بـ«ذهابي» كاملاً بمنيّ كتابي ولعابه ولمسته ورائحته وصورة عينيه الجميلتين، إلى اليوم التالي. لا أعرف!. كيف استطاعت «حياتان»؛ فرضاً، دعك عن «حيواتٍ كثيرة» سمعتُ أنهن حشدن نفوذاتهن في اليوم التالي، أن تتحمَّلا بعضاً إلى أيام متتالية كثيرة دون أن تخطئ إحداهما فتفرِّع يوماً تالياً غير اليوم الذي تتحمل إليه أختها؟. والحال أنها «حيوات» لا تحصى، مَن لم تنجح في الانهيار إلى الغد المشترك ذاته تبقى صلبةً مطمئنةً تلتهب من طولها المؤلم في اليوم المتروك، ولا تخطئ مرَّة بالذهاب إلى يوم ثالث. أهذا ما حدث لي ونسيته؟، ألهذا «يومي» المفرد المتقلب يملأ مادَّة الجدري، وأنا بالقارب أبتعد؟. لن أندهش إذا كان العجز عن الذهاب بالحياة إلى الغد هو الشيء يسمونه الموت!؛ لأن ما حدث لي تحت الجبل عاديٌّ إذا كان بتأثير الموت.
سألوني: «ماذا حدث؟». «أين كنت؟». «ماذا الأصابك؟». وعجزت عن تبسيط ما حدث لي بالذهاب إلى إنه من سوء الحظ أو المصادفة. أيكون سوء الحظ عندهم أيضاً كأيامهم منظماً متتابعاً بهذه الدقة؟. أتكون المصادفات شخصية إلى هذا الحد؟. لا أظن!، على الأقل، ليس بدون نوع من التعمد السابق يدعمهما ليكونا فاعلين في ما حدث، وهو أمر يتعذر توثيقه في الذهاب، ما داموا جميعهم محتشدين هكذا داخل اليوم. أظنني حين تخلَّفت في «ذلك اليوم» عن الذهاب بـ«حياتي» إلى الغد، لم أكن أقصد «مصرعي»؛ أردت أن أجد الآلات والقوانين الحركية اللازمة لحساب سرعة اليوم المطلق وكتلته ثم تطبيقها على يوم عادي كـ«يوم مصرعي»؛ فالشَّكُّ لم يترك لي منفذاً غير. كنت ميالاً دائماً إلى الركود في الموضع، وحدث أن نسيتُ «حياتي» و«ذهابي» كَمْ مرَّة في مكان واحد طيلة ما لا أدري من أيام متتالية تستقبلني مع الحشد المتحرك دون تحقيق، ثم يظهر الكلب وبين شدقيه «ذهابي» ولجام الدجاجة الميتة. بهذا الميل إلى الارتكان، بدأت التأملَ في وجوب أنْ ليس المكان فحسب، بل والزمن أيضاً، يخلو من التتابعية، ما لم يكن المكان بالمثل، كالذهاب والحياة، يمكن تحميله إلى اليوم التالي، أي ما لم تكن لكل «يوم» نسخة تخصه من «المكان» تعمل مستقَرَّاً له، ويظل اليوم المتروك بنسخته من المكان، بل وبنسخته من الحياة والذهاب. فكَّرت؛ إن الصعوبة العملية التي جعلت من المتعذر الاعتقاد في أن المكان ينتقل، بمقتضى ضرورة استنساخه، تمثل مصدراً كافياً للشك في وجود اليوم التالي. وهو بالطبع شكٌّ، كأيّ شكّ، يحمل تفنيده معه. ولكن الذي حدث هو أن «سرعتي» و«كتلتي» هما اللتان تأوَّهتا هناك من مطر المنيّ على أرض أمّ الكتاب، تحت نوم اليوم المطلق الذي يتقلَّب قارباً جبلاً قارباً جبلاً قارباً جبلاً، وفضَّلتا البقاء يقظانتين تنموان في بطني، تاركتين نفسي لـ«ذهابي» يعلمها امتطاء القارب. هيا أيها اليوم المطلق.

Tuesday, February 8, 2011

حقائب الغائب

الغائب هو الثالث ما لم يحضر، فهو حينئذٍ ثاني اثنين إذ هما في النار. والثالث إنْ حضَر، دائماً، يُحْضِر الجنة. إنه سلالة أية لحظة. أمل الوصال. قيامة التأويل والتمثيل والإلحاق والإسناد. النتيجة المطلقة الكامنة وراء أية عملية. أما في غيابه، فحقائبه تقوم مقامه، وهي ما طاب لهما أن يسمّياه (الحقيقة)، كتيبة صاخبةٌ من الملحقات والتأويلات، أحاطت بصورة الغائب احتياطاً كما تحيط بك الهالة. وحقائب الغائب باقية أبداً تشعّ بآلاء النيابة عنه. على أنه لا يَحْضُر، حين يَحْضُر، حضورَ (الحقيقة) البديلة النافية لما قامت به حقائبه عنه من (الحقيقة)، فالحقيقة والحقائب جزءان من ناظمِ غيابه يزولان في ما يزول بحضوره من مكوِّنات غيابه. فانظر. هَبْ أنك ادَّعيتَ على أحدٍ بأنه (غافل). حينها ينشأ احتمالان لا ثالث لهما، إما أنه (غافل)، وإما أنه (لا غافل). فإذا كان (غافلاً) فهي غفلةٌ مُسنَدة إلى ناظم الغفلة الذي استحضرته أنت بادِّعائك، لا إلى أي ناظمٍ آخر، ولا حتى إلى أي ناظمِ غفلةٍ آخر يستحضره شخص غيرك، وفي هذا تَعْلَق الغفلة بك أكثر مما تَعْلَق به. وإذا كان (لا غافلاً) التحقَت بك الغفلة كاملةً بما أنك استحضرتها، وكنتَ أنت الغافل. لاحظ: لا تصلح المترادفات في أحكام (الحقيقة) أبداً وإلا أبطلت الاحتكام من أساسه ونقضت الدعوى. لذا لا يسعك في هذا المقام أن تلوذ بـ(منتبه) مثلاًَ، مرادفاً لـ(لا غافل) في مقابل غافل. فهذه تنتمي إلى ناظم الانتباه، وفيه يقع اللاانتباه. إذاً، تُمَغْنِطُك الغفلة إنْ صدقتَ في ما ادَّعيتَ على أحدٍ من أنه غافل، وتَصْدُقُ الغفلة عليك إن كنتَ مخطئاً. لذا يَحْضُر الغائب، حين يَحْضُر، ناظماً آخر، لا يقع فيه أيٌّ من ما وقع في ناظم غيابه، مثل حقائبه والحقيقة. وإن استعاذ الاثنان من بعد حضوره بأيّ من نعوت غيابه وملحقاته احتسباه غائباً وغابا إذاً عن حضوره. وبقيا في النار.

Sunday, February 6, 2011

فَلَكٌ لِقَمَرِ الجَسد

كنتُ بالقربِ من دمعةِ السودانِ، أسترِقُ الحضورَ والعاطفة، أرفعُ عن طَمَعي بعضَ الكلام...

رأيتُ فأرةَ الدَّمعةِ تجري على الأوراقِ الأزهارِ، تلتفُّ بحنكةٍ حول البذورِ؛ الغريبة الكلماتِ، الغريبة الفاكهةِ، الغريبة الأجداثِ، وعيني عليها. ولحظةَ أوشَكَتْ تنحشر في جُحْرِ الاستجابة، ركلَت بساقها عفواً بذرةَ مفتاحٍ تدحرجَتْ، ورأيت. رأيت. وَقَفَ المستقبلُ يرتعد وادَّارَى خلفَ بذرةِ المفتاحِ، اْنكشفَ خباؤهُ، ضامَّاً كفَّيْهِ إلى صدرهِ كمسيحيٍّ يصلِّي، عارياً إلاّ من إزارٍ صغيرٍ ملتفٍّ حول جذعه. يرمقُ فأرةَ الدمعةِ في ضراعةِ المستعيذِ، وهي؛ مشدوهةً، على مسافةِ لمسةٍ من الجُحرِ، إليه تحدِّق. لم أجِدْنِي بشَرَاً هناك. (؛). عقلي وحيداً وجسدي وراء الباب. تشنَّجَ عقلي صريعاً في عينِ الطبيعةِ ما لقيتُ بِطَرَفِِِي عيناً باكية. بِالعَيْنِ الوحيدةِ التي كانت معي هناك؛ عينِ صبيٍّ جِنِّيٍّ من إحدى مدنِ الفردوسِ عالقٍ أبداً في سلاسل السنِّ الإلهيَّةِ، نظرتُ إلى عقلي العصفور، وعقلي ليس عقلي؛ هو العقلُ خالصاً مجرَّداً كشخصيَّةٍ كارتونيَّة؛ بل دودةٌ، فضحكْتُ... كالجَّاهلِ وَزْنَ المقام. أخَذَ العقلُ يرفسُ القشَّ بساقَيْهِ كمشرفٍ على الموت، هَمَد. طرح من سُرَّتِهِ أجِنَّةً مشقَّقةً من الطينِ المحروقِ اْنزلَقَتْ كالبَيْضِ، لم أعُد هناك. لم أعد هناك بشكلٍ مهين. طارَ عقلي الضِّفْدَعُ اْنزلقَ عبر فجوةِ المفتاحِ ملتحماً بجسدٍ هبَّ بحيوان النهايةِ يشدو كالجميل...
مبعوثاً، (من صورةٍ في الخلودِ إلى صورةٍ في الطَّيَران)، المستقبَلُ، (صبيُّ رَبَّاتِ الحاضرِ الدَّائخاتِ داخلَ الآبارِ الشَّاشاتِ الكبيرةِ المنصوبةِ في ترابِ الخيط. مثل محرِّكِ الدُّمَى، مِنْ تَحْت، يتقاذَفنَ عبر بدَنِهِ الطَّاهرِ بالجداولِ القُوَى قناطيرِ الجِّراحِ الثَّقيلةِ)، ينظرُ خائفاً إلى فأرةِ الدَّمعةِ التي، لستُ أدري كيفَ كيفَ، تنصَّلَت من دَوْرِها في الحاصلِ، اْفتعلَت بصُلْبِها حركةً طريفةً كأنَّها تسوقُ أعذاراً: لي، لستُ عاذرَهَا؛ للمستقبلِ المُحْدِثِ في جَمَالِه ذعراً، ما ظننتُه العَاذِرَهَا؛ للغاباتِ، كيف عَذَرَتْها، لِدَهشتي، وجُحْرِ الاستجابةِ الذي، بالطبعِ، لم يُبَالِ، فَعَصَفَتْ بنا كُلّنا، بَعثرَت أهدافَنا. خَرَجَتْ من الحكايةِ مثلما دخَلَتْها؛ عاصفةً، واْنْقَطَعَتْ في عينِ السودان الباسمة. لن يصدِّقَ المُمْكِنُ كيف أعَادَها المستَقْبَلُ؛ هل يُصَدِّقَ ماذا فَعَلَ بي!، أنا لم أُصَدِّق!. أذكرُ كَمْ كانَ خائفاً مختبئاً وراء بذرةِ المفتاح مُحْدِثَاً في جَمَالِهِ وسروالِه... لا أصَدِّق!...
بنظرةِ صعلوكٍ لئيمٍ رَمَقَنِي المستقبَلُ، خاطبَني بِلِسانِ الأعضاءِ المخيفة: (واااك!!)، يختبرُ قلبي، فأجفَلْتُ طبعاً بردَّةِ فعلٍ طبيعيَّةٍ يأتيها أيُّ واحدٍ حيالَ البَغْتَة. أقول: لازِمْ كانَ مُحْرَجَاً أنْ شَهِدْتُ خيبتَه؛ ولازِمْ كنتُ مُحْرَجَاً أنْ ذلك أيضاً، وإلاَّ ما وَجَدْتُنِي مُلْقَىً على قَفَايَ في مكانٍ آخَرَ ما إنْ أجْفَلْتُ؛ مكانٍ لا أعرِفُه. حُفْرَةٌ في الطَّيَران. شكلٌ هندسيٌّ ظِلِّيُّ الأبعادِ على صفحةِ كرَّاسة. لا هو بالقاهرة لا هو بالخرطوم لا هو بالأرض حتماً؛ ليس بالقرب من دمعةِ السودانِ على أيَّةِ حال، هذا عن يقين!. هل دارَ في بالِك أنَّهُ القَمَر؟، أنا أيضاً!، لكنَّه ليس قمرَ الأرض بالتَّأكيد!. قلتُ إنَّهُ قَمَرُ الدَّمعةِ ربَّما، أو هو قمرُ الهاجس، أو حتَّى، قمرُ الرَّسَّامينَ أو قَمَرُ الوِلادة!. هذا غير مستبعَد. أعرف أنَّ الممكنَ يستبعد قمرَ الدَّمعة، لكنَّه كالعادةِ، ممكن. فما إن اْعتَدَلْتُ على طولي حتى تلقَّيتُ في وجهي لطمةً، وحفنةٌ من نهاراتٍ كونيَّةٍ ثقيلةٍ ملأتْ قلبي بمذاقِ التُّرابِ، اْتَّسَعَتْ عينايَ، أفْعَمَتْ أنفي رائحةٌ أليفة.
رأيتُ فأرةَ الدَّمعةِ تجري على الأوراقِ الأزهار، تلتفُّ بحنكةٍ حول البذورِ؛ الغريبةِ الكلماتِ، الغريبة الفاكهةِ، الغريبة الأجداثِ، وعيني عليها!. ولحظةَ أوشكَتْ تنحشرَ في جُحْرِ الاستجابةِ اْمْتَدَّت ساقٌ طويلةٌ من خلف إحدى بذورِ المفاتيحِ الكثيرةِ المرميَّةِ عفواً وعَرْقَلَت رجليها، تدحرجَتْ فأرةُ الدَّمعةِ صارخةً. ورأيت. بَرَزَ المستقبلُ من وراء البذرةِ عارياً سَمَكَةْ، يشدَّ بقبضتِهِ على سلسلةٍ تنتهي بحزامٍ يطوِّقُ عنقَ المفتاحِِ الذي طفق يعوي في هياجٍ ووحشيَّةٍ ينازع قبضةَ المستقبل على السلسلةِ التي ما لبثت فاْرْتَخَتْ، فاْنْقَضَّ المفتاحُ مجنوناً على فأرةِ الدمعةِ اْقترَفَ المعلوم. أخَذَت فأرةُ الدَّمعةِ ترفسُ القشَّ بساقيها للحظةٍ قبل أن تهمدَ طارحةً من سرَّتِها أجِنَّةَ طَيْرٍ مشقَّقَةً من الطينِ المحروقِ اْنزلقَتْ على القشِّ، ولم أعُدْ هناك. لم أعد هناك بشكلٍ ما. أعادَتْني إلى الدَّارِ مُهْرَةُ اللاَّنهايةِ المعراجيَّةِ المُجَنَّحَة. سأذهبُ أُطْْعِمُهَا شيئاً من الماءِ بالطَّواسينِ المؤدَّبَة.

Tuesday, January 25, 2011

الطاهي بلا مريلة

عارجاً إلى الكهف
رأى الكافرُ الربَّ ينكح الأرض في الأفواه
والناس يعوون منتشين
يغمى عليهم.

أخرج كفره بحرص
أزال عنه طيات المنديل مرتجفاً فدسّه في فمه
ومشى
بابتسامةٍ ظافرة تلعب في لحمها الأربطة الفيروسية الحية تبرز منها قواطع لينة يقلبها الكفر في ريح النماء المزدوجة.

Sunday, December 26, 2010

ما الذي أيقظ الحيثانور؟

(يا للجدار المقوّس فوق المياه). صرخ (نَكتُب) منشباً أظافره على ردف (إسماعيل). كأنْ لم يع الغاية العملية الآثمة من بناء الكوبري بين وهمَي المدينتين. كأنْ لم يعد قادراً حتى على أن يعي آلية الترائي ذاتها، إذ بدت له إغراقاً في السلوك الشعري تتعفَّن الأسرار بين ردفيه عليهما أكاليل الإلهام والمعرفة. ولم تَرُق له خطيئة التمثيل. ومستعيداً ملمس الكتاب الفأس نام بالأمس حوصلةً من القيح في مهبل الوالد، ثم ها هو ينبت بين أصابعه من جلد (إسماعيل) متكسراً تكسُّر البيض الكثير تلده الدجاجة الميتة معتليةً شجر البرنامج الأسود، تهالَك (نكتب) المبهور ناهشاً كتف الكتاب. ومدن السرداب ترقص في الركاكة حيكَت بينها حيَط سرابية تتلوى فهوداً في سماء السرداب، يصرخ عاضاً ذارع (إسماعيل): (حبيبي، يا للجدار المقوس فوق المياه)، وكأنه استبطن الصرخة: (يا للفسوق)، لأن كتابي المتألق عارياً مستدبراً الطرابيز السريعة وهي تعبر الكوبري، وَثَب على الحاجز الصخري القصير، ثم انزلق نحو الزبد المتلاطم بالأسفل تثيره ارتدادات المياه على الركائز العمودية. لكن صرخة الإنسان من على الطربيزة السريعة هزّت الباب، وانهمرت شظايا الصورة ليلةً لا تنضج مكتنزةً بالنموّ على الفرع، وشجر البرنامج الأسود يتأرجح جامداً بين الساحلين. ولما كانت صرخة الإنسان من على الطربيزة السريعة كافيةً لأن يرتج أفق الخرطوم كمن أصيب بسعال، وأن تخرج منه الرقاع الملونة هذه تلتحم على تجاويف الكتاب وهو يسقط، فإن الصرخة (إسماعيل!)، ذاتها التي واكبت صرخة (نكتب)، كانت كافية أيضاً لأن يدرك ركاب الطرابيز أنه مقضيٌّ عليهم في بطني بركوب الكتب. وأنّ عملاً سودانياً بازغاً في كهوف الدُّوْرْسِيد يُملي على كائنات البطن جميعاً أن يوقفوا حيواتهم على ذلك؛ أن يغزلوا البسائط والمركَّبات في روح المكان النائم، أن يزرعوا الموسيقى في بساتين البطن، وكانت تشي ببيض الثعابين تدهسه أقدام ضخمة مجهولة، فيسيل الزلال والمح على الحائط الوهمي الراقد هناك فوق المياه ورقاً وأقمشةً وقوارب في الجهة الأخرى تعبر البطن من الشرق إلى الغرب. و(نكتب) ينظر ذاهلاً إلى امراُة في ثياب سوداء على الساحل، حيث منازل العصفور الكثير، ترفع ظافرةً ذراع البرنامج الأسود المقطوعة. ورأسه الطافية المفتوحة العينين تخترط المياه وراء القوارب كالبجعة.

Sunday, December 12, 2010

في الرِّقاب

وها أنا في الرِّقَاب، لا أتعلَّمُ، مطلقاً!. المستحيلُ الذي سَلَخْتُهُ عن أحد مقاعد السَّيَّارةِ البلجيكيَّة، لم يَقْوَ على الالتصاقِ بمعصمي، فَلَعَقَ دَقَّاتِ السَّاعةِ وليلَ أظافري وهرب. لا أتعلَّم، مطلقاً!. المستحيلُ الذي ترك أعوامي بلا فصول؛ بلا شَعر؛ بلا أعضاء، عَلَّمَ ثيابي أن تتذكَّرَ، تخافَ وتخجل؛ أن تتركني بلا معنى، وتُرَافِقَ الأسماكَ إلى المراحيضِ والنَّوم؛ أن تتمايلَ بتثاقلٍ، وهي الفارغةُ، في مَمَرِّ السيَّارة البلجيكيَّةِ المتكدِّسةِ بأجسادِ مجنَّدي كتائب الاسكندر الأكبر. لا أتعلَّم، مطلقاً!. لأنْ... ما الخوف!. لِمَن أشكو عشائيَ الذي صارَ ريشاً سَرْدِيَّاً وأصوات غَنَم؟. لَسْتُ حزيناً، لأنْ... ما النسيانُ سوى وكيلِ الحشراتِ فيَّ والقائمِ بأعمالِ الشَّجَرِ في دولةِ جسدي. لا أتعلَّم، مطلقاً!. لكنَّهم علَّقوني على مسامير. علَّقوني على المساميرِ التي ما اْخْضَرَّت في حقولِ الكوتشينة. أنا عَلَفُ الأباريقِ الجائعة. لم أخبرْهم عن جوعِ الشَّايِ وموتِ أولادِهِ داخلَ الأباريقِ متأثِّرينَ بالقِرْيَافِ الأبديِّ لضيوفِ البواخرِ النيليَّةِ الأتراك. لا أتعلَّم. وأنا الجائعُ، وهو دأبي، أهرُبُ ومنقاري مطبق. جائعٌ أكثر من أن تَسْتَبْقِيَنِي ضيافةُ الصَّباح؛ جائعٌ مثلَ ثيابي؛ جائعٌ مثلَ تَرْكِي بقايا السَّنَوَاتِ وعظامَ النُّجومِ على طاولةِ مطعم «عيون الكلاب» بـ«بطني». أبِيتُ داخلَ ساعاتِ الميِّتين، قربَ أحد مخازن الميناء، عسى تأتي سفنٌ غيرُ منتظرةٍ تَقِلّني إلى جزيرةِ الزَّمَن. قد اللَّيْلَ آكُلُ؛ قد علفَ الأحلامِ وهو يغادرُ الجِّيَادَ العائدةَ إلى قلوبِ النائمين؛ قد يأسي؛ قد هناك. فلا الشَّايُ جَرَحَني، ولا شَرِبْتُ العَرَبات؛ لكنَّه القَصْدُ المشقوقُ، وتَمَامُ التَّسَتُّرِ على كِسْوَةِ العيد، والتَّدَلِّي من عناقٍ ناقصٍ خيفةَ السُّقوطِ في الأعلى تحت جبلِ الصَّوت، وارتجالُ العَجْزِ عن تناول اللَّيلِ بأصابعَ مبلولة. فكيف؟، والمناقيرُ المقصوصةُ يَاهَا!، وفي أيِّ خوفٍ نظيفٍ أَبِلُّ هذا الخبزَ الْمُعَظَّمَ، غيرَ متأمِّلٍ في عفافِ صمتي وشَفَاعةِ الجُّوعِ لي؟. لا أتعلَّم، لأنْ... ما أنا!. لستُ مَن شَخَرَت الأبوابُ والصباحاتُ مِلْءَ قميصِه؛ مِلْءَ قميصي ترابٌ وعظامٌ وتهاويل، وثيابي تشبه النسيان. لا أتعلَّم، لأنْ... ما إن أهُمَّ بمحاكاةِ أصواتِ البَحَّارةِ الْمَكْوِيِّـينَ بحرصٍ على طرابيز العاطفة، حتى يتوجَّع لساني كدجاجةٍ حَامِلٍ وتَسقطُ منه غُرْبَةٌ كبيرةٌ تصيحُ بلا شفاه. فإن حَدَثَ وتذوَّقْتُ امرأةً ملفوفةً بالكتَّان من الزّجاجةِ رأساً دون أن أصبَّها على القدح، خَفَّت الأشجارُ مذعورةً من مَدْرَسَتِها البعيدةِ في قلبي إلى مستنقعات عيوني، فلست بمستطيعٍ مَشْيَاً بَعْدُ من شدَّةِ اشتباكِ أفكارِ الحيتانِ بأصابعِ قَدَمَيّ. لا أتعلَّم، مطلقاً!. لأنْ... ما أنا!. لستُ الحضور. لستُ الغياب. لستُ الوعد. الصورةُ منزلي، والأبوابَ أفترس. فما شكلُ الخوف؟. صباحٌ ثقيلٌ داخلَ السَّلَّة؟، أم طماطم لُغَوِيَّةٌ تشبه النسيان؟. ما النّسيان؟. لا أتعلَّم!. إنَّ الصَّلَفَ الظَّنُونَ الذي يبتعدُ عن يَدِي على مَهْلِهِ، ويتأرجحُ هناك، بين اْلْتِذَاذِ نَقَّارِ الخشبِ وروحِ النشيجِ الملفوفِ بعنادي، يَشفُّ بسرعة، ويلتمع عند حدودِ انحسارِ الطاقةِ الشخصيَّةِ التي أوْدَعْتُها في ألْيَافِهِ لتمثَّلَ وجهي ومجتمعي الخاص. ولو الهديلُ يتعفَّنُ بالذِّكْرَى محشورةً خرساءَ في موقفِ بكتيريا التحلُّل!؛ لو الطيرُ تَمَّحِقُ في صلاةِ السُّهوبِ على آلهةٍ جبليِّين صاروا أساور وأقراطاً!؛ لو الخفاءُ يأخذُ العالَمَ وتذهبُ الأُمَّهَاتُ إلى معتقَلِ جهنم الكبيرِ بحثاً عن أبناءٍ أطاعوا الألَمَ والمستحيل!؛ لو...

Friday, December 3, 2010

من مسبَّعات الرأس

             من أعمال عمر خيري/جورج إدوارد    
سمعتُ النحنحات في أصقاعي الوحشية، يا تحت وطأة الصورة، يا تحت موسيقى تقلّبني بين المقامات من اللبلاب إلى القمح إلى الزهرة فالخشب المنخور فالدهاسير فالسمسم فالليمون. وفي كمال أحوالي بين أيديهم، تنحنحوا. ضيوف عائليون ظلوا يطلبون القهوة لا يكتفون، ومسحوق البن في الصورة ينحسر. أشعلتُ سيجارتي من عين أحدهم واستأذنت الدخول إلى المطبخ.
أردتُ أن أرى أمي، كسرتُ بيضة الحمامة التي انزلقَت على زُهُوّ روحي ذات صباحٍ ماطرٍ قديم في سوبا. رأيتُ روحها ترتعش على سطح كرة المحّ الصفراء ذات القوام المتماسك اللزج. دنوتُ بأصبعي رفقاً فوثبَت عليه ضحكةٌ لم أطق حرارتها فنفضت يدي فزعاً وصرخت. ومع انحرافة جسدي المباغتة، والتفاتتي المُشيحة المتألِّمة، رأيت رؤوس الضيوف تملأ باب المطبخ، وفي عيونهم ليس السخرية، ليس الشر، ليس الخيانة، ليس الذهاب، بل المزيد من الإقامة والاسترحاب. كبيرهم الذي يبدو كشيخ الحارة ناداني بإشارة راعشة من سبابته النحيلة، تحركتُ من وثبتي الصخرية فارغاً أتدانى. استداروا واجمين أمامي عَوْداً إلى الديوان. جلسوا على المقاعد تاركين لي مصلاية الجلد أقرفص كالعادة. أدار أحدهم مفتاح الراديو، وحرَّك مؤشِّر الموجات ناظراً إلى السقف كمن يستشعر مجال الأبدية الصوتيّ بين الترددات المترحّلة علوا وانخفاضاً عبر كثباني، ثم مال بوجهه جانباً مضيِّقاً عينيه اللتين ما لبثتا فأشرقتا بغموض، وطفح هواء الديوان بسوتيانات كثيرةٍ خرجت من سماعة الصوت. احتوى ذو العين الواحدة أذنيه بكفيه وشدَّهما متشنجاً، ثم هبّ مرتعداً وانتزع موصّل الراديو بالدائرة الكهربية. ضحك الآخرون برجولةٍ وتمزُّقٍ، ثم عكفوا يرتدون السوتيانات مبتسمين كأسرى غلبتهم النداءات فهجروا الصبر وصُوَر النجوم والنجمات وهم يرْنون إليّ في مصلاية الجلد بالعيون الحسناء المخيَّشة. غاب ذو العين الواحدة وعاد من المطبخ رافعاً براحته اليمين كرة المحّ ترتجّ وعلى سطحها روح أمّي وهاجس الانتحار. وما إن رآه الضيوف العامرو الصدور حتى ارتدّوا برعبٍ صارخين، رافعين راحاتهم بتهديد، لكنه أطاح بكرة المحّ نحوي فتحطَّمَت على وجهي، ورأيت أنه استعاض بذلك عن رغبة مضطرمةٍ في حكّ فم العماء بالليفة يغسله غاضباً من رنين المدارات المنويّ الذي أُريق عليه كما أريق المحّ على وجهي. أطربني التناظر لوهلةٍ حين أوشك أن يصيح لماذا. وبدت المقاعد فارغةً، وهواء الديوان. وبدا الضيوف صوراً كثيرةً معلقةً على الجدران في براويز الموسيقى، تبكي كلها. وأنا، بأكياس التمباك المكرمشة، أتلقّى دموعاً مجوّفةً كنوازع الطيور، وأطويها تحت نور الضحكات الطليقة في حقلي. وذو العين الواحدة يجثو على زاوية الديوان، ممسكاً بقدمَي أمي النابعتين موسيقى، وهي تقرع على رأسه بعكازها دون أن يدعها أحدهم تدخل.

Tuesday, November 30, 2010

هذا النوع من التشجُّرات

ريجيس دوبريه: (تخشى أن تموت لأنك تخشى أن تعيش. وما إن تستأنف السير بعد المرحلة (المغامرة كما يقولون) حتى ليكفّ فناؤك عن أن يبدو لك أسوَد، ليبدو تكملةً للحياة. إن الموت ليس بعدُ موتَك، بل هو مخاطرةٌ جميلة تُخاض، أبديةٌ لا مبالِيَة. إنّك تطبّق مجدداً قاعدة اللعبة؛ فرحةَ أن تلعب بهذه المخاطرة المرعبة الباطلة؛ مخاطرة إمكان الخسارة التي بدونها ليس ثمة ما يُربح قط. هنالك تقليد، وأرومة، وحقلٌ خصب لهذا النوع من التشجُّرات، نزعةٌ وغريزة).
كارل ياسبرز: (ينوء منساقاً إلى الأعماق ببحثٍ يزداد انغلاقه على الآخرين، تهديه صيغ وحقائق لا بدّ لها برغم ذلك من الوقوف أمام عتبة الأشياء الأخيرة).
سيزار فاييخو: (نجومٌ سِمانٌ منتفخات من كثرة الليل)
فرانز كافكا: (إنها التماسيح التي أشعلَت بِبَوْلِها الأشجار).
جيل دولوز: (ثم، أليسَ من المحتمل أن يصبح المرء حيواناً أو نباتاً عن طريق الأدب؟).
جنكيز خان: (ينبغي هدم جميع المدن، بحيث يصبح العالم بأسره سهباً شاسعاً تُرضِع فيه الأمهات أطفالاً أحراراً وسعداء)؟
فاسكو بوبا:
              (يغلق المرء عيناً، ويجمع نفسه
     ثم يقفز عالياً عالياً عالياً إلى قمّة نفسه.
     ثم يهبط بثقل وزنه.
     يظل يهبط أياماً عميقاً عميقاً عميقاً إلى قرارة هاويته.
     ومن لم يتهشَّم فتاتاً
     من ظلّ مكتملاً ونهض مكتملاً،
     يلعب.
     البعض ليالٍ، والآخرون نجوم.
     كلٌّ يوقد نجمته ويرقص رقصةً سوداء حولها حتى تنطفئ النجمة.
     ثم تنشطر الليالي
     البعض يصير نجوماً
     والآخر يظل ليالي.
     وثانيةً،... يوقد كل ليلٍ نجمته،
     ويرقص رقصةً سوداء حولها حتى تنطفئ النجمة.
     الليل الأخير يمسي نجمةً وليلاً معاً
     إنه يوقد نفسه، ويرقص رقصته السوداء حول نفسه.

Tuesday, November 23, 2010

الأخوَّة المدنَّسة للتماسيح المبتسمة


في يوميَّاتِهِ لِصَّاً، كَتَبَ طبيبي «جان جينيه Jean‑Genet»:

(... وأقْصَى مكانٍ يقودُني إليه لومُ الآخرين، هو في رأيِيَ المكانُ المثالِيُّ للأنقياء، بمعنى إنَّه المكانُ الأكثرُ توافُقاً واْضطراباً وهياماً للاحتفالِ بأكثرِ الأعراسِ العظيمةِ فجوراً. وحين تنتابني الرغبةُ للشَّدْوِ بكُلِّ ذلك، أستعينُ بما يقدِّمني بأروعِ أشكالِ الحساسيَّةِ طبيعيَّةً وفتنةً، التي يثيرها زيُّ المساجينِ الغريب. فنسيجُ المادَّةِ نفسُهُ، يستدعي، بِلَوْنِهِ، وخشونَتِهِ أيضاً، أشكالَ زهورٍ مُزَغَّبَةِ البِتِلاَّتِ بلطفٍ، تفاصيلُها تكفي لربطِ فكرةِ القُوَّةِ والعارِ مع أكثرِ الأشياءِ الطبيعيَّةِ هشاشةً وقيمة. هذا التَّداعي، الذي يكشفُ لي بعضَ نفْسِي، لا يستطيعُ عقلي أن يتجنَّبَه، ولا يوحِي بنفسِهِ لعقلٍ آخَر.،....، أريدُ أن أختلِطَ مع هذه المخلوقاتِ المسحوقةِ، المُلْقَاةِ على بطنِها دائماً. ولو يمنحني التَّناسُخُ مكاناً آخَرَ للسّكنَى، لاْخترتُ ذلك الكوكب المجهول، أسكنه مع المُدَانين أمثالي، وسط زواحف متخفَّيَة، باحثاً عن حقيقةٍ أبديَّةٍ بائسة.،...، سينكرني النَّومُ، لكنِّي سأعرفُ بصفاءٍ متزايدٍ الأخُوَّةَ المُدَنَّسَةَ للتماسيحِ المبتسمة).

Sunday, November 14, 2010

حين ينعتك أحدُهم حماراً

حين ينعتك أحدُهم حماراً، ستختار أن تحدِّثنا عن بداية العالم التي أكلت نفسها كما فعلت نهاية العالم. ولن يكون هذا أقل سخفاً من طرشقة لبانة. ولن يمنع الإنسان من محاولاته الملحّة لبداية العالم كل لحظة، إثباتاً لوجوده. وهذا بالذات ما سيكون برهاناً أكيداً على أن العالم لم ولا ولن يبدأ أبداً، فكيف ينتهي. على الأقل سنعرف أن هذه السلسلة التاريخية الطويلة المتناسلة ليست هي العالم، وإنما (الرّوح)، التي كانت دليلاً محضاً على وجود الإنسان، أسبغته علينا إشراقة الإدراك تعزيةً من نجوم الألم تنمو بلورياً في الأدمغة، هي العالم. واقيات ذكرية صفراء سابحة في خواء الـ(لا) تنبسط وتنطوي وتقلّب نفسها بلا توقف فتصير البطن ظهراً والظهر بطناً، في وتيرة لا تكلّ، عبر فمها المطويّ في حلقةٍ تتثنّى. ثم لما استأصل الملتصقان (الروح) غدا كل ما حدث بعد ذلك بحثاً عنها تارةً، وتفنيداً لها تارةً أخرى. وهو ما سُمي العالم. كأنّ أحداً لا يعرف أن العالم يبدأ بالفعل في بطن أية لحظة ويحدث وينتهي. هكذا. وأن اللحظات لا تتالى، كما رأيتم. وعندما يحدث العالم في بطن لحظة كهذي، يحدث أيضاً في بطن اللحظة التي تزحف إلى جانبها على رأس هذا الحديث الذي ابتعد كثيراً كما ترون عن المستقبل، وها هو يرغب في البكاء. التاريخ يؤلم بطنَه. وكلما أخبرَته آلة الأسلوب بأن المستقبل يؤلم أشدّ، رغب في البكاء أشدّ مما بكى عندما أخبروه بأن عربات السمك انقلبت كلها قبل ناصية السوق، وعرف الحمار أن المستقبل يرقد الآن في بطن بداية العالم.

الذرائعيّ

... لكن الوسيلة ليست الطريق، ليست الذريعة، بل هي الغاية. هي آلة لتنفيذ الذريعة وإقرارها وإدامتها. أي أن عزَّة الغاية لا تنبع من كونها قد تمحو أضرار الوسيلة التي اتُّبِعَت لتحصيلها، بل إن عزة الغاية تنبع من كونها قائمة في موضع سابق على اتِّباع الوسيلة واتخاذها مجرىً للذريعة. أسبقية زمانية ومكانية وهدفية. فالذرائعي هو طالب الوسيلة، والوسيلة هي كل ما يريد أن يجد. الغاية مستحصل عليها أساساً ومستملَكة، وهي الأمل في إيجاد الوسيلة الصالحة للاتباع، للتذرُّع بِـ. ألِيتوسلها مؤدَّىً أو صلةً أو منهاجاً لأي شيء؟، كلا!، لا يطلب الذرائعي مؤدّىً ولا نتيجة ولا خاتمة، لا يطلب عزاء ولا غفراناً ولا تبريراً من (لاإنسانية) الوسيلة، إنه يريد الاستمرار، والاستمرار مشروط باتِّباع الوسيلة. لا يطلب الذرائعي عبرةً لأنه لا خواتيم لمجريات الذريعة، فـ(الغاية) وُضِعَت أساساً في المحطَّة قبل الانطلاق. الغاية أن لا تنقطع الذريعة، أن يتصل الجريان. الوسيلة هي الغاية وهي الهدف، والغاية ليست الهدف. الوسيلة هي استعمال الغاية من أجل دوام الذريعة. وهل مِن إلا ذرائعيين سُوداً يشْدُون بمجد الوسيلة؟.

Thursday, November 11, 2010

رطانة الشظايا

أيامٌ مُعَادَة؛ مُعَادِيَة؟.
وأشياء تُشْبِهُ الموتَ، لولا أنَّ بها شيمةً من حنينٍ وظلاً من ابتسام.
لعلها هو.
وهل بدا الموتُ أبداً غيرَ مألوفٍ حميم؟.
وإنَّكَ لَتَظْلَعُ في الجَّادَّات الجَاحِدةِ، التي تتوزَّعُ على براريِّها الذاكرةُ، فاقعةً وناريَّةَ المحيَّا، حتى لتراك البوَّاباتُ الكريمةُ في الطَّشَاشِ والمدنِ البيضاءِ يتيماً ومُزَاحَاً إلى صقيع الهوان والنَّسْي، والعينُ منك يترقرقُ فيها السأم والأسف واللاسؤال. وكَمَنْ يتظاهر بتذكُّرِ مالم يَحِرْ له إنكاراً، تخوضُ في استدراكاتك حيال الآخر، مُنْجَرَّاً مع قطيعك الطاعن في القناعة، ذهبُكَ الصغيرُ؛ إرخاء ما يمكن من اللِّجامات من أجل استعادةِ التثبيتات الْمُتْحَفِيَّة في التصوُّر، بالعَرَمِ ذاته الذي يأخذك إلى سريرٍ ما. لا... لم تفهم الحبَّ، إنما تُسَمِّي خَجَلَكْ؛ تسمي نزوعَكَ إلى القرب من مفقودٍ لا تدريه، تسمي ما يهينك في الكيان؛ حباً، وتَدَّرِئ بما لم تختبر له هذياناً ولا نكتةً. لا.. لم تكن لغةُ الجسد؛ طقسُهُ؛ اقتصادُه وفضاؤُه، مما تعتني به يوماً. كنتَ تعني مجازاً حين تحكي مغامرةً جنسيةً؛ تعني تفوُّقَكَ، كما يحكي غازٍ كيف خرَّب المدينة. كنتَ... لا، لم تُعْشِبْ فيك رغبةٌ، وما ـ حين الموتِ حتَّى ـ أزهَرَتْ في قلبكَ نِيَّةٌ ذات حياة. أما أتاك أن كل هذا المعنى الحاصل الذي تسميه (الإنسان) كان دائماً التَّبعة الميكانيكية لعمل لحظةِ الجنس، التي ما كانت لتستدعي حفظ النسل الإنساني بأية حالٍ لدى وقوعها، بقدر ما كانت نُشْدَانَاً لفراغٍ ثمينٍ من جهةٍ ومَلاَءٍ بخسٍ من الأخرى؛ تخلُّصاً من عَرَمٍ، بالأحرى، إلغاءاً لكلِّ آخر يتعدى عضوَي العمل الجنسي في الجسدين مقتسمَي اللحظة، وإن أُرهقَ الفعلُ باستعاراتٍ أخلاقيةٍ ثقيلةٍ، فكلَّفت العائلةُ الحياةَ كثيراً، وكلفت مركزيةُ الإنسان المعرفةَ ما لا يقاس. فبين قوسَي الولادة والموت، يتلوَّى الكائنُ، ولا يكفُّ يحاكي الموتَ بالنومِ، ويدخل في صيرورات الحلم المُخْتَلَقَة المحفوفة بالشوق والسؤال. إذ لا يستمدّ الموت ثِيمِيَّـتَه الكاسحة من كونهِ حتماً، ولا من كونه يجزِّئُ الوجودَ إلى (كينونةٍ حياً) و(صيرورةٍ ميتاً) بحدِّه القاطع، ولا حتَّى لأنه السؤال الأشدّ غموضاً والأقسى إيلاماً للأحياء. فَبِعلَّةٍ من أن الموت لا يُلْزِمُكَ بآخر يقتسمُ وإياك المتعة والألمَ ـ بحسب الاستجابات ـ يغدو جوهرياً، فَمُفْضٍ بك إلى تجربةٍ تاليةٍ في الحياة والإحداث قد لا تبدأ بشخصين التصقا فباضَ أحدُهما ثالثاً. فعساكَ صرتَ شجرة، شتيمةً عابرةً، حذاءً، غُربَة،....، قبل أن يحتكرك شريكا سريرٍ لتكون اْبنهما.
مسروراً داخل لعثمتِكَ الجسدية تعرج فوق قلقِ اللغة، مصاباً بالمجازات المشوَّهةِ وأشباه التأويلات، تنسجُ ـ شأن حشرةٍ مسرنمةٍ ـ ثياب الضوء المبقعة بالأسى والعَرَق. يهشّك ولعٌ في سريرتك بأحاديث الآخر عنك، وتتوَّهم تحت كلِّ فكرةٍ خنجراً أو بسمةً مسمومة.
أدعوكَ للنظر إلى مجازات السرد الوادعة هذي؛ المتجذِّرة في عمق بنيتك المأساتية المتكررة بتعرجاتٍ على مرايا اليوميّ المخيّب:
الدين/ الأخلاق/ القوانين/ الأمثال/ شهادات وعقود الإثبات/ المدارس وأساليب التربية/ مؤسسات التكويم الاجتماعي/ مفهومات الذهن الاجتماعي/ إحاطة أعمال الحركة الداخلية للفرد بانتقائية غيبية، وإحالتها إلى قوى موضوعية تلغي شرط الذات الذي أنتجها، ومن ذلك، احتقار أعمال الذاكرة والخيال وإلغاؤها، ضمن تصوُّرٍ يقدّس الحكي الشفاهي، ويفرح باختراقات الخرافة لوحلِ بركته الميتة؛ وبتفسيره الذي يُسْقِطُه عليها، ويرى في الكتابة والرسم والغناء صياعةً وانعدام موضوع/ تشفير الحنان على هيأةِ حلفٍ سريٍّ مستبطَنٍ مُتَوَاطَأٍ على إقصاء ظلِّه المجازي، باتفاقٍ غير معلنٍ بينك والعائلة، يقضي بتمرير الرشوة حناناً عبر أسفل الطاولةِ ثمَّ بَسْط الوعد بِرَدِّها طاعةً وحَمْلَ اسم على سطح الطاولة/ تفخيخ الذاكرة لدى الطفولة بمفرداتٍ ذات ظلالٍ مستقبليةٍ مصيريةٍ أسطورية مثل (طبيب، مهندس، ضابط...) وتردادها بكثافات تقديسية تتعلَّق بالرِّفعة الاجتماعية والمكانة و(يشار إليه بالبنان!) ثم إذا قَصُرْتَ عن الارتقاءِ إلى هذا الذهب العالي، تراكَ علقتَ بصمغِ القاع، فتبقى ـ ذهنياً ـ محتفظاً بتصورات دونيّة عن قَدَرِكَ كشخصٍ خارج التقييم، وتنحر أعماقك على حَجَرِ التثبيتات التربوية، لتصبح بعدها قاصراً حقَّاً، محضَ كتلةٍ مليئةٍ بالبلادةِ واللاسؤال، تَدْرُجُ على مساقط الرضا بالمكتوب، حتى لكأنَّ (المكتوب؟!) اشتغالٌ تختلي به السماوات في مخادعها الباردة لتقطيع الحياة/ ثمَّ فانظر إلى هذا الحديث الشريف المزخرف على الحائط: (من رأى منكم منكراً فليغيِّره بيدهِ، فإن لَم يستطع فبلسانهِ، فإن لَم يستطع فبقلبهِ، وذلك أضعف الإيمان)!!، هذا المجاز السلوكيّ الكاسح الذي حاد بك تماماً عن التفكير وملاقاة الأسئلة. فهاهو عرَّابُك الصحراويّ يهتفُ والقذارات تنهال عليه: (والله إني لآتيكم بالذَّبح)!، وهو المرسل لينقذ الناس كافَّةً، يرتِّب لهم أساليب مواجهة الآخر على ذلك النحو!!، أليس التغيير بالقلب هو التفكير؟ إنه أضعف الإيمان/... وسِوَاهَا.
ثمَّ أدعوكَ للنظر فيها، ثمَّ أدعوكَ لتقول لي: لماذا موتك، ثمَّ ما، وكيف هو!.
أراك تترجرجُ على غُنَّة الذوبانات العالميَّة، فَمِنْ هازِجٍ فيك بِزُمبارَتِهِ المشروخة لحراسة الثقافات المحلية الموهومة والفلولكلورات المتحَفِيَّة المهترئة، إلى صادحٍ بغناءِ الكونيّة، مُصَفّقٍ بِبِرٍّ وبُنُوّةٍ للثقافة الإنسانية والتقدّم والديموقراطية وما شاكلَ ذلك من النداءات التوتاليتاريّة الزاهية المزيّنة بالتكنولوجيا والتطوّر العلمي والنظريَّات ذات الأجفان المحترقة. تَمثُلُ أمامي بقوّة (أسطورة يوم القيامة)، وأنا أسمع تقاليد النهاية والما بَعْد التي أخذ يُرْسِيها منظرو وكهنة العراء البرزخيّ الراهن. أما الثقافةُ يا هذا، فإنْ يحاولُ بعضهم فيك إلاَّ اختلاقها. فثمَّةَ نثاراتٌ من التقاليد والمقولات والأشكال الشعبيّة، هامشيّة ومتنحِّية عن المشهد القُطْرِيِّ نفسِه، أخذ هذا البعض ينبشها ويحاولُ بَعثَها في تُرْبَتِهِ الغُفْلِ من خصوبةٍ، وقد اكتشفَ فقره الداخليَّ وفراغَ رَاهِنِهِ، ليرى فيها خصوصيّةً، ليسميها ثقافةً، وهي تعجزُ عن إيواء الزمن، تَقْصُرُ عن أسرِ أيِّة لحظةٍ أو اشراقةٍ معرفيةٍ داخل اسمها. أتظنّها تدرأُ عنك الطوفانَ وتعصمك من سَيَّال دين المعلومات الوليد؟. لستَ سوى ساندويتش معرفي داخل شبكة تشفير العالم، وإنك لمقضومٌ ومحذوف. وما تعدو جميع المحاولات الراهنة لإحياء تلك الثقافات الأثرية عن أن تكون (فرفرة مذبوح). ما يلزم  للدخول في الأزمان القادمة، هو صَيَرانٌ جديدٌ، لا يبدأ بالتأسيس على أيةِ مفاهيم أو أشكال موروثة في الخطاب والعمل، ولا يكون إلغاءً أو تكفيراً عن ما سبق. يبدأ من الصمت. من استنطاق الأعماق بلا صوت ولا إشارات، والإنصات للغتها ومعرفتها. يبدأُ خارج الصوت والعضل. يبدأ بفكرةٍ عن القوّةِ مغايرة. ربما قوّة الدخيلة.
وأنت في شخيركَ الصَّحْوِيِّ، تُغْضِي أمام السترات المبقَّعة بالأخضر والأحزمة الغليظة، مَهِيْنَاً، أم هَيناً، لم أعد أعرف، تدَّرئ بالخجل من هجير الأسئلة اللاَّفح.
أخ خ خ، ... يتراءى الموت أمامي، أليفاً، ومعصوب العينين بالرغبة. رغبةٌ، بما تُبطنُ من حرمانٍ وِلاَدِيٍّ واستنفارٍ لحوحٍ لإقامة الحياةِ والسَّهرِ على عافيتها، دائمةُ الهمهمةِ والبَرَم تتململُ على الاحتمالات، مدفوعةً بالذي يخيبُ ويطيشُ بلا توقف؛ بما يتخلَّى ولا يُمْسِكُ؛ يُغْضِي ويَرَى؛ يُشِيحُ ويُزْهِرُ في عينيهِ الدَّمُ. رغبةٌ تَنْسى.
ينتحب الجسد في مَغبَّةِ إحداثاتِهِِ الممكنةِ المتأبِّيةِ ويتذكَّرُ ولَعَهُ التافهَ بمجازات الجنس وأشباه الطاعات. وأيامٌ تسيلُ على ليلِ الصورةِ المشلولِ، عريقةً وموشكةً على الهلوسة والنسيان، تَتَلوَّى في شركِ الذاكرةِ بمرحٍ، ثمَّ تَنْسَلُّ تاركةً قميصها اليابسَ على أسلاك الكيان.
وهو، الشخصُ، أنتَ، وكذا الضمائرُ، وفيراً كما سَجدةٍ، ينتَعظُ بقوةٍ إثر عضَّاتِ الساعةِ، ويموتُ حين الصَّديق. هل رأيتَ حَرَجَ الأشياءِ لَدى الدَّمَامَة؟، هل بَلَّتْكَ الطِّبَاعُ الْمُسُوخيِّةُ بِقَطْرِ فتنتها؟. نياقُ الوقتِ مذهولةٌ من شدِّة الشَّجر!، وفي عروقِ القوافل يَسري الحديدُ. يسقُط الشَّخصُ في أسْرِ حالاتهِ، ويتكوَّم الضوء على شطرنج الحداثةِ الأمْهَقِ، مائعاً ومتجمِّعاً كَكُتلةِ مخاط؛ فالضوءُ، هو التجلِّي المقدَّس للمطلق، وهو مجازٌ مكشوف منذ فجرِ الحيرةِ عن وجهِ الإله. وإلى ذلك، فهو عاهةٌ بيضاء تزيِّنُ وجه المكان، وثمَّةَ الروحُ الكربونيّةُ للعالم ثاويةٌ تحت كل جَسدٍ وطيف، تَسهَرُ على براءةِ الشظايا وعافيةِ الخرابات الوشيكة. أفَفِي أحشاء هذه الجدران طيور؟؛ لأنَّ ثمة أجنحة وحكايات محطّمة، تخرجُ بلا ذاكرةٍ، ولا تعودُ تحملُ أسماء.  لأن وعداً بالموتِ، ما كفَّ عن التهدّلِ منها كثديِ امرأةٍ عجوز. لأنها ما كفَّت عن السُّعال. تقِفُ النِّيـَّةُ أمام الجسدِ مخنوقةً بالإشاراتِ، تحترقُ داخل ثوب الزفاف الهلاميّ؛ فالرغبةُ تَنْسَى.
وفي غايةِ العاصفة، هنا، بالتأشير على كمين الظنِّ في اللّعبة عينها؛ المضيئة بكامل السماحة؛ الرَّاعبةِ دون أن تُسْتَنْفَد؛ المنشورة على الطبق الأبيض الذي تمتدُّ إليه بسعارٍ منهومٍ جميعُ الأيدي العالقة على الاحتمالات؛ الْمُرْتَصَّة بالضرورة حول مائدة العالم: تُمْكِنُ الكراهيةُ.
بمصاحبةِ غياب الْحِنِّيَّةِ المريع، في كنفِ كُلِّ الرّفقات الوحشيةَّ الوافرة، تحت المجيء الظافر والدخول الكبير الذي دَشَّنَ بهِ البياضُ هَجْعَتهُ المديدة تحت الأشجار: أعثرُ على ما لا تتهيَّأُ ملاقاتهُ إلا بالجنون، ما لا تَنْتَجِزُ مُوَاقَعَتُهُ إلا باقتصاد الجسد. أعثُرُ على الوعدِ الهندسيِّ؛ جَنَّةِ الحديد والبلاستيك؛ قيامة الصِّناعة. أنظُرُ إلى يدي، فأجدها قديمةً، تلهَجُ بدعاءٍ وَثَنيٍّ، وعليها بقايا النَّار التي، منذ صورٍ كثيرةٍ أشعلتُها لأرى الزَّمنَ؛ تَرِفُّ فوقها خِفَّاتُ العوالم النادرة التي ساحت في الأبعاد. وبين المصافحات الحارَّة ومقابض السيوف، ماتت كثيراً، ثمَّ، وبلا أدنى إحساسٍ بالتَّأذّي، وبكثيرٍ من المودَّةِ والتوتُّر، ها هي، بثلاثة أصابع تقبضُ على شيءٍ صغيرٍ، يفضي بشوشاً إلى أقصى العنف والرهافة.
أكتب عن شفرةِ الزمن. أكتب ومن زعمي أنَّ الزمن هو المكان بلا مسافة؛ هو المكان يتقطَّعُ، وما اتصالاتهُ إلا دأب التَّظَنِّي، تَهْرِفُ به الضرورةُ في هذيانها على فراشِ التحوّلِ، منساقةً إلى طبع جَلْدِ الذات، بتقمّصِ ما توهَّمَتْهُ من سلوكات الاحتمالات، لإسكاتها، ولكي تزيح عن نفسها الإحساس بالخزي والخجل من جرائمها والهجران. وربما هو الحكاية بلا أجسادٍ ولا لغة، وما صِفَتُهُ الخطِّية التي يتغنَّى بها خطابُ حضارات الإنسان، إلا بطارية يشحنها الوعي الانتهازيُّ من أشواق الجماعات المُسَرْنِمَةِ نحو يوم عدلٍ وخلف قوةٍ متصورةٍ، قد يكون مجازها شخصاً أو مكاناً أو حالاً، تَقَعُ حتماً في آخر الزَّمان؛ عادلة. إذْ بَيْنَ (التصوُّر الزراعي للجنَّة)، لدى الديانات الموسومة سماويَّةً، و(الوعد بسَعَادِيَّةِ منجزات الصناعة الحديثة)، الذي يبذله عرَّابو الحضارة السائدة راهناً، تقومُ أُخوَّةُ الضرورة، وقد قَدَّمَا حتى الآن من البراهين ما يكفي على غياب الحبّ والسَّلام في خطابيهما العمليّيْن؛ فالإيماءُ بالكراهية والنَّبذِ، إنما يتوجَّهُ إليهما على السَّواء، بحسبانهما، أي (الجنَّة الخضراء في الآخرة)، و(التخطيط التكنولوجي لليوتوبيا الدنيويَّة):
1. وجهان للعملة نفسها، صَدئ جانبٌ منها، وما زال الجانب الآخر بهيَّاً، يَعِدُ بمزيدٍ من التداول وتكويم العالم داخل خزانات المعلومات الجديدة.
2. الذريعة الحاذقة لتكريس وتغذية الأمل بالسعادة كغايةٍ سُمْيَا، بِسَائِقِهَا يُبَرِّرُ الذهن الجماعيّ حركته ولهاثهُ وصبره على اللالُقيا، ولأجلها صار لكلمة خادعةٍ مثل (تضحية) معنى.
3. الخطاب الكُلِّي الذي تحت ظلّه يُقنَّنُ القمعُ لكلّ خيانةٍ للمعنى أو غياب لمفهومات فارغة مثل (الكمال، الغاية، الحتمية، المثال، الصبر، التضحية...).
لستُ لأَسَمِّي مؤامرةً كونيةً بهذا، بل احتيالاً وجودياً، ضَرْبَاً من مكافأة الذات، وجنساً من احتكار التلقين بقوّة المعرفة وسلطة الوعي. أنا هنا لأُريكَ صورةً لا أبلغ، مُحتقنةً بالمجازية والوشاية: (الإمام محمد عبده يقف مُطرقاً مخذولاً أمام عينَي المفكّر الفرنسي رينان المحمول على طلقة نابليون الجامحة). إن هذه الصورة لتمرقُ عبر الجِّفن لتقول العالم، لتعني كلّ هذا.
أسألكَ عن مَجْلَى ما مَدَّتكَ به الحملة البونابارتية من (علميّة!)، وأنا أرى حاصلَ القيء التاريخي الذي أحدثْتَهُ جرَّاءها باسم هاجس التقدم و(خذوا منها ما ينفعكم)!. فكيف ستحمي دولة الأشجار والماشية القابعة في ذاكرتك وحاضرك النَّفسي من بهاءِ وسحريّةِ دولةِ السِّلع والهندسات التي انسلّت إليك بمجازاتها الوبيلة وإشاراتها الباطنيَّة كافّةً وأقامت فيك بنيةً عميقةً تطفحُ بالضوء وترسلُ عطايا الكمال بلا حد. هل تستطيع الاحتفاظ بهذه الجِّيرةِ الوخيمة؟.
أرى أزهاراً بلاستيكيةً على سطح جهاز التلفزيون.
تائهاً تَتَخبَّطُ في حَرَجك، وسط مهرجان الولادات والتحولات، وتدير بإصبعك الحبات الأربع لمسبحة الأيام القديمة ذات الطبع الأوركستراليّ والصَخَبِ المتساوقِ الرَّصين: (الفلاَّح، الراعي، الصياد، التاجر)، هذا الحبل الزخرفي النظيم الذي هذَّب التاريخ على رفِّ الثابت والضروري والواجب، ومدَّك بعقيرةِ التمثال. هذه المرآة الوفية لصورتها؛ صورة الحياة؛ صورة المألوف. هذا المربَّع العريق الذي قصَّ أطراف المعرفة بالدَّم والنار وأرسلها مع شياهه إلى العشب، واحتقر الحيرة محيلاً المجهولَ والأسئلة القصيِّة إلى جامع نهائيٍّ كاملٍ للإجابات، مفترضٍ: (الله).
لن ترى ذلك الشيء الصغير الذي تدلَّى من خيط المسبحة منـزوياً، لأنه هو كلُّ مايحيطُ بك من جنونٍ وصخبٍ وازدحام: (الصَّانعْ). عَلَى الهامش؛ على الهامش بلا ترددٍ، ومنذ ولادة العمل، طفق الصانع يظلع خلف القافلةِ مثل أسيرٍ، آخذاً على عاتقهِ الفتيّ كلَّ ما يتناثر من أسرارٍ ورمادٍ ونَدَمٍ، حتى تراكمت لديه الفسيفساءُ الكونية؛ مانْدَالا الحضارات؛ بانوراما الظواهر، والمعادل الموضوعي للعالم، فحازَ (الأَلِفَ) بامتياز. فمن موقعه المتململ ذاك، الْمُزَاح بقسوةٍ إلى الحافَّة، كان يمدُّ، بين العصر والآخر، أصابع خفيّةً تعبثُ بودائعِ ضُحى الحضارة، ويتساءَلُ بسأمٍ عن أوان الغسق، ثمَّ بدأت القافلة المربَّعةُ باللهاثِ والتساقط، وكانت الصناعةُ لدى لحظتها المركزيّة في أوج الفتوّةِ، فتقدمت القطيع الفتران وانحدرت به من صحراء الحركة والظلام والمواجهات المؤجلة، إلى عاصمات الضوء والجلوس؛ إلى نشيدها الكونيّ الموحّد، حيث المدن: سيادة الصوت وأخوَّة الضرورة. المدن التي لاحُلُم. المدن التي ليلٌ وزمن. المدن التي خاطها الدَّمُ وتخثَّرت على جَسَدِ الجَّمال. المدن التي تسْهِلُ في الرُّوح أياماً ديدانيّة وأصواتاً تشبهُ المخاط.
وأمامي يترجرجُ طيفٌ بائدٌ ذو وجهٍ خماسيٍّ يتجدد بلا سأمٍ، يطلُّ من عيونهِ الحديدُ؛ روحُ الصَّانع وشخصُهُ. فالتصنيع؛ هذا اللاهوت الزخرفيّ الآسر الذي تَسَرطن على جَسَدِ العالم مثل النبوّة، يرتِّلُ كتابَ المادةِ بمنتهى الصَّخب والرعونة، ويدعو الجميع للجلوس على قلبهِ الوثير وتناول عشاء التشابه الأخير من صحافٍ مَجْلُوِّةٍ بالديموقراطية والاختراعات؛ مُغطاةٍ بمناديل من أرواح شهداء الحضارة والمعرفة!.
وهي الايَّامُ الأيامُ...
تَحْمِلُنِي جَسَدَاً،
[هل (الرّوح) مقابلةٌ أمينة وعادلة لـ(الجسَد)؟. هذا لأن ما يتحطَّم وينهارُ بعمقٍ هو شيء كتيمٌ مُنْـزَوٍ في الداخل؛ داخل الجَّسد. وحين أحسُّ بعواء فادح يرتِّلُ هشاشتي، أعرفُ أنَّ ثمة ما سيلتحقُ بالجسد. حين أتذكّرُ ما يهيِّج اللوعةَ والمرارة في أعماقي، يتذكَّرُ جسدي. ذُهَانْ؟!. أرى في الروح شيئاً حيوانياً، هائلاً، غرائزياً، شهوانياً، مخيفا. وإلا، فما العواءات العنيفة المجروحة، هذه التي تنبعث من أين لا أدري في الداخل، وتسيل على جهاتٍ مجهولةٍ سالبةٍ مدلَّلةٍ وشرسةٍ أبيّة، وحين أتقصاها وأتغيَّا كشفها، أحسُّ دماً ساخناً مختلطاً بشعرِ بهيمةٍ ما يسيل من شدقي].
أَحْمِلُهَا كتابةً،
وأرى عَيناً كَهْلَةً ترقُصُ بتبذُّلٍ، على حلبةٍ بيضاء. أرى طيوراً؛ أشجاراً، حشراتٍ وخيولاً، تمرقُ من سجدتيَ الغيبوبيةِ أمام السافنَّا. أرى...، أسيحُ في مُرْتَقَيَاتِ الضجر والهشاشة، وأتنـزَّى من أصابعِ الهلامِ مثل صديدٍ مضيء. كنتُ راعيَ الكراهيةِ في المدن الضَّالةِ على جادَّات الزمن المتقاطعة. كنتُ صديق الدمِ والرمادِ والصَّمتِ والصُّور الْمُغْثِيَةِ في بلاطات الجمال. رأيتُ الجَّمالَ أمراً قبْليَّاً ينتمي إلى تلك الظواهر المغفَّلة البادئة في عراء الكون، بديهياً، خارج الفكْرِ والصّنعة. أمَّا ما هو إبداعيٌّ وإنسانيٌّ ويشيع حميميةً وأُلفةً لديَّ، فالبؤس والحرجُ والسؤال والألم. رأيتُ شَفَةً مَلْوِيَّةً، تَشي بالازدراء، تهاجرُ في الزمنِ، داهنةً جدران العواصم بالسخريّةِ والحشرات. رأيتُ كتاباً وحيداً مهجوراً، مدعوك الصفحات، يتقلَّبُ في مهبِّ الحوادث، قاذفاً من سطورهِ المتعرِّجةِ الليلَ والمرضَ واللّعابَ والملابسَ الداخليّةَ المباحةَ للقمل الأشقرِ، وكلَّ التلويثات الممكنة، راشفاً صيحاتِ اللعنةِ وشتائم حُرَّاسِ الجَّمالِ والأخلاقِ من شاشةٍ لامعةٍ تتهادى في البياض.
آه... كم صَعَدَتْنِي الخفَّاتُ؛ حين أموت؛ حين الثياب في الزَّمن؛ حين ارتخاء الطيور من الرّتاجات المقتَحَمة؛ حين لا ألم، بل مُزَقٌ تَتَشلَّى من جسد الوقتِ، مدفوعةً بالوعدِ نفسهِ الذي يُملي الحياةَ على تلاميذٍ يتحاشون الأخطاءَ بحماسٍ خائف: الموت، بل سهاداتٌ عتيقةٌ تشرقُ على الورقةِ المعطونةِ في ليلها، فحرسْتُ الأشياء، وهي تفقدُ أوزانها بشَرَف.
من الذي سأل؟!.
نَفَسُ هبوبٍ خيانيٍّ سامٍّ بامتياز، سَحَبْتُهُ من لفافةٍ كُنتُها حين موت السِّوَى. ريحٌ غامضةٌ من زوايا الذاكرة وجهات المكان، بدأتْ بالارتخاء البارد المباغتِ على شقوقِ الشاشةِ الداخليةِ المنمِّلة، هبَّت على الاسمِ العالقِ بأسلاكِ الطفولةِ ما زال، فسالت التمتماتُ والحماقاتُ بخفِّةٍ على بادية الصُّوَر. وكان ما أطوله إسهالا. بدا الأمر شبيهاً بتسليةٍ تقترنُّ بلذَّةٍ لانهائيةٍ حُوذِيُّها الشغف بالقدرةِ الفاجئةِ، ولمرات كثيرةٍ تالية، على الاستفزاز بما يتبدى لهم إهانةً، حين يتعثَّر الكبارُ، وهم في طريقهم يَدْرُجُونَ نحوَ مظانِّ اسمائهم، بورقةٍ صغيرةٍ غير ذات شأن.
تصوّرات بلهاء تعلَّقت بمصيرٍ خارقٍ وسيرةٍ فائقةِ الغموض. هتافات داخليةٌ جذلى تُمليها حَفَاواتُ الآخرين واحتراماتُ الأقران. هذا، وكان عليه أن يدفعني للكفّ عن الغباء. تراءت القلعةُ سوداء، مهجورةً، والمغيب ينسدلُ عليها ثقيلاً. سِرنا في دربٍ وعرٍ، وسط مناخات غريبة. للقلعةِ بوَّابةٌ خشبيةٌ هَرِمَة. دفعها، فصرَّت بعويلٍ متقطِّع، وخفَّت الخفافيشُ إلى الجبال المحيطة. وَلَجْنَا ممراً ومشينا، حتى بلغنا مفترقاً يفضي إلى عدة أروقة. وضع راحته على كتفي وقال لي: (اذْهَبْ). ثم اختفى. وما وجدْتهُ؛ نصَّار. فهل اخترتُ طريقاً، أم ما زلتُ عند المفترق، عالقاً في خوفي وحيرتي؟.
أفهمُ أنه صار على تلك التَّثبيتات التي لا تنقضي ولا تكفُّ تتجدَّدُ، وتبدأُ من أول صفحةٍ في كتابٍ أثارت كمينَ فكرٍ أو دغل لذِّة، وتَصْدُرُ عن كل ما أعدَّه العالم لوليمتهِ الملعونة، أن تتململَ في نومِ الذاكرة، وأن تخرجَ إلى سهلٍ أبيضَ ملتَبسٍ خالٍ من الوعدِ والغواية، حاملةً: سواد الأقاصي الكثَّةِ المعتمةِ في الطفولةِ، مشاهداتِ الأيَّام، التوليداتِ الدَّاخليَّةَ المنطويةَ على وحشةِ الأعماق، تفاصيلَ ما مضى من وقت الشخص، الأحلام والعصيانات. لِتَرى أيّ ضلالٍ وسهادٍ تضمر لها الحياةُ، في متاهة الكتابةِ؛ في ليل الورقةِ العاقِّ؛ في تجارب الأسئلة والمجازفات اللاحقة.
أستعيد كائن DARKHOOD، ثم أنساهُ، كما نَسِيَ. أتقلَّبُ في عناق الْمُحَايَثَةِ، وشِقَاقِ الْمَعِيَّاتِ الكسولةِ لصقَ عُجمَتي. وألْمَحُكَ، مرتاباً بِدَسِيْسِ الرُّبَّما وكتيمِ مفاجآتها، ملتاذاً بأيقونةِ: (العاقل مَن اتَّعَظَ بغيره)!؛ هذه الآية الوطيدة في قرآنك الاجتماعيّ، تسترخي على نعومةِ الطريق، تَتَرسَّمُ حوافر من سبقوكَ على المسارات المتصلةِ الآمنة المسطحة الواضحة. هل اتَّبعتَ هذا الغَيْرَكَ لأنه خطَّ لك درباً معافى من الانقطاعات والانحرافات والقيعان؟!، هل اخترتَ أن تشبههُ وأن تُلغي حقّك في التجربة والاختبار لأنه نجا؟، أما فكَّرتَ أنه حتماً غامر وخَسِرَ مرَّات ورأى، قبل أن يُرسِّمَ لكَ هذه الطريق/العظة؟!. أم، وللأيقونةِ وجهٌ آخر، حِدْتَ عن طريقٍ تَعِدُ بالخيبةِ وعدم اللُّقْيَا لأن ثمةَ من فشل وانكسر لديها؟!. هذا مجازكَ الكبير، تَدْرُجَ في أمان مخاضةِ (دَرْبْ السَّلامة، للحول قريبْ)!!، وها حافركَ فوق حافرِ سلفك، حاملاً القانون الشامل والصيغة العامَّة للنموذجِ السَّوِيِّ، مستظهراً بلانهايةٍ الطبعةَ الأولى من التجربة والمغامرة على ورق العقل، حاضَّاً أعماقك الكسولة على قبول المزيد من التَّرسيمات وغوايات التشابُه.
ومفردة (زمان) هذه التي تصرخ بأشياء هائلةٍ؛ بتقاطعاتٍ مريعةٍ وانحرافاتٍ مفاجئةٍ تخون الجماليَّةَ المكرَّسةَ للأُلفةِ والتكرار، أليست تعبِّر عن (الماضي) في خطابك العامِّيّ اليومي؟. دائماً تهرب من الآتي؛ من كل ما يزلقك في السؤال والظن. فحتى في موتك هذا حيال الاحتمالات وارتياد المحلات الخطرة؛ في مواظبتك على الاقتداء واحتذاء المسارات المعبَّدة، تَحِنُّ إلى ما كرَّرْتَهُ رَدْمَاً على حافر سلفك، وكنتَ لديه محضَ قناع بلاستيكي مشوَّه لذات الوجه الذي وضع علاماته الأولى على خطوط السير.
أتُغْضِي؟، وقد كنت سأفرح لأجلك إن سألتني: (هل يستمدُّ المجهولُ إغوائيَّتَه وجاذبيَّتَه من رغبتك في أن تكون مغامراً ومرتادَ مناخات سرية تمرِّر عبرها حماقاتك وخيباتك؟، أم يستمدُّها من رغبته هو نفسه في أن ينرئي ساحراً وجذَّاباً من جهة مغفَّلين مندفعين أمثالك؟)، فَلَمْ.
ياااا سلاااااام!. ألعتمات!. مجاهيل الداخل والعالم!. الأقاصي الملتبسة!. الجهات المجنونة!. فكيف سأحيا إن لم أنطلق في هذه الشسوعات المشتبكة اللذيذة؟؛ كيف لا أنجِّم وجه المستحيل المتقطع في سفارات الجنون؟. وطُرُقات داخلية، ثمَّة العَمَى حُوذِيُّها، مرصوفة بالصداقة والكتمان والخجل، مهجورة مهجورة مهجورة، تنتظرني داخلها مضامير فاتنة بلا متسابقين ولا جائزة.
طرقات لانهائية تَعِدُ بالصمت والتيه والاكتشافات، احتطَبَ العرفانيون الكبار؛ سفراء المحاولة، في مسالكها الغابية المدللة، بغاية الوصول إلى شجرة أصلية، فما اشتعل تحت قدورهم سوى التأويل. ها هم تتحلَّب أعماقهم اشتهاءً لتفاحة ضوئية آسرة نائمة في نهاية الطريق!، يتوهَّمون الوصلَ بجائزةٍ مزعومةٍ، وما قد بَلَّ إنِّـيَّاتِهِم سوى الفراغ.
فبِحَضٍّ من غبنٍ سياسي واجتماعي، وبوجدان ذي تعلُّق بمطامع إصلاحية ويوتوبية، لم يعد العدل ممكناً في الأرض بالنسبة لـ(الحلاج) إلا إذا صار كل بشري نسخةً من الله، فأنشأ مسافراً سائحاً يطرق حواضر الأرض ذات الطاقة الدينية الفائقة ساعياً في إعداد جسده لاستقبال نسخته متى كان في الأرض الملائمة، ثم أتى ميقاتٌ فظَنَّ الرجل أن (الجائزة/الوعد/الله) احتلَّته قبل وصوله إليها من قوة شوقها إليه، فجزع أن لا يفي بما يقتضيه الوصال من الحال، وراح يتخبَّط في الأسواق أنْ (أغيثوني من لَيْلَى)!. حتى إذا وَدَعَتْهُ وقَلَتْ رفعه معاصروه على الخشبات مُغِيثِينَهُ ربما، وربما منتقمين عن زرايته بهم، فعاد يرمقهم متألِّهاً؛ مدارياً خذلانه، يأخذ من دمه بذراعيه ويلطم صدره مردداً: (هذا دلال الجمال).
أما (ابن عربي) الذي تناهبَتْ وجدانَهُ وُحُوشُ الخيال كلها، وهَبَّت عصافيره الكواسر تفترسه؛ تأكل من كتفه نفسه، ومن دماغه، وتزرع النجوم العصبية في أكتاف حَمَلَة الأفلاك، فقد رأى آيةً منه في كل شيء فائضةً من لحمه الأوزوريسي الكوني على الوجود، لكن نذيراً من أهل زمانه لدغه في عقر ذاتيته المطلقة هذي، فما ملك إزاء ذلك الإحراج إلا أن وضع قناعاً لها الذاتَ المحمدية، بانياً بنيانه على أساسٍ من أن (الجائزة/الوعد/الله) متوزِّعة بالأصل في العالم متَّحدة بالوجود، وهذا برهان كُلِّيَّـتِها وكمالها، ثم عاد إلى أوراقه ليصحِّفَ ألغازه وهياكله التفاضلية مُقَسِّماَ منازل الفيوض وبوابات الفتوح في محاولة سحريَّة لإغواء وَهْمَة الروح المنتشرة بالنزول في شراك الهندسة والحساب من دوائر ومنحنيات وخطوط وأبعاد، يتمتم مخطوفاً: (الجوهر واحدٌ والقسمة في الصورة)، وقد نسي كَبَدَ الرحلة الداخلية وإباء الأعماق على من يطلب وعداً.
يختلف (النَّفَّرِيّ) نوعاً ما، فهو، وقد أدرك غاية الإيمان وعين اليقين، أدركَ بالتالي أن خطاباً إلهياً حقيقياً لا يستقيم أن يغدو قرآناً جماعيا. فقط هو الفرد، في مادَّة عدم الشريك، منصتاً قبالة المخاطِب، معرِّضاً جسده اللامرئي لنقلات وتحريكات هذا اللاعب الحاذق، في حُمَيَّا الفيض والصمت والخوف. (ورأيتُ كلَّ شيءٍ قد أَسْلَمَنِي). فانطلق هذا النبي المشرَّد في شاسع روحه الجبريَّة، وانتظر مُصِيخَاً كيانه في مواقف الطَّيِّ يَسْتَوْلِج ويَسْتَخْرِق. فبِعِلَّةٍ من كونه كان بالأصل مريداً متقصِّداً حضور الخطاب الهاتف؛ ومن كونه غدا في عُقْرِ الرهافة، صار محتَّماً أن يُمْلِي على سمعه مخاطبات وإيقافات تسوِّغ له (الإيذان بالوقت) والوصول.
كذا، مكتفين بِأَجْرِ المُنَاوَلة، شغلوا أعماقهم بالغاية يا عين، دون أن يدركوا طبيعة هذه الممرَّات الداخلية الخاصَّة الكتيمة، دون أن يمسّوا كَلِمَها؛ خُلُقَها ومناخها. دون أن ينجِّموا وجهَ المستحيل المتقطع في سفارات الجنون.
ولكنك هنا، وتستطيع أن تنتحب وأن تندم، وأن تغفر لك وللآخر، لأنك البرهان الوحيد والأعزل على هشاشة البنيات الداخلية والعمارات العميقة المسنودة بتثبيتات العادة والتربية والتكرار؛ التي أقامتها حضارات الصوت، بعد إقصاء احتمال أن تكون هناك نشاطات لاتجريبية في دخيلة كل فرد، قد تقود الحياة؛ لغةً وتطوراً نحو ما هو (نحو) وما هو ليس. وبدلاً عن أن نتناول قوة الثورة والخيال والإرادة من أيدي سفراء المحاولة، كأقل ما يمكن عمله، لا اتعاظاً، بل وراثةً بحق ما أخفقوا عن تحصيله، عُكست الآية، فصِيرَ إلى ترسيمِ المعنى وتراكم الخبرات واللغة الإشارية أيقوناتٍ كاريزميَّةً محكمةً، تعظ على منبر العقل بدرس التَّفَادِي، واضعةً خطوط السير على أسسٍ من الخطأ والصواب، والفشل والنجاح، والجهل والمعرفة، و...، كما صِيرَ إلى قَصْرِ القدرات الداخلية على هذه القِلِّةٍ من الأشخاص الملتبسين (مُنَجِّمُون، كُهَّان، أنبياء، أولياء صالحون، وُسَطَاء رَوْحَانيون...) فسُدَّ باب المحاولة، وبفضل درس (الحلاج) وأصدقائه وأسلافهم، عُلٍّقت صورة (الإنسان القادر الممكن) المأسورة داخل إطار المستحيل، على جدارِ ما لا يُقْتَنَصُ ولا يُتقَصَّى من الزمن: (يوم القيامة)، بزَعْم أن هذا الإنسان لن يوجد إلا في الجنَّة بعد اجتيازه مِحَن الله بنجاح، وما إنسان الجنة إلا كائن مفترض، فاقد الذاكرة، عاجز عن التفكير، ميت الروح، تماماً مثل نظيره إله الحلاج، كلاهما زراعة قلب في الجسد العكس.
هاذا، وجَعَلَ العالم لا يَنِي يثغو، ويَدْرُجُ تحت صقيع الاحتمالات بمعاطف الضرورة. فحتَّى حين رقَّت سريرتُهُ وراودته الدخيلة عن نوالها، عَقَدَ معها حِلْفاً ليوقف طفحَ ندائها، واتَّخذ الفنون والإبداعات دليلاً على تسامحه وعلى ما ظنَّهُ ثنائيةً فيه، وألزم هذه الأعمال السِرَّانِيَّة باستعمال الحواس بوَّابات، لاجئاً إلى الأدوات نفسها التي أقصاها بها: (اللغة، المعنى) ليتَّخذها مطايا للتعبير!!. وكان هذا الحلف هو فجوةُ الاكتشاف، فـ(المعنى) وقد تمَّت خيانتهُ وإعدامهُ، و(اللغة) وقد عُذِّبت ودمِّرت، في راهن الأعمال الشُّوَاشِيَّة لهذه الفنون، لا يعودان، بعد أن استعرضا عضلاتهما طويلاً على حلبة الحياة، سوى وقائع للعجز والخذلان في مواجهة حسابات المصالح الجماعية الكُبرى، ويفضي تقاطعهما مع هذه الحسابات وبالتالي ضياعهما، لا إلى اعتناءٍ بطقس الأعماق وتطويرٍ لحركاتهِ من جهة الفرد كما ينبغي أن يحدث، بل إلى انشغالٍ بمواجهات بَرَّانِـيَّةٍ ضالةٍ تتوخَّى استعادة المفقود!. وهو، أي المفقود، من شتَّى الجِّهات لا يضمرُ سوى نزعةٍ تكراريةٍ تُقعِدُ حراك الرُّوح وتُبْطِلُ انطلاقها في طرقات القوَّة الحقيقيَّة: قوَّة الدخيلة. لا. لا مفقود. بل ثمَّة الفَيْضُ.
الكتابة؟. إنها الفضيحةُ. فَهَرْول إلى سراويلك الداخلية.
الكتابةُ طفحٌ، قيحٌ، وهي عُرْيٌ.
لِمَ تخفي أعضاءك التناسليَّة؟. فإن كان كشف العورةِ الجسديّة يفضحُك، أفليس أدعى أن يميتك، يضيّعك كشفُ عورة الأعماق؟.
شيئان، إن كتبتَ ولم تحسّ الفضيحة والخجلْ؛ إما أنَّ أعضاءكَ العميقةَ؛ عورتك الداخليّة ميتة، ولا ترمي لأن تثيرَ بها شهوة الآخر، فأنت خَصيُّ الروح. أو أنك لا ترى ضيراً في عرض ما يخصُّك أنت فقط، وتَسْعَدُ، بتعاطي الآخر معك؛ بسقوطهِ في لذّة شبكتك الفاتنة؛ وباستجابته لغوايةِ استعمال أعضائكَ، ضمن شرطٍ سريٍّ غميس يسمّى القراءة ـ هلْ أخطُّ (المطالعة) لتبدو قريبةً من (المضاجعة)؟ـ، فأنت شاذّ، وهُوْ...؛ فالشاذُّ هو الْخَاصِّيُّ تماماً؛ الخفيُّ بلارحمة. وما ينجم خفاؤه من رغبتهِ في ذلك، فهو فاحش الكراهية للآخر، شغوفٌ بدسِّ الفخاخ على طريق الرغبة، يختبئُ في مسوح الفريسةِ الوادعة المعرَّضةِ دائماً لفعل الآخر، وفي أعماقهِ يعوي شخصهُ الوحشيّ الفردُ. ينجم خفاؤه من قوّة الخجل ـ أم الخوف؟، ربما معاً ـ التي تدفع الآخر عنه بعيداً، ومن تعذُّرِ وفرةِ الكفايةِ من الاستجابات لعرضِهِ الفاضح. قد تقترح إلغاء الآخر، بعدم كشف العورة له؛ بعدم ترغيبه في استعمال ما لديك؛ بعدم الكتابة إذاً، فَتَسلَمْ من تُهمتَي العِنِّة والشذوذ، لتَنْرَئي معافىً سويَّاً، فتصبح لديك أغنيةٌ للعفِّة والطهر، تمليها عليك حشمةُ العقل والذاكرة. ولأنَّ الآخر لا ينقسمُ في هذا المجاز المستعمل هنا، فأيّ تعاطٍ مع الآخر، الذي هو مَثِيلٌ في الخصائص الثقافية، الذي هو القارئ، يُعدُّ شذوذاً.
أن تحيد باستمرار عن المسالك المطروقة الموصوفة. أن تجترح الانعطافات والكوارثَ. أن تضلِّلَ الحُجَّاج. أن تعرك البواصل وعظات التاريخ داخل قبضتك ثم تلقمها فَمَ الحقيقةِ الأدرد. أن تنطلقَ شذوذاً، بَراااااااكْ. هذا هو أن تكتب.
لا....، فاللغةُ شغلٌ غَيْرٌ والمعنى لباس.
كيف أدفعك لأن ترى هذا، تشمه وتسمعه؟، وها أنت تقرأه فحسب. لا أريدهُ تصديراً عن جهنم الأعماق، ولا سفارةً شكليةً عن هذه الدولة السوداء المعتصمةِ بداخلي... أريدهُ هي ذاتها، جهنَّم. أريدك أن تشم الشياطَ ذاتها وتراها على هذا السطر عندما أقول لك: (إنني أحترق) لا أن ترى الكلمات فقط. لا تلزمني مواساتك ولا حنانك الذين لا أرى فيهما إلا أنك فهمت ما تَصَوَّرتَ أنني أردتُ أن أخفيه عنك باللغة. فاللغة هي العجز نفسهُ حين يتعلَّق الأمر بترحيل حسٍّ ما، وأخرقٌ من ظنَّ أنَّ الشعر يُكْتَبُ. وأنتَ إذ تغتبط بتمكنك من فهمي ـ الذي لم يكن غايتي أبداً ـ تكون قد أرسلت إليَّ دعوة للموت لن اقاومها. آهِ لكن...، لن تتحلَّب خلايا اللعاب في فمك، ولن يمتقع وجهُكَ من شدِّةِ حموضةِ هذا، لأنك لم تدخُلْ في روح الورقة، لم تَصِرْ مكتوبَك. فأنت، بعقلٍ؛ بأشياء ممضوغةٍ في عينيك تشبهُ الخرائط؛ بجسدٍ ميِّتٍ؛ بأعماقٍ ذات أثاثاتٍ مستعملةٍ، تطفو مبتهجاً، على أمان الطبعات المكرَّرة لكتاب العالم.
ــــــــــــــ
شكراً:
ـ [(إنَّ سِرَّكَ لَمَرْئِيٌّ على وجهك، وفي نظرتِك، فَلتَفْقِدَنَّ يا هذا وجهَك): جيل دولوز].
ـ [(اللغة هي الشذوذ الجنسي للروح): محمّد المزروعي].
ـ [(المرايا تُكَرِّرُ، ببغاوات... في أقفاص المدى): محمد المهدي المجذوب].
ـ [(العينُ مريضةٌ بالصور): جويس منصور].
ـ [(في الصباح، كنتُ من ضياع النظرة وتعب الكيان، حدّ أنّ مَنْ قابلتُهم ربما لم يروني): رامبو].
ـ [(في الجنون، لا أرض غير السماء الوهميّة، نتعلّم فيها كيف نطير بأجنحةٍ مقصوصة): محمد شكري].