Charcoal jar

Sunday, March 20, 2011

عَضَّني كتابٌ مسعور

باكتشافهم الولادة أحرز البشريون نصراً فائقاً وأخيراً على صعيد نشاط الجسد. وهو نصرٌ فائقٌ لأن الولادة كانت العملية الثنائية التي منحتهم أول حصيلة فيزيائية حية ينتجها الجسد، (بعد انمحاق المحاولات الأحادية الأولى لإنتاج كائن حي بالعون الذاتي)، ولا يزالون يحملون عبء إنتاجها مراراً وتكراراً، مع ما تقتضيه من احتشاء وتغذية. وهو نصرٌ أخير لأنهم اكتفوا به في ما يبدو، وأضربوا عن ما يليه بداهةً من انتصارات كانت أدنى إلى منالهم منه، بحكم ما يتيحه النمط التكراري لأية عمليةٍ إنتاجية ذات طابع إحصائي من إمكانات الانتقال (خطِّياً بأهون الاعتبارات) إلى ما يليها قفزةً أبعد في النسيج الأعمى للحدوث، لولا أنهم أقاموا الولادة الثنائية عائقاً، فالتفتوا من ثَمَّ، لا إلى حصيلتها، بل إلى العملية ذاتها، مأخوذين بشرطها الثنائي يكررون النصر إلى غير نهاية، حتى لم تعد الولادة البيولوجية شيئاً يثير، فتنادوا إلى كواكب الذهن ينهبونها نهباً يتصايحون: هيا نلد الكتب!. ولكن كما رأينا؛ لا يزال قَصْر الإنسان مشيداً، وبئر الخيال معطلة، وقد لم تأخذهم الصيحة إلا بمقدار. اتجهوا في أعقابها، لا إلى ولادة الكتب كما صاحوا، بل إلى استقصاء الممكنات داخل سلسلة التكرار ذاتها يستنتجون منها انتصارات تعاونية منطقية على صعيد الذهن؛ يراكمون المعلومات والملاحظات تخزيناً وتعليماً وتجريباً وتعبيراً وطباعةً وتخابراً وتوارثاً نحو المزيد من الدقة والإتقان في إنتاج الفنون والصناعات، فضاع، ربما إلى غير رجعةٍ، الأمل في أن يحقق الواحد نصراً بمفرده، ودع عنك تعطيلاً وإنشاءً لفظياً؛ ما يتغنى به الرائعون حَمَلة الأرحام العقيمة من (مخاض الكتابة) وما شاكله من تعابير ميتة.
ليس خافياً أن الكتاب الورقي لم يكن أول وحدة تخزينية للكتابة في تاريخ البشرية، سبقته أوعية كثيرة أودعها السابقون أعمال الخيال والتفكير، ولما لم تكن تلكم الأعمال ذات نازعٍ مَنَوِيٍّ إلا من وجه المجاز فقد تعذَّر على أوعيتها الحوامل أن ترقى بها إلى أفق المشيمة الأعلى، فبقيت خزائن ربك لا حَيَّة الكهرباء تصلكم بها فتبصرون فتُطردون، ولا قوارب الذهن تحمل من سفينة البطن يونس، وبقي الضبّ يرتعد على الجدار ينظر آسفاً إلى ذيله المبتور يرقص.
الكتاب الورقي، حيوان المكتبة، عامل الأرشيف المجنَّد، هو (روح) معذَّبي ميشيل فوكو التي تنمو طارئة على أجسادهم تغزوها يا دووب أثناءما هم معلقون على (شاشة الإظهار) لإكمال عملية (إنتاج الحقيقة) التي لا بد لنجاحها من نشاط الروح المستحدَثة. وهو على أية حال لا يغادر موضعه إلا ضمن سلسلة الفعاليات المجازية والإحداثات الداخلية التي يجود بها الشهود. أي لا يعمل الكتاب الورقي إلا من خارجه، من روحه الوعائية الخُلَّب التي استحدثها الشهود في أحشائهم لتستقبل فيض الحقيقة. الكتاب الورقي ليس شخصاً، ولا هو كاتبه.
الكتاب المولود من لحم ودم، الكتاب الشخص، هو الحيوان الخلاء المفترس الضَّاري، الحيوان الخرافي، (خيال) شخصيات جيل دولوز المفهومية التي تنمو على (مسطَّح المحايثة) أثناء عملية (إبداع المفهوم) التي لا بد لحصولها من نشاط الشخصية المفهومية.
وهل تخلو من المغزى كتبٌ قبل ولادة الكتاب الورقي سُطِّرت على جلود الحيوانات الميتة؟.
الآن، هل نحن شهودٌ على ما ينذر باندثار الكتاب الورقي؟، بل نحن شهود على ما يبشر بالكتاب المولود. ولا حتى الكتاب الإلكتروني يفي بذلك. ولكلّ (ميتافيزياء) أن تصير (علماً) كما أراد كانْت. لا أريد الولادة المجازية الباكية لأصحاب (مخاض الكتابة)، بل أريد الكِتَاب الذي يولد فعلاً، كما تلد الأمهات أوغاد الكوكب. وكان محمد المهدي المجذوب بشيراً به إذ كتب: (أحلم بجيل يجعل الكتابة جزءاً من العَيْش). وترجمتها: أحلم بأرضٍ تجعل السديم جزءاً من الإقليم. أحلم بإنسان يلد كتاباً من لحم ودم، يتنفس. أحلم بي ألتهم كتاباً من اللحم لا من الورق، بفمي لا بعيني. أحلم بي طريح الفراش يسعفونني بمصل الإقليم خمساً وعشرين حقنةً في السرَّة خوفاً من عدوى السديم؛ عضَّني كتاب مسعورٌ، ولا أتعافى.
يحدث هذا عندما يصعب التمييز حقاً بين (الكاتِب) و(العايِش). عندما يغدوان لحمةً واحدةً، عندما لا تعرف أيَّ النعتين تطلق على شخص؛ فهو مستوجب الكتابة والعيش شيئاً واحداً. وكان لطفاً من المجذوب أن يَلِي بحلمه (جيلاً)؛ لأن نازعاً كهذا لا ينتسب إلى حقبة ولا إلى إطار زمني. إنه ضرب دمويّ من التفكير ما كان المجذوب ليلغ فيه لو أنه فكِّر حقبياً. بل هي حال؛ بالاستخدام الصوفي لـ(حال)، أعني أن تغدو الكتابة قطعةً حيةً من عيش العايش؛ عضواً يجوع ويرتجف، ولا يتجزأ عن ما يملأ الجسد من سُعَار التنفُّس والحياة و(العَيْش). أن لا يعود الكتاب جليساً وحسب، بل جَسِيداً، يداً، عيناً، قلباً، كبداً، كتاباً، أماً، ولداً، أباً، حبيباً، فريسةً، مفترساً.
إذن، هل يموت الكتاب الورقي؟، لا أعرف هذا، لكن، ليموت شيء ما؛ عليه أن يحيا أولاً، أليس كذلك؟.

Wednesday, March 16, 2011

حليبٌ في المهَبّ

الأثرُ. مرضعةٌ لغير التغذية. حليبٌ في المهب. ولأنّ العالَم نزّاعٌ بطبعه إلى الْتِقَامِ أي ثدي يعرض به في طريقه ويتغذى على ما يَرضعه منه، فهي قابلية يتحلَّى بها العالَم والفنان على السواء، لا أثر الفنان. (يأكل المجاز. يَشرب الشَّايَ في القلب الخطأ: نجلاء عثمان التوم). و(العالَم) يستخدم هذه القابلية؛ لا اضطراراً ولا احتياجاً ولا رغبة، ولكن وأكثر؛ لا اختياراً، بل وفاءً منه وحفظاً لتقاليد المشاركة والاتصال الراسخة أن تُبقي على وجوده بمنجاة من البطلان، وإنْ على المستوى الإشاري بوصفه (دالاً) على حزمة بعينها من العناصر اتفق لها أن تتراضى على صيغة اعتبارية من الحدود تربط بينها علامات الجمع المحفوظة وهي مفترقة، لتنصبّ جمعاء عبر علامة التساوي سبيكةً مسكوكةً يُشار إليها بـ(العالم) دون الوقوف مطوَّلاً لدى واقع كونها مقداراً صناعياً ذا قيمة اعتبارية.
هذه القابلية لتناول العارض جوهرياً، يستخدمها الفنان أيضاً؛ ولكن من باب أسلوب الغلطة. أي أنه يُقْبِلُ عَمْداً على أيٍّ مما يهمّ وما لا؛ فيلتقم الثدي المسموم والثدي الميت والثدي المريض والثدي الخالي والثدي الـ...، ويستخلص منه ما لذّ له من الأغذية، وهو يعلم، كما إنه يضع هذا التشوُّه الترفيهي على عمله اختياراً. الفنان يَرْضَعُ لذَّةً ويُرْضِعُ لذَّةً. وهذا توقيعُهُ الأنشودة؛ توقيعه النائم في كل أحدوثة وملحمة وأمثولة وأسطورة وتمثال ونقش و...، يضعه في الظلام بيضةً بمثابة الخطة البديلة، فمتى ما انقلب الأثر نظاماً ومنهجاً واستقرَّ بعون آلات العالم المتأهِّب حاملاً فأس الملاحظة، حتى يستيقظ بيض اللذّة المدفون يغني في تربة الأثر، ويسعى جيشاً داخلياً من الحيث المستحيل عاملاً على مكافحة عوالق الملاحظة والتغذية والموعظة عن جلد الأثر، ثم يعيده إلى مهبّه طيراً أسود يشدو بحليبه المُظْلِم، وأيّ حليب؟.
إن الفنان يبذل عمله كما يبذل أي بشري يومَه عبر سنِيّ عمره. وما الأثر الفني إلا يوماً للنموّ والإخفاق والإصابة والتعلم و...!. لا يبذل الفنان أمثولات إلا بقدر ما يُشْرِقُ قلب الطفل إذ ينطق مفردةً يفهمها ذووه، ليس لأنها معبِّرة في نظره، ولا لأنها تعني أيَّ شيء جوهري، فقط هو يفرح بها لأنها تنشط بالخارج، وتعمل عمل الوصلة تسري عبرها تيارات الجوهر الثقافي المتراكم ـ علماً؛ لغةً، موعظةً، ديدناً، قوانين، ملاحظات، ملخصات، اختصارات،... ـ على أكتاف أهليه الفرحانين بالمثل إذ عثروا أخيراً في هذا المعجم الرضيع على ما يمكِّنهم من توريثه خبراتهم وتجاربهم و...، يَحْشُونَهُ بها. ومع ذلك، مع ذلك!، أفكار موحشة تتمزّق في بطن الطفل كبيضة الزمن، رطانات من العالم الجيني الدفين تُخرج أثقالها في قيامة التنفس والتعليم تنشرها؛ قبائل تكافح في أرض إدراكه كل المدخلات الطفيلية الفايروسية المقتحِمة، كتائب خرساء من كريات (الأنا المُظْلِمة) البيضاء المنسلَّة من قصر عدم الشريك الذي يفتح هذا أنفاقه السفلى حتى إذا فشلت طلائع المقاومة في طرد أغذية الخارج التيارية التهمتها وحوّلتها، فإذا بـ(فنَّانٍ)، مذعوراً أبداً من فأس (مَن عاشَرَ قوماً) يدفع الجزيةَ، مستدِيراً تلقاء نفسه غَيْرَاً؛ عينين مقلوبتين إلى داخله تضيئان بلد الروح البعيد لمرتاديه يستكشفونه بما هو أوفى إتاحةً من نشرات سياحية مبتسرةٍ تلفظها الألسن كما تلفظ الطابعةُ الورق، وقد يقيم بعضُهم بالداخل، وقد يتركون ذريةً، أما العائدون فهؤلاء رسل الرَّوَاج والمجاز والفهم وسوء الفهم والتناول الذرائعي؛ هم أبطال الفتوحات الانثربولوجية العائدون ظافرين إلى العالم من منابع نِيل الـ(أنا المُظْلِمة) بالكشوفات الجغرافية والأسطورية والتفاسير، وتحت سراويلهم الجوهرة الفذّة: زمبارة التحليل النفسي الفريدة. ظلمةٌ، إذا هذا يفتحها فذاك يغلقها، مشرِعاً فَمَه المجاني عَرَضاً يلتقم ويرسل من عاهاته المستحدَثة إشارات يا محسنين الكرامة لله.
يقع العالم، تحت وطأة الجوهر الثقافي الطاغية، في إدمان الموعظة، اغتياب الشخص في تجربته، ولا يتخلى أبداً عن المرجع والقاموس، ولا يؤدي خدماته بحماس ما لم يَنْحَشِ على مدار اللحظة بالنكات والنوادر والنفائس والأخبار والتقارير والسلع والعلوم و...، يؤذِّن فيها بالحج من رأس كعبته الزهراء تأتيه رجالاً، وعلى كل ضامر تأتيه، من كل فجٍّ عميق.
يريد العالم توسعة المتجر ما أمكن كي يزداد نطاق اختياراته من ما يرضع، وهو لهذا، لهذا!، يستنجد بالفنان لينهل من عمله ما يعينه على سياسة المتجر، ممسكاً ما دام بين يديه بثديه؛ ثدي الفنان، الذي يبدو عامراً بمحصول وافر من اقتصاد المجازات الذي يَهِبُ الوجودَ رخاءً سياسياً بمحمولات أبدية مطَّاطة تتراوح. وفي أحيان كثيرة يتناول العالم ما يرطنه الفنان غير مبال بنوعية ما يصدر عنه من إشعاع يكون سالباً على الأرجح، (إنه يلمع!)، يهتف المتسوِّق مأخوذاً: (إنه يلمع!)، ويروح يحشو به فمه منتشياً إذ يحلبُ اللمعانُ غُدَدَ المجازات البارَّة بركةً رقراقةً في اللقمة تحت اللسان الفرحان. (طبعاً قد يَنْظُر، ولا يَرَى: رندا محجوب).
لا تطلُب القراءة الذرائعية من المقروء غير ما هو يستعرض، بمبدأ المنطق الإيجابي لآلية العرض والطلب؛ أي ما هو في حدودِ مشروعيَّةٍ متفاهَم عليها شريطة أن تحقِّق النفع للطرفين وفقاً للتسعيرة الوضعية السارية. أما القراءة بمبدأ اللذة، فهي تستدرج المقروء إلى فتح أعمى نطاقاته والتحديق فيها بذات الانفعال البادي على العينين اللتين تطالعانه. القراءة: إيقاظ المادة الغذائية التبادلية العاملة داخل الحقلين. وإذا اضطررنا إلى تعيين وظيفة الفنان؛ فهي وظيفة تؤدَّى مرة واحدة لا غير: أن يخطو منسلخاً عن بابه، أن يوجِد مجرىً بين نطاقين.
ولكن، إذا كان الأثر، بفضل جذرية التوقيع الشخصي للفنان عليه، منيعاً ضد قابلية التغذّي العرَضي والتغذية العرضية، فإن مناعته هذي تتهالك ذاتياً أمام إغراء قابلية أخرى استثنائية، يستوردها الأثر إدراكياً: أسلوب الغلطة. و(مُشَاعٌ في التنفُّس شَطَطُ الحِرَاسة: رندا محجوب). عبوديات وأسفار. طبقات متشاربة من اللحوم والتوصيلات الداخلية والزلقانات والتغاذي وأعمال الرؤيوية البيئية تشعل في الأثر هوس الالتهام، الجوع المرَضيّ، طفْحٌ من العلاقات والترحيلات المتواترة؛ سواءٌ، أعمداً كان تواترها أم بـ(حُكْم العادة)، فهي في المحصلة تغدو نفقاً احتياطياً بابه داخل القصر وبابه الآخر خارج الأسوار، يرقد سطراً ميتاً، ناذراً بقاءه لتهريب عائلة الملك كجزء من مناعة القصر لا مغزى لوجوده غير أمرٍ واحد: (للحَيِّزِ أنثى: محفوظ بشرى)، القصر غير منيع ولا بُدَّ مقتحَم. يوضع أسلوب الغلطة مفارقةً معماريةً لتعزيز مناعة الأثر الفني على أساسٍ من افتراضٍ احتياطي يستبطن اللامناعة. واسطة العَقْد الهشة التي منحت أعظم الكنائس مهابتها، وهي حجر واحد إذا سُحِبَ من مكانه انهار البناء بحاله. ولكي ينام حقل البطيخ في بطن الفنان المنخدع اختياراً في صيف خريفه الإدراكي، فإنه يترك هذا الباب موارباً لينمو عليه عضوٌ استدراكيٌّ نفقاً سرياً للهروب، هو الشرط الضروري الذي بموجبه يأمن الأثر الفني من خطر الزوال مهما كثر عليه الغزاة، كما بموجبه يَسقط قصر الأثر الفني في إمكان التناول واستعصاء التناول، بضمانةٍ من أنه مهما قُلِبت غُرَفُهُ رأساً على عقب فإن شيئاً منه يبقى مغلقاً، وليس بالضرورة داخل إحدى الغرف، شيء مغلق في لا وجوده، في هربه، في نجاته، في ربما لم يكن هناك، ولكن النفق!. هناك سر في هذا النص!، هناك إذاً إغراء بفتحه ونبشه!. السِّرِّية دِينُ إزالة السِّرِّية. إرادة تدمير الغواية. أو كما كتب الفنان محيي الدين بن عربي: (الإشارةُ نداءٌ على رأس البُعْد وبوحٌ بعين العِلَّة).

Thursday, March 3, 2011

الحياة التي... الحياة

صَرَخَ في الحواسِّ الكونيةِ العظيمةِ، وهي منهمكةٌ بدأبٍ في قياسِ أشياءِ العالمِ، تسجِّلُ المقاديرَ والأحجامَ والمساحاتِ والأبعادَ والأزمانَ و...، كلَّ شعورٍ وكلَّ مادةٍ، ما أمْكَنَ قياسُهُ منها دنيوياً وما لم يمكن، تصنِّفه تفاضلياً في مستوياته الهيكليةِ المتغيِّرَةِ ثم تختم عليه.
صَرَخَ في آلهةِ الأشكالِ المستقرةِ للصوتِ، وهي على شرفِ ليلةِ العالمِ الأخيرةِ في حقلِ الغفرانِ، تعكف، في تواطؤٍ فاضحٍ بينَها والطبيعةَ، على أشياءَ فادحةٍ؛ أشياءَ نادرةٍ وفظيعةٍ، تقومُ معها بأعمالٍ، يبدو من ظاهرها، تُؤَدَّى لأغراضٍ احتفاليٍة لا أكثرَ، غير أنَّ الذي لم يَخْفَ عليه، تولِّدُ طاقةً شعوريةً مضادَّةً، غايَتُها تكوينَ ساحلٍ جاذِبيٍّ مقنَّعٍ بالهذرِ والضحكاتِ الفارغةِ، يكبحُ حركةَ الموسيقَى عند قدومها ويصفِّدها بالمادة إلى شروطِها القياسيةِ المتعارَفِ عليها في عالَمِ الشَّهادة.
صَرَخَ في الغافرِ الآليِّ النائمِ يُرْغِي رؤىً، ويُزْبِدُ مِنْ خيالاتٍ وطمثِ عواصفٍ وأزمنةٍ خميرةٍ ما يسيلُ من ركنَي شفتيه شفَّافاً وسميكاً كَمَنِيِّ غريرٍ، وتنحدرُ الفقاقيعُ الصغيرةُ على فَكِّه الناعم؛ فَكِّ الصبيِّ، ثم تنقِّطُ على صدرِهِ الآخذِ عُلُوَّاً وانخفاضاً في تنفُّسٍ رتيبٍ، والعالمُ يتهاوَى مِنْ جهاتِهِ الطفلةِ الممعنةِ ضرباً مغبوناً بالعكاكيزِ والأغصانِ الخضراءِ على عقلِ الهندسةِ الطفل؛ يتهاوى نحو الحقل مُتَّخِذَاً لنفسه مِنْ خِزْيِهِ سلوكَ النادمين ولاهجاً بنجوى التائبين.
صَرَخَ في وجه الحيرة الخالد الطائف حول الزمان مثل روحٍ حيوانيةٍ شقيةٍ طائفةٍ حول قبر حيوانها الْمُعْرِضِ عنها، وجنب الحيرة انتصبَت ليلةٌ عضويةٌ حيَّةٌ ووحيدةٌ، مأخوذةٌ بحالها من صلب الزمانِ وهي بَعْدُ دون الحدوث؛ انتصبَت ممسكةً ببوق هائل له أذرعٌ بلا عددٍ، كالحقيقةِ في قلبِ الواشي، ممتدةٌ منه كالوَصْلات إلى داخل الحياة، تنفخ فيه بصوتٍ لا صوتَ فيه فيهدل الكنـزُ الكلاميُّ المعجمُ في اللحم باعثاً في الخلايا نداءَ الوثيقةِ الصناعيةِ الأولى ليتولَّى خدمُ الحقل الملائكيون بعد ذلك إدارة الطيران.
صرخ في الصِّبْغَةِ الحمضيةِ المنشورةِ داخل نظام الوجود خميرةً أبديةً؛ حقلَ ألغامٍ خالدٍ يتناسخ في السلالات يُرَاسِلُ بَعْضَه باللُّغْزِ وآبارٍ، وينثر أوهاماً وعلوماً ونوافذَ ومغاليقَ تسعى بين أسطر المادةِ لا تعي الرَّمْزَ ولا تَعِي الصَّرَاحَة.
صرخ في القدورِ الواقفةِ يُوْدِعُ فيها النورُ بيضَه الأسودَ، يُقْفِلُها خْلفَه صبيانُه مُحْدِثين عليها من مؤخِّراتهم طلاسمَ موسيقيةً يجلبونها وهي بَعْدُ ثماراً وهميةً من دكاكين سوق الصُّوَرِ الكائنة بجنَّةِ القِدَمِ الخفية؛ يدفعون لقاءَها أشياءَ غاليةَ من حُسْنِهِم وحَدَاثةِ السِّرِّ فيهم، يأتون بها في مواكبَ هازجةٍ فيأكلونها عادةً عند حوافِّ العقل الطبيعيِّ ناظرين بشوق وحسرةٍ إلى مساقط عقلٍ لا يُسَمَّى ولا يُنَالُ بِعَيْنٍ تَرَى المكانَ وتبكي، يُنادون الظلالَ بأسماء أخواتهم فتناديهم كأنهم صَدَقوا، يريقون الطلاسمَ الموسيقيةَ في أحشائهم مع جرعاتٍ من النورِ والسهر والدَّمِ والعمَى، يتأوَّهون كعاشقاتٍ، وسرعان ما تُعادُ كتابة الموسيقى على ألواح أكبادهم بأحبارٍ صوتيةٍ مستعارةٍ من نفخة الصُّورِ فتسري هنيئاً مريئاً تتنـزَّل عبر محوِّلاتهم الهضميةِ الطاهرةِ لتخرج الثمرةُ الواحدةُ منها لحناً معجماً فتنطبع على فُوَّهَةِ القِدْرِ وهي قفلٌ؛ وهي خِتْمٌ، وهي رَصَدٌ، وهي، في الآنِ نفسه وبالأساس، مفتاحٌ يعرفه قَرِينُ القِدْرِ الموافق من أهل الأرض. هذا، قبل أن تُرْسَلَ إلى الزهور التي، وهي تَلِدُ الزمنَ في صباحاتِ الأرض وفي أسحارها، تُوْلَدُ أيضاً لعمرٍ بطول الشهقة يكفل لها أن تستقبل بأذرعها العضليةِ اللاقطةِ ما كُتِبَ لها من إرسال النور الأسود، فتنطوي كحاضنةٍ على ما وَفَدَ إليها من قدورٍ مملوءةِ بالبيض النَّيِّء تغمرها بالحياة والعاطفة، ثم تلفظها على العالمين زمناً متَّقِداً بتوافيق الممكن المجهولة واقترانات الأفلاك. زمنٌ، لَهُ في الأبدان أسْبِلَةٌ؛ وفي الأنفُسِ أنهارٌ، وفي العقول آبارٌ، وفي الأبصار نظامٌ هندسيٌّ يصرِّفُهُ للنَّاهلين. وما من زهرة منها، إلاَّ وفي أحضانها انفجرت شمسٌ سوداء وأفرخت ضحكةَ الْخُلْدِ الساخرة من عالَمٍ حيٍّ تبهجه الرموزُ أكثر مما يبهجه النبضُ في رسغ اليد. وما من زهرة منها، إلاَّ وهي جريمةٌ مجرَّدة؛ وهي نورٌ صارخٌ يتخبَّط بانزعاجٍ وجهلٍ وسط قطيع السعادات المذعور، وهي كلمة معطَّلة يتَّحِدُ الشعورُ بالطغيانِ أُشْنَةَ على ساقيها، وهي تقف مذهولةً حافيةً وترتعش في مياه أزَلِها الباطنيِّ الأخضر، خالدةً تحيض النورَ وتبعث في الأجناسِ عملَ الظواهر المائية.
صرخ في ضمير الغائب الْمُتَّصِلِ الذي يقف على رصيف الخيال مثل سلامٍ باطلٍ يفتعل الغيرةَ والهياجَ فيهجم وهو في رهب وتخاذلٍ متأصِّلٍ في صميمه على حبل الحياة المشفَّرِ بالروحِ ثم يرتدُّ صارخاً مرتعداً يسبُّ ويشكو قبل أن يلمس الحبلَ، وينطوي إلى رُكْنه الرَّكين في مخزن الضواري حبيسة الأنفس؛ مخزن الدهورِ قِطَعِ الغيارِ المجهولةِ، مخزن الضمائرِ الباطلةِ والوحدانياتِ الوثائقيةِ المعطَّلة.
صرخ حَبِيبِي في الحياةِ ذاتها. الحياة التي لم تَعُد لي ولم تَعُد للموسيقى ولم تَعُد للطَّيَرانِ ولم تَعُد للجريمة. الحياة التي شَفَّتْ وخَفَّتْ، حتَّى لم تَكَدْ يدٌ تُدْرِكُ لَحْمَها. الحياة التي ركضت كجِنِّيٍّ فَزِعٍ على تراب العقل اليابسِ واْنحَشَرَت في طبقاتِ الحقل التراكميِّ، ضاعت في المفاتيح الخاطئة. الحياة التي...