Charcoal jar

Tuesday, January 5, 2021

حديث الغنماية الحمراء

أيقظني ارتجاج قويّ تحت العنقريب فانتفضت أنظر. اللعنة!، إنها هذه الغنماية الحمراء!، ماذا تفعلين عزيزتي!، أتحكّين ظهرك الحزين بعنقريبي الحزين؟. أنا أيضاً أريد أن أحكّ ظهري، إنه بعيد جداً، والمسافرون لا يجدون ما يحملهم إلى اللهاث، أكثرهم يفضلون السقوط في هاوية النور المتقطع بدلاً من انتظار قوارب الترحيل. أرأيت أولئك الملاعين الذين عادوا أمس؟، إنهم يشيعون عن اللهاث أموراً أعرف أنها ستعجّل بحتفنا. يقولون لا شيء ألذّ من العدم. بالطبع نعلم ذلك. لكننا فوجئنا، والحق يُقال. كنا نتنصّل من... ماذا؟، ألم تعلمي سلفاً؟.

أمعنت الغنماية النظر في وجهي للحظة كانت قصيرة حقاً لكنها سمحت لي باقتفاء آثار كلماتي على صفحة الليل بطريقة جديدة عليّ كلياً، ثم مضت تتسكع صوب لوح السماء السماوي. اغرورقت عيناي فرحاً وأنا أنظر إليها حمراء، كلها حمراء، تتجه بعزمٍ إلى طريق الأقمار الأبيض المتقطع وتمّحي في ذروة الطباشير.

أخشى أيتها الجليلة أن تكفّ القوارب عن المجيء، أخشى أن ينهدّ الرصيف من فرط المنتظرين، أخشى أن يردّ العدم التحية، أخشى أن نلذّ له كما يلذّ لنا.

Thursday, June 11, 2020

كنتَ تقول لي

أحدّثك الآن عن بداية العالم التي تأكل نفسها كل لحظة. لن يكون هذا أقل سخفاً من طرشقة لبانة، ولن يمنع الناس من محاولاتهم الملحّة للقبض على بداية العالم إثباتاً لوجودهم واستثماراً لأجل بقاء النوع. لكنه سيكون قرناً، شوكة، فكّاً، ومخلباً أيضاً، عرفاناً وبرهاناً أكيداً على أن العالم لم، ولا ولن، يبدأ أبداً في لحظة ما، إلا ليبدأ أيضاً في كل لحظة أخرى. وسنعلم عندها أن هذه السلسلة التاريخية الطويلة ليست ولا حتى رماد العالم، ما دام العالم يبدأ فعلاً في بطن كل لحظة ويحدث ويصير. هكذا. واللحظات لا تتوالى، كما تعلم. وعندما يحدث العالم في بطن هذه اللحظة، يكون حادثاً أيضاً في بطن اللحظة التي هي تزحف الآن إلى جانبها في رأسك يا أنت الذي نأيتَ كثيراً، كما ترى، عن المستقبل، وها أنت ذا ترغب في البكاء. سوى أنك لن تبكي. إنك لن تبكي، تمام؟. نعم، يؤلم الحاضر بطنك. ونعم، كلما أخبرك الماضي بأن المستقبل يؤلم أكثر، ترغب في البكاء أشدّ مما بكيت يوم بكى ذلك الرجل الجميل على فراشك وهو ينوح محروقاً بأن العربات!؛ عربات السمك يا حبيبي، قد انقلبت كلها عند ناصية السوق. لكنك الآن لن تبكي. عدني بأن لا تبكي، عدني بهذا. أنت تعرف أن المستقبل يرقد الآن في بطن بداية العالم التي تأكل نفسها كل لحظة، صاح؟.

Sunday, May 10, 2020

ما الذي يترنّم بي؟

مدادي يرنُّ كتابي 

وإلْفِي بعيد.

سوَاقيّ،

آمال لحمي،

تقاذيف قلبي إلى النور:

سندانٌ على حمم،

والمطارقُ تشدو كلمات اللّحم

على فمي الذي

يرنّ كتابي وإلْفِي أريد.

هذه موسيقى الموسيقى.

هذه الغبطة المنيرة ويلاً كمجزرة،

هذه الأرض.

هذه الأرض حبيبي،

حلبتُ لها دمي في فمي

وأذقتُ طَعماً.

 

مَن ينادي كلماتي سواك؟،

مَن يناديني من سديم القوارع يا مدادي؟،

مَن يجنّدني جائحةً في حملة الماء والنار،

مَن يسوق حمير قلبي عبر هذه الموسيقى؟.

ما الذي يترنّم بي؟.


Thursday, April 4, 2019

جــاء ضُـحـىً

جاء ضُحىً
وهو يغالب عينيه.
رويداً رويداً،
توارى عنّا موج الهجير.
تكلّمْنا في سعة الضِّيق
وضِيق السعة،
الطير والشجر،
الغزاة والرّيح.
وابتلّت عيناه
عند ذكر الغزلان
في ذلك الوادي.

هكذا،
رحنا نتشادٙى إنشاد الرواعيّة،
حتى صاحت السدرة محنقةً من خلفنا:
لا يُعقٙل!

أين بئري


كلما تقاذفَتْ قلبي أهواؤه
وتنازعته كواكبه،

تذكّرتُك يا يوسف

واشتهيتُ البئرَ
البئرَ
البئرَ

اشتهيتُ كموني
وأنوثتي
وانتظاري،

عسى أن أرى دلوَ العزيز يراني
وأسمعه
يتناثر نازلاً بإزائي من وراء حجاب
وتخرج كلماته المشتاقة من فم الكون
يصيح:
ياااا بشرى
هذا غلام!.

Thursday, March 28, 2019

النّـور قريب

يده حرشاء كأنها ظاهر السمكة.
سأعرف حالاً،
وأنا أصافحها أول مرة،
أنها محفوفة بالمخاطر.

لكنها ليست علامته،
وإن كانت باغية الظهور ولا تُنسى.
علامة النور كلابه.
النور قريب.

مِن هناك إلى هناك، هَوْ هَوْ هَوْ:
تقول الكلاب.
وكلما فتحت النافذة: هَوْ هَوْ هَوْ،
فأعرف
أن
النور
قريب.

الرعب ذاته دائماً: النور قريب.
الرعب ذاته.
لقد حضر النور.

القانون: 
إذا حضر النور عليك أن تحضر.

والنور لا يحضر إلا عندك.
عندك: أي لا مفرّ.
عندك: أي حيث أنت حاضر سلفاً.
عندك: النور يلد النور.
الرعب ذاته.
النور قريب.

في النهاية لا بدّ أيضاً من سمكة.

Wednesday, March 27, 2019

حِــلٌّ بهذا البلد

إننا على قطار.
في إحدى عربات الوسط.
اقترب القطار من البيت.
رأينا فتيان الحارة 15 يلعبون الكرة في الميدان كعادتهم كل عصر.
السماء صافية وضوء الشمس يغمر المكان بلا حرارة.
حملنا حقيبتينا الصغيرتين استعداداً للنزول.
لم يهدئ القطار من سرعته.
صحتُ وصاحبي ثم أخرجنا رايتين،
ورحنا نمدّ يدينا بهما من النافذة ونلوح للسائق أن يتوقف لنا كي ننزل.
ركضنا نحو أذرع المكابح وأزرار التنبيه الحمراء لكن فات الأوان.
لم ننزل.
لم يتوقف القطار.
مرّ من فوق البيت والميدان في سرعة وصخب متزايدين، 
وما عدنا نراه.
قال لي صاحبي: المحطة التالية في الغدير. سننزل هناك. هيا.
مشينا بإصرار تحت مطر كثيف في محاذاة خط السكة الحديد من خارج السور الشاهق.

وصلنا لاهثَين ومبلولين إلى مشارف قرية الغدير، 
وعلينا أن نصعد الجبل الطيني قبل المحطة ونعبره إلى الجهة الأخرى.
تخفيفاً، قذفنا بحقيبتنا إلى أعلى.
ورحنا نتسلق من فجوات صغيرة في جسد الجبل الطيني، لكنها كانت زلقة جداً، فتردَّيْنا كثيراً والفجوات تنهار بأيدينا وأقدامنا كل مرة من فرط البلل.
عند الفجر، صعدنا أخيراً.
وأتانا صوت الجليلة إخلاص من جانب القرية، صاعقاً وقوياً كما هو.
"يا أرضُ يا ثائرة، يا نقطة الدائرة
جاء ابنك القيّوم، يهدي الخطى الحائرة"*.
نعرف الكلمات لكن لم نعرف من قبل أنها أنشدتها.
سألني صاحبي: هل أنشد ذاك الفتى غيرها؟
تناولنا الحقيبتين وانزلقنا نازلين بيُسر من الجهة الأخرى.
وثيابنا مثقلة بالطين والبرد.

رأينا رجلاً واقفاً على مسافة في ثياب مثقلة بالطين والبرد أيضاً.
نظر إلينا باهتمام ثم مضى منعطفاً عند شارع قريب.

المحطة خالية ولا أثر للقطار.
قلت لصاحبي: دعنا نعود إلى البيت إذاً.
قال إنه يريد النزول. قال إنه سيلحق بالقطار إلى محطة العنقريب.
انتبهت إلى أني أحمل حقيبته، فمددت بها إليه ليعطيني حقيبتي.
لكنه لم يفهم.
قلت له شارحاً: يبدو أننا تبادلنا الحقائب فوق الجبل.
قال: لا. حقيبتي معي. انظر.
حقاً.
لم تكن التي معه هي حقيبتي. كانت معه حقيبته. 
والتي معي ليست حقيبتي.
إن هذه مثل التي يحملها التلاميذ، حقيبة صارخة الألوان ومكتظة.
حقيبة من هذه؟

انتبهنا في حيرتنا ووجدنا ذلك الرجل الذي رأينا أولاً قد عاد، 
وأنه يقف الآن قريباً منا، 
في جلباب أبيض ونظيف.
كان يصغي إلى حوارنا.
قال بصوت مجلجل:
إن كانت هذه حقيبة شخص آخر فلا بدّ أنكما قد قتلتما صاحبها.
اجتمع الناس من حولنا،
وصرنا متهَمَين كثيراً بقتل هذا الولد الذي وجدوه مقتولاً يتوهّج فوق الجبل الطيني،
وإلى جانبه حقيبتي.
 _____
*من قصيدة للشاعر عوض الكريم موسى، سجّلها المنشدان عبد الكريم علي موسى في (١٢ مايو ١٩٧٧) وصدّيق عبد الله في (٣ ديسمبر ١٩٧٩م). 
النص والتسجيلان على موقع الفكرة الجمهورية: (يا أرض يا ثائرة).

Saturday, December 9, 2017

Archetype

تنهض الأنقاض منهكة وجائعة ولا تملك أن تفعل شيئاً غير أن تترنّح. لكن إذا نظرْنا إليها أدركنا حالاً أن الترنّح لا يروق لها إطلاقاً لذا نراها تحاول جاهدة أن تسمو به إلى مقام التلفّت. إنها تتلفت إذاً، ليس قلقاً ولا بحثاً عن شيء، إنما هي تفعله وحسب. وربما صحّ لنا في هذه الحالة أن نهمل الفروق العُرفية بين الترنّح والتلفّت والتنفّس. تتلفت الأنقاض حولها وتراه منتصباً، حيثما هي نظرٙت، ومكتفياً بذاته يتجشّأ من فرط الشبع. وهي لا تملك الآن غير أن تشتهي هذا الذي ترى. لا تفكر في ذلك لحظة، إنما هذا هو ما يعرف جوعها ويريد. يريد جوعها أن يأكل هذا الذي ترى، أن يلتهمه، أن يفترسه.

ينتبه الجمال من سرحته على حدس مُلحّ بأن هناك من يراقبه. ليس بتلك النظرات المختلسة التي اكتفى عنها بذاته وتعلّم أن لا يلتفت إليها (وإلا توارت خوفاً  أمامه على وفرتها؛ لقنوعها من شهوتها إليه بأنها محض ذيوع لا يستحق منه التفاتاً)، إنما يراقبه مَن يراقبه الآن بنهم لا يملك الجمال إزاءه إلا أن يجوع إليه أيضاً. هنا، وقبل أن يلتفت الجمال إلى مَن يراقبه، يدرك حالاً أن شبعه لا يروق له إطلاقاً وعليه أن يسمو به إلى مقام النهم. وربما صحّ لنا في هذه الحالة أن نهمل الفروق العُرفية بين الشبع والنهم والجوع. ينظر الجمال إليها ويرى أجمل ما يكون. لا يفكر في ذلك لحظة، إنما هذا هو ما يعرف جوعه ويريد. يريد جوعه أن يأكل هذا الذي يرى، أن يلتهمه، أن يفترسه.

الأنقاض جائعة والجمال جائع، يقفان هنا، حيواناً لحيوان، ينتفشان متأهبين، ينقضّان.


ينهض الجمال مترنحاً، أشدّ شبعاً ونهماً وجوعاً، أشدّ جمالاً، يتلفّت.

Thursday, August 17, 2017

القمر المجنون

إلى التجاني يوسف بشير

أمس، أمس البعيد، كانت السماء خلاءً، ولا «يُوشَع» فيها ولا أيّ شيء. وكان «الممكن» مُولعاً بالسير عبر جسر السراط ذهاباً وإياباً بلا تعب فإن هذا يُنشّط دورته الدموية التي يحبّها كثيراً، وكاد أن لا يفعل شيئاً سوى ذلك. حتى أهمّ الاجتماعات كان يَعقِدها هنالك تاركاً بلاط العرش خواءً تصفّر فيه الرياح اللعوب وتلهو بما حملت من الأكياس والأوراق والقشّ وربما بعض مكايد الملأ الأعلى. كانت الأمور على حالها فضفاصة في تلكم الأيام ولا غرو، فإنه قد كان شديد التسامح، وما زال كثير من المواطنين يبكون أيامه أسفاً بدموع الدم. وكم شُوهد في كوكبة من أعضاء روحه الكرام وشركائه في مُلك هذا الأبد يهرولون عبر الجسر، طوراً يضحكون ضحكاتهم اليابسة وطوراً يتقاذفون بما حملوا من الأوراق والدبّاسات والأختام والدوسيهات الفارغة وحتى بالدسبوزابل من أطباق الطعام وقوارير المياه الغازية.
وفي زمنه الخاصّ كان «الممكن» يُطلق العنانَ لمهاراته الاستعراضية راقصاً على إصبع واحدة أو متقافزاً على درابزين السراط مثيراً حسد العابرين المرتجفين من أصحاب النار الذين سرعان ما يتساقطون مثل فَراش محترق إلى أعماق اللّظى تلاحقهم ضحكاته المجلجلة العابثة يُطلقها وراءهم وهو ينظر إليهم منحنياً على ذلك الدرابزين المطّاطيّ المخادع. كان يستمتع حقاً بذلك كله، وكانت الأمور على ما يرام؛ ليس سعيداً حقاً وليس بائساً تماماً، إلى أن رفع رأسه ذات يوم ورأى لوح السماء الخالي.
نظرة واحدة إلى لوح السماء: بعدها ما عاد «الممكن» قادراً بالفعل على أن يفعل أيّ شيء، ولا حتى عبور السراط، دعك من أن يحبّ دورته الدموية. صار ما إن يخطو أول خطوة على جسر السراط حتى تصطكّ رُكبتاه ويرتدّ مرتعداً وعيناه تتابعان نصل السيف اللانهائيّ ممتداً أمامه حيث كان الجسر العريض الممهّد المضياف، الجسر الذي كم كان فارس الفرسان في ساحاته وكم جلجلت ضحكاته وكم جذبت رقصاته قدراً من المشاهدين اللطفاء. صار ما يدنو من جسر السراط إلا وترتعد فرائصه ويوشك أن يخبط الأرض صريعاً، فيُلقي ببعض المعاذير إلى رفاقه بنبرة مهزوزة وينكفئ عائداً ليحبس نفسه في قاعة المرحاض وينتحب. وفي أيام الانفراجات كان يفضّل أن يستقبل ضيوفه واجتماعات الحكومة حول العرش المعاد إليه ماء وجهه أخيراً في قصر النعيم، أو في قاعة من قاعات الملاعب الواسعة حيث يجدّد العناية بدورته الدموية ومرة واحدة يراعي أمور الأبد. وحينما يتذكر بعض رفاقه من الملأ الأعلى مباهج الأيام الخوالي ويقترحون على حضرته أن يذهبوا للتنافس على مَن يكون أسرع في عبور الجسر كان ما أسرع صاحبهم في إلقاء المعاذير يختلقها حالاً، وفي الغالب لا يخبرهم بأنه سيصعد إلى التلال.
نعم، كان يكره الذهاب إلى التلال لكنه تعلّم أن يحبّ ذلك. وصار النظر إلى لوح السماء الباهت هوايته المفضّلة، يستلقِي على تلّة عالية ويظلّ يحدّق فيها متفكراً. شيئاً فشيئاً طوّر بعضاً من مهارات التأمّل. كانت السماء تعجبه هكذا، بحلكتها المسطّحة الخالية، ظلمة ميتة على الدوام ولا شيء على الإطلاق. كان يحسّ بأنها تشبهه وأنها تتجاوب مع محنته. أحبّ السماء على ذلك النحو لبعض الوقت ريثما نقهت جراحه وبارحته لذعة الإحساس بالفشل، الفشل الذي كُلّلت جهوده في إخفائه عن أعضاء روحه الكرام بنجاح أخرس، ولم يتنبّه أحدٌ منهم إلى أنه عازف عن وطء السراط رعباً، طبعاً هذا أمرٌ لا يصدق!، من سيخطر له أن يفكّر في بهتان كهذا!. اغرورقت عيناه تأثّراً حينما انتبه إلى أن هذا أول شيء ينجح فيه من دون أن يتحوّل إلى مهرجان عارم. وكانت السماء مظلمة وخاوية وجميلة أيضاً، «إذَن أنا جميل أيضاً»، هكذا بات أخيراً يردّد في سرّه كلما نظر إليها. تذكّر أنه كان يحبّ في صباه أغنية الفنان الكبير سيد خليفة «يوم، في يوم غريب» فأيقظها من رُفاتها وصار يستمع إليها كأنما طول الأبد.
مع تطوّر مهاراته التأملية واستعادته شيئاً من الإحساس بأنه قادر على أن يفعل شيئاً ما لكنه لا يعرف ما هو بعد؛ لم يعد معجباً بحال السماء كثيراً فأحسّ بالخجل وأنّب نفسه المتوانية قائلاً: «أيّ أنانيّ أنا!، كلّ هذا الظلام!، كلّ هذا اللاشيء!، ما جدوى دمي الكثير إذا لم أصنع منه شيئاً يسرّ الناظرين ويجبر كَسْر الخاطرين؟». فكّر في الأمر قليلاً ثم استعان ببعض الأصدقاء من الحادبين على الصالح العام، وأخيراً قرّ قراره على أمر مصيريّ سوف يغير مسار الكون. إنه لا يمزح في مثل هذه الأمور.
بعون حاشيته المخلصة، أعضاء روحه الكرام والتجّار والسماسرة والموظّفين وأفراد الإدارات الأمنية والعلماء وأهل الحلّ والعَقد على وجه الخصوص وغيرهم من خيرة رجالات الأبد الذين يحسنون المكايد، مضى في تنفيذ خطته إلى أن اكتملت عملياً وبقيت الخطوة الإجرائية الأخيرة وهي الإعلان والحصول حتماً على موافقة الملأ الأعلى. ولما كانت حاشيته تمثل نسبة ضئيلة من مجمل أفراد الملأ الأعلى فإنه قد اتخذ احتياطاته الأمنية كافةً تحسّباً لأيّ عصيان لمشيئته أو التصويت خصماً عليها أو شيء من هذا القبيل. نعم، هنا أيضاً يفاجئونك بالعفانات!.
دعا جميع أعضاء الملأ الأعلى إلى جلسة برلمانية مصيرية لا تحتمل الغياب والأعذار، فاجتمعوا إليه مُمنّين أنفسهم بعشاء جيد على الأقل، وربما مُغلّف مكافآت حسن التعبئة. وبكلّ ثبات أعلن التفاصيل عليهم في خطاب شديد اللهجة؛ نستمع إليه من تسجيلات إذاعة إسرافيل ثم نعود إلى سرد بقية الأحداث:
«أيها الملأ الأعلى، هذا يومٌ جميل، وبعد: قد هدَاني تدبيري أخيراً إلى خطة أبدية ستريحكم من جميع مهماتكم العليا، نعم. لكن قبل أن أسعدكم بها دعوني أقول لكم أولاً حذار ثم حذار من إنفاق الأبد في الفارغة!. ليجد كلّ منكم أمراً مفيداً يفعله بنفسه إلى أن نخلص من هذا الأبد ونشوف غيره. تعلّموا الرقص مثلاً، تعلّموا المسرح، تعلّموا الفلسفة، تعلّموا القراءة والكتابة، تعلّموا الرسم، تعلّموا التصوير، تعلّموا الموسيقى، تعلّموا ما استطعتم من اللغات، تعلّموا الكيمياء والفيزياء والأحياء. يمكن عمل كثير من الأمور اللذيذة في نصف أبدٍ صغيرٍ كهذا بلا عناء. كل شيء إلا الفارغة. المهم، الخطة كالآتي: النكاح السّاري في جميع الذّراري... هههه شكراً شكراً، شعار جميل مش؟، هههه، كلّكم ذوق، كل إبداعاتي من أجلكم أيها الملأ الجميل، شكراً شكراً، طيّب بطِّلوا التصفيق وخَلّونا نقول المهم!. الحقيقة... أهلاً أهلاً أيها السفير... طيب، اقتراح جميل... يا ناس اللوح المحفوظ، السفير «جبريل» يقترح أن نطبع الشعار على الفنايل والكراسات والكتب والبوسترات إلى آخره، يُنفّذ حالاً، طيب. الحقيقة... نعم؟، جميل... كل الاقتراحات تُسلّم إلى إدارة اللوح المحفوظ يا جماعة، سننظر فيها بعد الجلسة، هدوء، هدوء، حسناً. الحقيقة إني لم أكن راضياً عن حال السماء، بكل أمانة يعني، يعني من زمان شديد. وياما قلت لنفسي يا ولد يا تفتيحة!، إنت محترم وخطير وكل شيء لكن تنقصك أهم حاجة: الذرّية الصالحة!. لا تعرفون ما هي الذرّية الصالحة؟، حسناً سأخبركم. بكل صراحة... كفى ضجيجاً أيها الملأ الأعلى، سأخبركم، احفظوا النظام لو سمحتم، كفا... يااا... يا ناس النظام العام!، ياااا «ربّنا» إنت!، يا محترم!، يا سبحانه وتعالى، كمّلت الفول المدمّس كله، ياخ قوم شوف شغلك سَكّت الأمة دي عشان نعرف نتكلّم...، طيب، شكراً ليك يا أصلي. بكل صراحة أنا لا أعرف شيئاً كثيراً عن الذرّية الصالحة، لكن أعرف كيف نحصل عليها، وكيف نجعلها تعمل من أجلنا جميعاً من دون أن تُكلّف أحداً منكم ولا مليم، تمام؟. في سبيل الصالح العام، أعلن أمامكم الآن، بكل تواضع، أيها الملأ الأعلى، إني قد نذرتُ دمي تبرّعاً لهذه المهمة التي سترفع عن كاهلنا سائر الأعباء، نعم. شكراً شكراً، هذا أقل مما تستحقون، أنتم الخير كله. حسناً، دعوني أقول لكم لماذا دمي أنا على وجه الخصوص: بعد إجراء كثير من الفحوصات على عيّنات مختلفة من فصائل دمي العديدة، في «معامل الأعراف» بالمناسبة لئلا نسمع تشكيكاً في النتائج وهي معامل مشهود لها بالحياد والسمعة الطيبة كما تعلمون، تبيّن أن دمي يتفرّد بخاصية انتشار قادرة على اختراق أعتى أجهزة المناعة بمعدلات جرثومية فائقة السرعة والكفاءة، وحرام أن لا نستفيد من هذه النعمة بما يعود علينا جميعاً بالخير ويُعتقنا من أعباء الوظيفة!. كان المرحوم أبي يحب دائماً أن يقول: «إذا كان لا بدّ لنا من الكدح، فلنكدح من أجل تحقيق أحلامنا الحقيقية». اليوم سنثبت معاً أن هذه المقولة صحيحة مية في المية. وأحلامنا يا سادتي بسيطة ومشروعة، منا من يريد أن يقرأ رواية الخيميائي ثم يكتب روايات، منا من يريد أن يزرع حديقة ورد، منا من يريد أن يربي نحلاً، منا من يريد أن يكسر الحصار المعنوي على ساحل النار ويتزوّج إحدى جميلات العصور خصوصاً من مدينة الدرك الأسفل، منا من يريد رعاية البراعم والناشئين، منا من يريد أن يزور السودان. كل هذه الأحلام الثورية العظيمة، أحلام النخبة الفاضلة، تتبدّد على مذبح الشغل وواجبات الضيافة في المكاتب. وكلنا نعلم إننا الآن في منتصف الأبد، أي «ذوَى من زهرة العمر نصفها» كما جاء في لوح الأناشيد، فهل يسرّكم أيها الملأ الأعلى أن نُنفق النصف الباقي، وهو الأجمل للمعلومية، أقول هل يسرّكم أن ننفق النصف الباقي في مطاردة الأرزاق، والسيدة ميكاييل اليوم نائمة، وغداً مسافرة، وبعده عرس ابنتها، وثلاثة أشهر خزائنها فارغة؟. إن هذا ضَيمٌ أيها السادة الكرام، ضَيمٌ ما بعده ضَيم!. وعلى هذه الحال سينتهي بكم الأبد إذا لم نفعل شيئاً، فهل هذا ما تريدون؟، هل هذا ما تريدون؟. كما قلت لكم، كما قلت لكم، الأمر بأيدينا، والنكاح السّاري في جميع الذراري هو الحل، فهل أنتم موافقون؟... هل أنتم موافقون؟... هل أنتم موافقون؟. عظيم عظيم عظيم، الآن أنتم تنظرون إلى مستقبلكم بعين مشرقة، أتعرفون ما هي هذه العين المشرقة؟، أتريدون أن تعرفوا ما هي هذه العين المشرقة؟، من دمي أنا، «الممكن»، من دمي صنعتها في سبيل رفاهيتكم أيها الملأ الأعلى، أقدم لكم... «يُوووشَع»: مفففخرة علوم الإشراق، جوووهرة الأبد، عين الضياء المشرقة، التي ستعيش من دمي، وتمزجه بدماء الفجر، كي تنجب كل شهر ولداً صالحاً يأخذ عن عاتقنا عبء العمل، هذه هي الذرّية الصالحة!، اننننطلقوا أيها السادة الأحرار إلى أحلامكم الثورية!».
ليس هذا هو ما جرى بالضبط للأسف، أعني لحسن الحظ. نعم نُصِبَت «يُوشَع» في قلب السماء المتجانسة المظلمة فأشعلت فيها حياةً لا حدود لآلائها بل مضت أبعد مما ظن أي أحد. وبالطبع أنجزت أيضاً ما صنعها «الممكن» من أجله وظلت تلد كل شهر ولداً من دماء الفجر الخالصة. لبعض الوقت لم نعلم كيف استطاعت أن تخلّص أولادها من دماء «الممكن»، لكنها قد فعلتها يقيناً، وربما لهذا السبب لم ينتهضوا بأي عمل من أعمال الملأ الأعلى. نعم، هذا بعض ما جرى. لم يفعل أبناء «يُوشَع» شيئاً وإنما ظلوا يتبخترون بأنوارهم في بستان السماء الذي فاض بهجة ونشاطاً وصوراً وكلاماً بفضل أمّهم، منذا سيجرؤ على زجرهم؟. وفي المقابل ما عاد الملأ الأعلى يفعلون ولا شيئاً واحداً من أعمالهم التي تنصَبّ في خدمة الصالح العام وإنما صار التنافس على السلطة شغلهم الشاغل. وتفشّت البطَالة في عالم الأبد كأسوأ ما يكون، واستشرَت الجريمة والفساد، وتفرّغت أعداد غفيرة من عبيد الشغل المتذمّرين لتلك الأحلام الثورية من دون طائل. وقيل إن ضغائن الإخفاق قد أودت ببعضهم إلى حدّ الضياع في صحراء الحشرات آكلة المداد.
أما «الممكن» فإنه قد اكتسب شعبية كبيرة بفضل كل ما جرى، وسرعان ما اعتزل العمل السياسي تاركاً العرش نهباً بين أيدي شراذم الملأ الطامعة فيه من زمان. قال إنه يريد أن يلتفت إلى مواهبه الفنّية الدفينة بعد أن تم له التوفيق وحقّق كل طموحاته السياسية، «أنا أصلاً فنّان!»، هكذا صار يردّد كلما وجد الفرصة. بالفعل، بعد أسبوعين من العمل التلفوني الدؤوب والزيارات المفاجئة إلى أستوديوهات الإنتاج الإعلامي بسوق الصّوَر، صار نجماً شهيراً في عالم الفنّ، أشهر مما كان في معترك العمل السياسي، وبات يُنفق جُلّ وقته في أداء الدعايات التلفزيونية ذات الطابع الرياضي لقاء أموال باهظة. ووسط شواغله يطلّ كلّ كمْ يوم على مصنعه الصغير لطباعة ماركته المسجّلة «النكاح الساري في جميع الذّراري» على كل شيء. طبعاً لن يتوانى إذا استطاع أن يطبعها على جميع الذّراري، وبأسعار مخفّضة لهدايا عيد الميلاد.
وكم بدا مغتبطاً بانبعاث مواهبه الدفينة وازدهار صفحته على جريدة الأحكام الرقمية، دون أن يفكر لحظةً على الأرجح في أن الأمور قد جرت بعيداً جداً عن توقّعاته، حتى أفضت إلى رفع الحصار المعنويّ تماماً عن ساحل النار، وعربدت مهرجانات الهجائن، وانطلقت الألعاب النارية في سماء الجنة، وأُقيمت عشرات الجسور بين الساحلين اللذَين اختصما نصف أبدٍ كامل، وهُجر جسر السراط الغدّار ونُهبَت معادنه ولدائنه النادرة النظير وبيعت بالأوقية في سوق التلسكوب، واختلطت دماء الجانبين منعشةً علوم الوراثة بالأعاجيب من سلالات ما خال أحدٌ أنها ممكنة.
وبدا أن انعقاد أواصر السلام بين الساحلين كان يقتضي أقل كثيراً مما توقّع الجميع: أن يكفّ الملأ الأعلى عن ما يفعلون، فقط!، ليجيء السلام ذليلاً يقول خذوني: أنا آسف، لم أسمع بكم من قبل. كان سلاماً باطلاً على أية حال كما لو كان يهزأ من مزاعم «الممكن»، والأحرى أن نسمّيه وئاماً، لكنه جلب إلينا كثيراً من الخيرات وسط غثاء النزاعات السياسية. ولم تقتصر خيراته على سواحلنا وإنما تخطى عالمنا بصَمّته إلى أقصى مما تصوّرنا. وصارت خطوط الشروع الحرّ تجلب من بوابات هوجرين الحدودية كائنات أشدّ غرابة من كل ما شطحت به أخيلة القصّاصين وأهل الرؤى والوساوس.
كان أغرب ما رأينا جنساً هجيناً من كتاب وطائر. كل ما نراه الآن من أجناس الكتب الطيور ما كان موجوداً ههنا قبل تلك الأحداث وإنما منذها بدأت بوادره تتوافد شيئاً فشيئاً وراحت تتزاوج في ما بينها، وما زالت خطوط الشروع الحر تجلب كل يوم مزيداً. كانت الكتب الأولى شديدة التوحّش مرتابة وضارية في بدء مجيئها كما لو إنها قد فوجئت بوصولها إلى مكان غير الذي خالت إنها ذاهبة إليه. وكانت تحلّق دائبة في سماء عالمنا متحيّنة سوانح الغفلات لتنقضّ على من يكون في متناولها وتنكحه أو تفترسه بصَمّته أو تمتصّ دمه وتتركه يابساً كاللحاء. دام هذا شأنها إلى أن أصبح البعض يفضّلون نكاحها على كل نكاح ويُفيضون في مدحه، وكانوا هم ذاتهم يُؤكلون ويُشربون أحياناً. ونتاجاً لتكاثرها مع أهل أقاليمنا فضلاً عن تكاثرها مع بعضها البعض لم يمض وقت طويل حتى عجّت بها طرقات الأبد، ولا تسَل عن المدارس والأسواق والسواحل بل والمنازل، وصارت سلالاتها فرعاً أصيلاً في أقاليم هذا الأبد. يجزم البعض أنها أفضل ما جرى لعالمنا منذ نموّ سدرة المنتهى في بادية هوجرين.
بعد دهر داهر من التناحرات الداخلية والفساد وأعمال النهب المسلح، داخل الجنة منها وفيها، اعتزلت السيدة «ميكاييل» العمل في خزانة الأرزاق ورحلت بحاشيتها العظيمة إلى أين لا أحد يدري. غريب حقاً أن تختفي «ميكاييل» هكذا بعد أن ملأت عالم الأبد لغطاً وانتحاراتٍ من مظالمها ونحيباً أمام شبابيك المحاسبين وعند أفواه الطرقات بعد نفاد الرزق خلال أقل من يوم. أما وأنها قد نُسيت بسرعة قياسية فلا غرابة في ذلك. الحقّ إن الناس قد شُغلوا أيامها بالنجم العسكريّ الصاعد الذي كان مدفوناً خلال عهد «الممكن» في إدارة النظام العام المحاطة بالشّبُهات والكآبة والظلام وأشباح المقتولين صبراً. كانوا يسمّونه «ربّنا» لكنه اختار لنفسه اسماً برّاقاً بعد أن سطع نجمه بفضل سيطرته على مجموعة كبيرة من سفهاء الكتائب المسلّحة المنتشرين على كل ناصية في عالم الأبد، سَمّى نفسه «الميحاد». وصار أتباعه لا يبدأون حديثاً إلا بعد أن يقولوا متهدّجين: «بسم الواحد الميحاد الوحيد...»، أما هم فإنهم قد اتخذوا لأنفسهم اسماً بدَورهم «عِبَاد الميحاد». وكلما صاح بهم صاحبهم يستثيرهم في المخاطبات الميدانية قبل كل غارَة: «عباد الميحاد لا خوف عليهم ولا هم يحزنون»، كنت تراهم يهلّلون ويبكون ويضحكون ويسجدون حتى تنزلق الكلاشات زاعقةً من على أكتافهم، ثم ينهضون بنشوة عارمة مندفعين كسيل من الجواميس الهائجة يَسحلون ويَنكحون ويَذبحون ويُحرقون ويُغرقون ويَسرقون ويَرحلون عاراً باقياً على وجه هذا الأبد. لا وصف يوفي تلكم الأيام حقّ شقائها. على هذه الوتيرة لم يَطل الأمر بالميحاد حتى قضى على أغلب طوائف الملأ الأعلى المتناحرة في تصفيات جماعية علنية، واستوى على العرش.
آآه العرش! وما أدراك ما العرش!. كان «الميحاد» شديد الاهتمام بعرشه ويخشى عليه من لمسة النسيم الحانية، فما بالك أن يهتزّ مرةً في ليلة 14 من كل شهر؟. نعم، هذا هو اللغز العظيم الذي أعجز أرتالاً من العلماء عهداً طويلاً ووقف أمامه أساطين السحر والأوفاق والتنجيم والفلكيون وأهل الصناعات الخفية يضربون أخماساً في أسداس دون أن يعرفوا ما العلة. ولو إنها كانت اهتزازة يسيرة يستقرّ العرش بعدها لمَا كان الأمر مُقلقاً بهذا القدر، لكنّ ذاك العرش المتين يهتزّ اهتزازةً تنشقّ من بأسها أطواد القصور الشامخة وتذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى. لا بدّ إنه شيء قديرٌ وعظيم الشأن هذا الذي استطاع أن يزلزل عرش الميحاد. وليتها كانت مرة واحدة وخلاص، إنها مرة كل شهر، ونصف أبدٍ ليس بالوقت القصير إذا كان لهذا الشيء أن يستمرّ. باستثناء هذا لم يكن ثمة ما يُقلق «الميحاد» وعباده خلال قرون طويلة تالية مُذ دالت له دولة الأبد بساحليها، دونما أحداث تستحقّ الذكر، سوى أن العرش قد ظلّ يهتزّ ويتشقّق، ليلة 14 بالضبط من كل شهر، ويعاد ترميمه بتكاليف أقلها عسراً مواد البناء.
مضت القرون، وحالياً تغيّرت أسماء كثيرة وتغيّرت الخرائط وتغيّرت المقامات، وإذا سمعتَ اليوم مَن يَذكر الملأ الأعلى، بإجلال طبعاً، فاعلم أنه يعني «يُوشَع» وأولادها لا غيرهم. كذلك ما عاد الأبد هو الأبد، وما عاد أحدٌ يعرف إن كانت له حقاً بداية ونهاية، بعد أن اندثرت أعمال المؤرّخين القدماء في إطار حملة «الميحاد» الشعواء طويلة الأمد لمحو آثار سابقيه. وصارت تتردّد أحياناً نبوءة شعبية فضفاضة عن عصر إبادة جماعية شاملة يسمّونه «يوم القيامة»، وبين بشير ونذير يُثير البُخلاء مرةً فالأخرى أمر النهاية هذا بتنويعاتٍ لا حصر لها ولا يَجمع بينها سوى غليظ التشديد على أن تلك الإبادة الجماعية الشاملة سوف تكون من تدبيرِ مجرمٍ واحد لم يتفق اثنان على اسم واحد له. حقاً تغيّرت الأمور كثيراً. وظللنا، نحن أهل الأعراف، حتى وقت قريب نسمع بين حين وآخر أنباء متفرّقة عن نشوب الأعمال المسلّحة بين النار والجنة من جديد دون أن تفسد حالة الوئام العامة.
أخيراً حملت إلينا رياح الأنباء ما حضّ الجميع على شراء كميات كبيرة من التموينات ومَلء الصهاريج والبراميل والحِلَل وحتى الكبابي بالماء تحسّباً لما سيأتي؛ قد أكدت تقارير المراسلين مذعورةً أن «الميحاد» يستعدّ تحت تحت لتنفيذ خطة القيامة النبوئية تحت اسم «عملية اليوم الآخر»، نعم، سرّي للغاية. ونقل المراسلون عن مجهولين من «عباد الميحاد» قولهم إنّ لدى «الميحاد» كتاباً يرصد تاريخ هذا الأبد منذ بدايته إلى نهايته، وإن الكتاب يحوي شواهد واضحة وعلامات كبرى وصغرى على إننا نعيش في آخر الزمان وإن هذه الأيام هي بالضبط ميقات النهاية.
لكن هذا كلّه لم يُفزع الناس بقدر شائعةٍ قوية سرَت من أقاصي شغاف النار هذه المرّة، وأن تسري شائعة من ساحل النار فإن هذا أمر ذو مغزى كبير يؤكد مصداقية الشائعة. وإن لم نَدرِ يوماً مَن الذين يُشِيعونها على وجه التحديد؛ إلا أن شائعات النار ما سرَت من قبل إلا وكانت حقاً. تزعم الشائعة إن للميحاد جنوداً جواسيس يعملون في عوالم الأبد التالي ولا أحد يراهم. نعم، في عوالم الأبد التالي، كما قالت الشائعة، ولا أحد يراهم. إنهم يعملون في توائم يُدعى كلّ توأمين منهم «رقيب وعتيد»، ويعيشون مُتخَفّين على أكتاف الناس. وقالت الشائعة إن توأماً من جواسيس الأبد الطّفيليين أولئك هو الذي أتحف «الميحاد» بـ«كتاب يوم الساعة»، هذا هو اسم الكتاب النبوئيّ، وهو على حدّ قول الشائعة يحقق أعلى مبيعات الكتب في الأبد التالي بلا منازع. على أية حال ما زلنا ننتظر وقلوبنا في أيدينا إلى أن تبيّنَت لنا وللميحاد أمور أخرى جعلتنا نلتفت مرةً أخرى إلى «يُوشَع» وأولادها في غيوب الأعالي، باهتمام أكبر هذه المرة.
هنا أيضاً تغيّرت بعض الأمور أخيراً. علمنا سلفاً أن «أولاد يُوشَع» قد أبطلوا في الماضي أفاعيل الملأ الهالكين، وعلمنا أيضاً أن انصراف أولئك الأولاد عن فعل ما كان متوقعاً منهم قد أفضى إلى كل ما جرى بعد ذلك في عالم الأبد بخيره وبشرّه. ما لم نعلمه ولم يعلمه «الميحاد» إلا أخيراً أنهم منذ مولد أوّلهم كانوا يفعلون شيئاً آخر بدلاً عن الذي أبطلوه.
إلى غاية أمس القريب هذا ظلت «يُوشَع» تلد ولداً جديداً كل شهر من دماء الفجر النقية مثلما اعتدنا. ثم هل تطلع «يُوشَع» الصبورة إلا لترى ولدها؟، إنها في الواقع لا تراه أبداً!. وكم عصفت بها شهوتها إليه وأن تُفعم وجهها في شذى شَعره وأن تملّي عينيها في دم الفجر النقيّ إذ يسري ملء طلعته، لكنّ الصبيّ شديد الخَفر، إنه ما إن يراها تطلّ يسوقها عنفوان الشهوة حتى يتوارى سريعاً خلف الستائر، وربما أبصرت طرفاً مرتجفاً من قوس ردفه الأزرق أو كعب قدمه ينحسر سريعاً، ثم لا يطلع إلا إذ تغيب. وهكذا يتعاقبان. لا هي ينبغي لها أن تدركه ولا الليل سابق النهار. بل ولا يطلع الصبيّ الزاهي ناثراً شَعره الفضيّ النضير على لوح السماء الحالك إلا وينسى أمَّه. وهي أيضاً كلما طلعت ضحىً مرسلةً آلاء نورها لا تعود تذكر شيئاً عن الولد الذي توارى خفراً خلف الستائر.
مُولعاً بوعود جسده ووعود الحياة الجديدة يرمق اليافع آفاق السماء المتجدّدة البهيجة حتى إذا شبّ عن الطوق عَلا ممتطياً أواصر الشهر يبحث. الجميع يبحثون ويبحثون عن أشياء كثيرة، لكن «فتى يُوشَع» لا يبحث إلا عن العاشق. نعم، إنه يبحث عن عاشق تجاهره كلّ خلية في كيانه وفي جسده الحيّ المنير بأنه ينتظر مجيئه هناك في مقام البدر ليلة 14. وكان «فتى يُوشَع» دائماً يجدُ العاشق ينتظر، تماماً كما جاهرته خلاياه، في ليلة 14. وهناك، يا لهول هناك من هول اللقاء، يندفع العاشقان فيضاً تلقاء فيض، بَحران يلتقيان ليس بينهما بينٌ فيمتزجان، وعندها قيل ماذا؟: يهتزّ عرش «الميحاد»!.
قيل إن العرش يهتزّ طرباً ونشوةً ويهبّ يرقص حتى يخرّ صريعاً وليس يبالي إذا ما هو استحال تراباً فإنه قد رأى وكفى. وقيل إنما هو ينصعق!. ينصعقُ العرش غيرةً فيهتزّ فينصدع وهو يرى ملوكاً لا يبالون به، عرشهم الحياة وتاجهم الكوثر. لكن، طرباً كان اهتزازه أم غيرةً، فإن الأمرين سواء: إنه العشق!. إن العشق لا غيره هو الذي يهزّ عرش «الميحاد». والعاشقان يمضيان هَوَادَى فيقضيان معاً نصف شهرٍ من عسلٍ لا ينقضي ثم يصطحبان ومن جسد الوصال يرتشفان بلا منتهى.
أما «يُوشَع» الكريمة مِن دون مَنّ فإنها مشغولة، إنها تلد الولد الجديد من دماء الفجر ولا تعرف أنها قد وَلدت من قبل أولاداً بلا حصر يهزّون في مزاج العشق عرش «الميحاد» ويمتطون مع عشّاقهم جياد الحياة الحقّ إلى وصال الكوثر. على هذه الحال دام أمر المنوال، لكلّ ولد من أولاد يُوشَع مقدارُ عاشقٍ في صدر المنازل وقلب الحيّ بقلب الحيّ عالِم.
وكذا، حتى بعد أن علم «الميحاد» السبب، لم يستطع أن يفعل شيئاً لتحصين عرشه من الاهتزاز. نشَر الجنود في كل مكانٍ بحثاً عن عاشق الولد الجديد، ففاضت بالعشّاق سجونه ومحارقه ومشانقه وصلبانه ومقاصله ومقابره الجماعية. قَتل منهم من استطاع، شرّد منهم من استطاع وما استطاع، أخرَس منهم من استطاع جنوناً، أنطَق منهم من استطاع جنوناً، أرغم منهم من استطاع إرغامهم على فعل ما هو متوقّع منهم، وأبكاهم جميعاً. حتى إذا ظنّ أنه قد أبادهم عن آخرهم آنَت إلى كتاب الحياة ليلة 14 وامتزج العاشقان وماذا؟: اهتزّ عرش «الميحاد»!. ليلة 14 وراء ليلة 14. لم يستطع «الميحاد» أن يفعل شيئاً. أرسل الجنود إلى «يُوشَع» كي يطفئوها فانطفأوا في نورها وجمالها قبل أن يصلوا إلى حرماتها بألف برزخ وولدت ولداً جديداً يفوز بعاشقه.
بحثوا عن «الممكن» في كل مكان. بعد عناء وجدوه في سديم الفاشر، كهلاً متصابياً لا يزال، متأبطاً ذراع صبيّ مرح من صبيان الكُوانْتيب يحاول أن يشرح له بعض مبادئ الاحتمالات، و«الممكن» يصغي بأذنيه المتعبتين ويحاول صادقاً أن يطرد من ذهنه مجلّدات الجبر التي ربضت عليه دهوراً لعله يفهم. وحينما قالوا له لاهثين: «حسبك أيها العربيد!، إنّ يُوشَع تتغذّى من دمك!، يجب أن تقفل البَلِف حالاً!»، نظر إليهم مُقطّباً حاجبيه يريد أن يتذكّر مَن هؤلاء الهوان وماذا يقولون ثم أطلق ضحكته العابثة القديمة ذاتها وأخذ يتقافز راقصاً بخفة ورشاقة كما كان يفعل على جسر السراط، و«عباد الميحاد» يتلفّتون يخشون أن تتخطّفهم عُقبان الحرير الطائفة فوقهم مترقبة. أخيراً توقف «الممكن» لاهثاً واستند إلى ركبتيه، وإذ أدرك أنفاسه استوى يرمقهم بإشفاق قائلاً: «صَدِئ البَلِف أيّها الحمقى وسَرق أجدادكم الأنابيب!، قد أقفلَته الفتاة بنفسها منذ قرون، قال تتغذّى من دمك!، ما كانت يُوشَع في حاجة إلى دمي قَطّ!، ولعلها تقيّأت البراميل التي عبّأناها بها من قبل حتى أن تُنجب طفلها الأول!». لم يستطع «الميحاد» أن يفعل شيئاً. أرغى وأزبد محترقاً من الغضب، بكى حرقةً واندحاراً وهو يعلم أن عرشه سيهتزّ الليلة أيضاً وهو يعلم من سيهزّه وهو يعلم أنه لا يطيق له مساساً.
ظلّ لقاء العاشقين يحدث كل ليلة 14 ويمتزجان ويهتزّ عرش «الميحاد» ويمضيان إلى الكوثر، إلى أن جرى ما ليس في حسبان أيّ أحد، لا في نبوءة لا في تحليل استباقيّ: وَلدت «يُوشَع» في شهر من ذات الشهور ولداً مثل كل ولد، وأدرك أيضاً منذ اليفاع أن له عاشقاً في ذاك المقام، فما هي إلا منازل حتى شبّ مشتاقاً وأرسل نوره بدراً من دم الفجر يضيء السماء لعلّ عاشقه يجيب. نعم نعم، هو ذا يجيب، إن العاشق يدنو، إنه يدنو، لكن!، يا ويلتاه!، إنه يتخبّط واهناً في الطريق!. ومذ رمى صوب عاشقه أول خصلة من شعره السهران اختلج فؤاد الفتى وهو يرى أن عاشقه قد صار جَبلاً، وأغلالٌ وأصفادٌ من الذّهب الأفعوان تعضّ على قدميه الحبيبتين وتعتقل اليدين إلى تقاسيم القامة الغضّة فتروح اليدان تغنّيان له من هناك صليل العاشق الحيّ ولا تملكان حراكاً.
تمّ ما ليس له نقصان: إنّ أهل العاشق قومٌ من «عباد الميحاد» جنّ جنونهم لمّا علموا إن ولدهم يعشق ولداً لا بنتاً، هدّدوه بالذبح فقال إني أعشقه. قيل ظنّوا أن قلبه الخافق يُشرَى ويُباع فقال إني أعشقه، قيل في بئر السُّدى حبسوه فقال إني أعشقه، صبّوا عليه قدوراً من الذهب الذائب علّهم يخرسون جوارحه فقال إني أعشقه، أعشقه، أعشقه، ثم قام بالأرض جبلاً، والذهبُ المجَلّد في لحمه يوغل في عروقه، ناهداً صوب الأعالي إلى وصال العاشق.
ترنّحت المنازل في قوس السماء لهاثاً وهي تنتظر وصال العاشقَين نافدة الصبر. وبينما هو في وسط الطريق يُغنّي راقصاً على صليل الأغلال دانياً من هلال الفتى إذ هطل على ذلك الجبل الحيّ مطر النصال، مطر خائن من سهام ضاغنة، حَلّ أزْرَ النور الرهيف منهمراً من أقواس الجنود. وناح الكون يا ويلاه، ناح نواح الحمام، إذ انحدرت خيول النار بشهر العسل بعيداً إلى خواتيمه، و«فتى يُوشَع» يَنحُل واهناً لا يكفّ يرسل أنوار الرحيق يُبلسِم ذاك الحرير المتهادي بعيداً من حياة عاشقه وحياته إلى غاية الوصال الخالية؛ حيث انطفأت خيول النار وراء منحدرات الأبد.
ثُمّ ماذا بعد؟. على رأسه إكليل الظلال عاد الفتى مفتوناً إلى ناشئة المنازل يطلب أمّاً لا يسعه أن يراها ولا يسعها أن تراه. منذئذ و«يُوشَع» لا تلد، إنما ترسل أسراباً من السلال ملأى بدماء الفجر إلى ولدها الواحد المترنّح مذهولاً في طريق السماء. وكل شهرٍ يطلع القمر المجنون، الفتى ذاته، الفتى مجنون الأمل، يطلع مرة أخرى مطلع البدر ويحه، وبين يديه تروح كواكب العشاق وتغدو نجوم العشاق، لكنه لا يرى، إنه لا يرى إلا ذلك الجبل، ذلك العاشق الصنديد المطل عليه من تحت تلال الغيوم، ذلك العاشق الذي يرنو إليه بعين الفؤاد الذِّئب ويشدو بلوعات الصخور يناديه بلا ونى إلى فجر الحياة الحقّ.
كذا جُنّ فتى «يُوشَع» الأخير، وكذا «يُوشَع» جُنَّت، من فرط الحياة على جسديهما النيّرين، والحياة كذا من فرطها جُنّت: واهتزّ عرش «الميحاد». وقيل كذا ما عاد في كنانة «الميحاد» سوى أن يشمّر أستار المداد عن القيامة، قيامة الإيلاف، «مش كدا يا التجاني؟».