Charcoal jar

Thursday, September 1, 2011

في مصحف النظرة

تَقُولُ السَّاقُ الْحَدِيد
أكَلْتُ في الجحيمِ كتاباً بحالِهِ، تركتُ الكتابةَ للحياةِ التي؛ كَمَنَتْ هناك، مَلُولَةً، داخل عيني، تتذمَّرُ من أمرِ منزلٍ بها يوجعها فيه بابٌ نائمٌ بِوَضْعِيَّةِ القبرِ تحت جناحِ الحمارِ، ترنو إليه مغتاظةً، تحكُّ الجَمالَ الذي في ظهرها بغصنٍ يابس؛ تظنُّ الذي يأكلها في ظهرها جناحاً تَرَكَتْهُ في القبرِ أو في المنزل.
أكَلْتُ في الجحيمِ جمالاً بحالِهِ تركتُ الحياةَ تظُنُّ الذي يوجعها في جسدي كتاباً أكلْتُه في الباب أو في الجناح.

يَقُولُ الْمَسَاق
قرونُ الْمَغَبَّات؛ ألطويلةُ هذه، ناميةٌ تحتَ جِلْدٍ مُبْتَسِم.

رأيتُ وجهي كأنَّه الحلوى؛ في غلافِهِ يزهو ويُلاكُ بالداخل.

رأيتُ مطلوبي ليس عند أحد.

رأيتُ مِشْيَةَ الكونِ في الحبِّ أجمل في يدي إذا ما اْبْتَسَمَتْ؛ وهو يطبعُ بالعينِ خطوةً محروقةً عليَّ، تُبْصِرُني أطيرُ، يحملها إلى الطيرِ ماءٌ يُبْصِرُها، له جناحٌ أبيض تُبْصِرُهُ؛ جناحٌ واحدٌ أُبْصِرُهُ يمشي، تشمُّها عيني.

جَهْرُ الطَّبِيعَةِ... كِتْمَانُها
المكانُ لو ينطوي على مكانين. في مدينةٍ
يعثرُ الحكماءُ على الأرضِ مخمورةً
والليلُ يؤنِّبُها
وبينهما تتدخَّلُ الزِّيادة.

رفعُ الجبيرةِ عن كَسْرٍ في ساعدِ المقدارِ
أشدّ وطأةً على الحقيقةِ من عاقلٍ يراها.

غيرَ حِمْضٍ متكاملٍ؛ مشرقٍ من أصولِ بُصَيْلاتِهِ القلبيَّةِ على باطنِ اللُّطفِ، لم يمكن الارتيابُ في هدفِ العناية.

أن يخجَلَ أحدٌ من مثالِه.

سَاعَةُ نَرْدِيَار
الأرضيُّ مطروحٌ على عدمِ الزِّيادة.

لذلك الأرضُ حَاضَت نقاطاً جوفاءَ في الأفقِ الأعلى.

لذلك أَعْدَمَ اللَّوحِيُّونَ على رأسِ كلِّ دقيقةٍ (واقفةٍ على لسانِ الجغرافيا؛ واقفةٍ على لسانِ الوجودِ) شيئاً من صفةِ الحاملِ ليس له سِوَاء.

لذلك النُّجُومَ نَحَرْنَا.

يَقُولُ الآسِف
حضوري كان مُسِيئاً لِيَدِي أمامَ ضيوفها.
غيابي كان مَفْخَرَةَ عيني.

أنُوبُ عن الأشياءِ في موضوعها.

الكَلْب
كلبٌ حيٌّ. كلبٌ حيٌّ في المراسلاتِ الدائمةِ بين عقلي ولحمي، يجري مع دمي وأنفاسي وينبش في ترابِ خيالي. ومنذ ولادتي لم يتوقَّف نباحُهُ الذي تسمعه حواسِّي ويسمعه جِلْدِي وتسمعه كبدي وتموتُ فيه عيني ويموتُ لساني والكلبُ يبقَى.
ما يَطْفُرُ من عيني حين أرى أو أبكي هو الكلبُ لا النَّظْرَةُ لا الدَّمْعَة.
وحين أقولُ شيئاً، يطيرُ الكلبُ من لساني كأنَّهُ الكلماتُ تَسْتَمْنِي.
ولا أتنفَّسُ ولا أُفكِّرُ ولا أحسّ.
ألكلبُ يَفْعَل.
ولا أحيا.
حياتي الكلب.
والكلبُ يَبْقَى.

نَظْرَةٌ حُمِّضَتْ في بِئْر
الكعبةُ أقْلَعَتْ طائرةً. الحجرُ الأسودُ في مُسْتَقَرِّهِ يدور.
البئرُ طارت. جوفُها في مستقرِّ القاعِ يدور.
الصَّبِيَّةُ طارت. الحليبُ من تحت الحجابِ طَمَحْ، أطفأَ الأختامَ الموْقَدةَ تحتْ. القدورُ به تدور.

الكعبةُ طارت. البئرُ طارت. الصبيَّةُ طارت. الدَّهْرُ مكتوفاً في مستقرِّ صورتِهِ يدور.

نظرةٌ حُمِّضَتْ في بئر.

يَقُولُ الآسِف
....
لأنَّكَ قُلْتَ إنَّهُ يَجِبُ علينا الرُّجوعُ، لكن هل تستطيع؟. لَمَا جادلْتُكَ في حقٍّ أنتَ أهلُهُ، إذا لم تَبِضِ القوَّةُ بينَ أيدينا كلَّ هذه الشَّفاعةِ لأهلِ الحقِّ، في أن يَنْقُضُوا أساساتِ عمرانهم العضويِّ القديمِ، تقرُّباً لحقيقةٍ بابُها الإنكارُ؛ بابُها الأوحد!.
أَتَرَى؟، ليس بالخَطْبِ الجَلَل!، وما يكلِّفُ من دموعٍ، إلاَّ بسببِ الجَمال، وبطءِ القارب، وربَّما، إلى حدٍّ ما، بسببِ اْختيارنا، أنْ لا نَقْبَلَ، في واردِ الإمكانِ، أنَّنا لسنا أهلَ تلك الشَّفاعةِ، وإن أشرَقَتْ، مِلْءَ أعضائنا، وأعَاقَتْ بصيرةَ الماءِ في لحمنا عن أن تدُلَّنا، ولو بأضعفِ الأيمانِ، على إحداثيَّاتِ أيَّة نقطةٍ خارجَ الحقيقة، خارجَ بئرها!.

كُتِبَتْ علينا الضَّفائرُ...
فالأمرُ كلُّهُ
إذاً
وَقْفٌ على جَوابِكَ...،
هل تستطيع.

شُهُودُ الْحِيلَةِ أنْكَرُوا
شُهودُ الحيلةِ أنكَروا:
(كلاَّ...، لم يُحاوِل!).
هَتَفُوا
ثمّ اْنصرفوا
ناعِمينَ
وهم يطحنون النَّدى
كما حَضَروا.

الوَاحِدُ، عِنْدَمَا يَكُوْنُ عَلاَمةَ الطَّرْح
الواحدُ، عندما يكونُ علامةَ الطرح؛ مبطوحاً بمفردِهِ على السطرِ كتمساحٍ مخدَّر،
هل ضروريٌّ أن ينحسرَ طولُهُ خجلاً لتصدِّقَ التِّكراراتُ الطِّبَاعيَّةُ الموجبةُ أنَّه مقدار؟.

طريحَ البساطةِ الرهيبة، ولا يكونُ قادراً على فهمِ الدموع؛ إذ تصيرُ الدموعُ شباكاً حرَّةً زاخرةً بالحدودِ والقِيَمِ والأعدادِ من كلِّ جنسٍ تموجُ حولَه ولا تقبَلُ اْستِخدامَه!.

لديه ألف وجهٍ للفقدان؛ ألفُ سببٍ للأجنحة؛ ليلةٌ واحدةٌ للخلود، أُخرى لتأديبِ الصِّفْرِ وثالثةٌ للبكاءِ وللرضا معاً،
كم أمْسَاً سيقطَعْ بِـ(مِنْجَلِهِــالجَّاذبِيَّة)؟.

وكلُّهُ حسرةٌ على أصابع حُفَّتْ في القسمةِ بلا ضمير.
تعودُ العنايةُ بالوَرْدِ مضروبةً، وساعدُها من الْخِزْيِ تحجبُ عينيها.

الترحابُ وعَافَ جِوَارَه!.
ليس إلاَّ فَضْلُ الحَرَج.

مع ذلك، ما الذي يُبْقِيهِ بَشَرِيَّاً قابلاً للشرح؟.

تَقُولُ النُّجُوم
ساعتُنا انكَسَرَت لأنَّ الأسَدْ.

الأسَدُ في قعرِ بئرِهِ سهرانٌ يحدِّقُ بالأعالي وبالسافلة. تتجرَّعُ عيناه رؤى السَّبْعَتَينِ عبرَ دائرةٍ ثابتةٍ يتجدَّدُ الكونٍ خلالها حياةً لا نهائيَّةً يستعرضها خالدٌ على شاشةِ طَشْتِهِ السَّماويِّ...، وليس يبالي.

الأسَدُ في قعرِ نارِهِ سهران.
يُطْهَى قلبُهُ في جهنَّم، وطليقةً تطيرُ يَدُهُ في الجَنَّة.
إبادةٌ خُلْدٌ؛ إبادةٌ إعدام.
عينٌ في العينِ وعينٌ في اللام.

أسَدٌ في قعرِ صِفْرِهِ سهران.
وخطوطُ الجَوزاءِ تمرُقُ خاطفةً أمامَ عينيهِ
ولكن
وحدها...
وحدها...
دُونَاً عن كلِّ ما يقدِّمُهُ له الكونُ من كنوزٍ كالصُّوَرِ تجري على الشَّاشة؛
دوناً عن سائرِ أوْفَاقِ الزمانِ والمكان
دوناً عن مناسباتِ الطبيعةِ المرحة
دوناً عن الممكنِ والمستحيل
دوناً عن الجنَّةِ والنَّار
دوناً عن قوانينِ الأبدِ الكُبرى
دوناً عن الحقِّ والباطل
دوناً عن الطَّيفِ والمِثْقَال،
هي مَنْ تُعَاوِدْ
وحدَها...
ودائماً خاطفةً وخضراء
تجُرُّ ضفيرَتَها على قمرِ العينِ
وتجرَحُ الدَّمعة.

مَوَالِيدٌ لا نَرَاهُم
بِهِم يخضَرُّ الجَّانبُ الآخَرُ خلفَ صُلْبِ الوجود.
تُزهِرُ في عيونهم كتبٌ إلاَّ نكتبها!...
تنقَصُّ رقابنا توقاً على المساقِطِ إلاَّ نكتبها!...
تَنْتَاقُ عيوننا إلاَّ نكتبها!...
ونسيرُ ونبكي ونغنِّي ونطيرُ ونكتبها،
فَيَنْسَلُّونَ في حذرِ الفئرانِ
إلى الخَارِجِـدَاخِلِنَا؛ إلى الدَّاخلِـخَارِجِهِم،
هنا وهناك؛ من خلف النقاطِ والأشكالِ المتلوِّية،
تُطِلُّ رؤوسٌ وأعيُنٌ صغيرةٌ تتألَّق.
هل نراهُم؟.

مواليدُ الطَّمْثِ والخيالِ والنَّظَرِ والاستمناءاتِ والنكاحاتِ الْمِثْلِيَّةِ
هل نراهم؟.

يَقُولُ الآسِف
حَجَرُ الذَّنْبِ يزهرُ في بطني.
الشِّقاقُ الذي في خَرْدَلَةِ الكونِ اشتَعَل.
المحاولة.
 الكَسْرُ الطويلُ لَمَّا القِطار.
العددُ المضاعَفُ للممكن.
النَّجوَى من حضيضِ المفرَد.
الحجُّ إلى مصرعِ السَّماحة.
السِّدْرَةُ المجوَّفة.
......
حَجَرُ الذّنْبِ بابٌ إلى التراب.
حجرُ الذنبِ فاكهةٌ من نهاية.
حجَرُ الذنبِ تحميلُ الحياةِ منجَّمَةً على الرِّحلةِ التَّالية.
حجرُ الذنبِ...
كنتُ سأبْقَى.

اليَد
الأرضُ رائعةٌ هذا الصباح!، كأنها لا تدري.
أكادُ أشعرُ بكلِّ اْنفعالٍ يعتريها؛ شعوري بفرحةِ كفِّي لمصافحةِ الحبيب.
بل هي، إنْ تَحَرَّيْتُ صَوَابي، لا شكَّ جزءٌ من جسدي؛ متَّصلةٌ به اْتِّصالاً عضويَّاً محكَماً، وإلاَّ ما وجَدْتُنِي الآنَ في عُمْقِ حِسِّها وعاطفتها، أتَلَقَّى ما تتلَقَّاه، وأستجيبُ اْستجاباتِها للحياةِ وللشمسِ وللقمرِ وللزمانِ وللمواسمِ والأطوارِ الدُّنيا وللرُّجومِ وللحبِّ وللهَوان.

أُحِبُّ الأرضَ لأنِّي مثلها صدَّقتُ الأشجار.
أُحِبُّ الأرضَ لأنِّي مثلها جرَحَتني المصافَحات.
أحبّ الأرضَ لأنِّي مثلها حِمارٌ طائرٌ داخلَ بئرٍ مُسَلْسَلَة.
أحبّ الأرضَ لأنِّي مثلها كُلِّي غُرْبَة.
أحبّ الأرضَ لأنِّي مثلها عُضْوٌ في جسدٍ: يضحكُ عنِّي ويدمعُ عنِّي ويسبِلُ عينيهِ عنِّي فلا أرى فيُبْصِرُ عنّي ويسيرُ عنِّي ويطيرْ، وحين ينامُ أبقَى ساهرةً بالبابِ أحرسه من الغيرِ فلا يَشْهَد أحلامنا سواه.
أحبّ الأرضَ لأنِّي مثلها
يَدُكَ الحزينةُ
يا محمد.

Thursday, August 18, 2011

باااسطٌ ذراعيه بالوصيد

أخبرك مبدع النسخة التمهيدية للإسلام بأنّك تحمل أعداءك في جسدك. ولم يُنفق هذا النبيّ من الجهد والأماثيل على شيءٍ، بقدر ما أنفق منها على إبلاغك بأنك وحدك في الميدان. وأعضاؤك أعتى أعدائك، لن تكتفي بأن تخونك في الدنيا وتخذلك، وتنشب فيك أنيابها تنحشر بك في القبر، ستخونك أيضاً في الآخرة؛ إذ تشهد عليك لدى الله بسائر ما فعلتَ من خير وشرّ.
وما الذي (أقرب إليكم من حبل الوريد)، وما الذي (يجري منك مجرى الدم)؟. إذا لم أكن أعضائي هذه، ولم أكن الله، ولم أكن الشيطان، وكان هؤلاء جميعاً دخلاء عليّ جواسيس يريدون حتفي، فمَن المخاطَب؟.
أعضائي تخونني في الدنيا وفي الآخرة، ولستُ إذاً أعضائي حصراً. والله أقرب إليّ من حبل الوريد، ولستُ إذاً الله حصراً. والشيطان يجري مني مجرى الدم، ولستُ إذاً الشيطان حصراً. فهل أنا مجموع كل هؤلاء؟، هل أنا الروحُ، أم الكونُ، أم الماءُ، أم رابعهم كلبهم؟.

Thursday, May 26, 2011

أهلك تضافروا هندسوك

عقدتُ وكتابي حلفاً، بنينا أصابعنا بسرعةٍ عرقانَةٍ، صحنا منتصبَين: (لاااا بُدّ لنا منا)، كأنا عسكر. ورُحْنَا فرحانَين.

صاح كتابي مستثاراً يفرك جلده بجلدي، ناظراً إلى أمِّنا بيقين المرتاب: (الخجل هذا، لا بُدّ بنت، ها؟، ماما؟. والصحراء، الصحراء التي نتقاطع فوقها هذي، ولد الخجل، صحيح ماما؟).

وحين تبرز (إسماعيلية) من كتلة الجدري، صاخبةً وملتهبةَ الأحشاء ومكتظةً بالدم، تهوي نيزكاً على الكتاب المفتوح يقلِّب أوراقه بين ردفيه، يهبّ الكتاب مسرعاً من اللمسة يتفادى، قابضاً على البيضة المشقوقة، يقرأ الكهوف عليها مرحاً، ثم يلتفت إلى (نفسي) الواقفة بالمنظار على مقدمة (إسماعيلية) هاتفاً، كأنه يعيِّرها: (رواية، خجل، بنت!). وحين ينام في بطنه الأسد الصغير منقلباً كلباً، يصحو، ومن تحت جناحيه مواء المنيّ والصخور المتكلّمة، فيبحث في منيِّ (الرواية) عن يده.

ـ كتابي. ويمشي أمامنا يوم بهيأة الطير، مكتوب على لحمه قاربُ الذهن، وأعشاش من مُخٍّ منير تتجول في نومه حاضنةً مصابيح مطفأةً ترْجُم بالدموعِ الموتَ فتغرق (الرواية).
ـ كتابي. ويغزل بالحذق والأنامل مسرحاً من متانة جماله، يوزّع فوقه أكواب الهوانم انطرحَتْ سائلةً على اليوم المجنح الماشي، فيرتعد اليومُ كالشيء، والرأس تومض.
ـ كتابي. يتعتعه الوعي، فيبكي مناجياً الخواء الطاهر المطروح بجلده على طريق سلالتنا: (وكيف جُنَّ الجنون تحتي أيها الشيطان، كيف نالت مني زهور الإنسان)، مطمئناً إلى ما احتسبه بكاء لساني تحت صخرة رائحته.
ـ كتابي. وتسكره الرؤيا. يلمح بجعاً ذهبياً في دمه يحتسي الأفق، ملمِّعاً بأصابعه سرة اليوم، فيتأوَّه من كفاية اللذة، يلتقط حبل الدجاجة منحدراً إلى قارب الإسماعيل المنفيين في الوعي، يمضغون باكين شموس توليداتهم، ويبدِّدون الحصن.

نظرَتْ أمُّنا، دون أن تعاتب أحداً على التعيين، إلى جمع صغير مُطْرِق من الإسماعيل، مُصفّدٍ أمامها بحبالٍ تحت سقف الحظيرة، وكتابي لامع العينين مشدود القامة كالقضيب، اجتمعَتْ بيده الحبالُ، منتقماً يسوطنا بجماله، زأرَت: (مَن منكم قرأ الكتاب؟)، فأطرقنا مزيداً، وأطرقت الوقاحة، وحين مدَّت رقَّتها التقطتني، كانت الرأسُ خاليةً، والأُسود الصغيرة تطَّاير كالفراشات هاربة، وريش مبهم ينبت في رأسي، والكلب يعضّ يدي مشجّعاً ولا يجد، واليوم يترنح دائخاً مع اهتزازات جسد أمنا وانحناءاتها الهيستيرية الغاضبة من كهرباء مريبة تصعق صدغها المعروق. قمتُ منكراً اتِّهامي لي. السلالة قامت بأسرها تهتز مصعوقةً بالجحود.
وتجلَّى كتابي عن وجودين من كتلة الجدري؛ لسانين ينتحبان في ملكوت مَن طفق ينتحب داخل قارب من النحول الشفاف. بحثنا لاهثِين عن هلامات مدفونة في غرائزنا نريد الموت من بغتة الحالة البطّالة، فانتظم الموتُ باباً من اللعاب إلى بطني، وقسَّم الموتُ علينا كتباً لا تُقرأ؛ مكتوبةً بالمنيّ على جلود حيةٍ، محزومةَ الصناديق بأحماض هضمية أنارت الطريق لنا، فسِرْنا كالنادبات حاملِين المشاعل مبلولة بسوائل البطن نريد شيئاً من الظلام وسط نور أمنا وكتابي، يفتكان بنا، حتى أدركتنا الأرض، باحت لنا بيديها الضاحيتين، تهالكنا على القوارب نبتعد.
أخبرَتْنا: (بين الآبار والحجارة لثمةٌ من حدود تتفتق، كتابة جسدية سوداء لمْسَتُها تَشوي، جمالٌ شريرٌ وطاهر، جلودٌ، وأبوابٌ فيها كزهور السعير تلتهم الإنسان). (والإنسان كذلك حَجَر، صحيح ماما؟)، هبّ كتابي يتعرض، فلطمته الأرض: (والإنسان بئر).
عادت فانحنت برفقٍ تمسد خدّ إطراقتنا، ثم أومأت إلى كتابي ينتحب منهاراً على القارب البعيد المتباطئ، فانتصب في الحال وأطلق بابين سائلين من لحم يديه كأنه يلعب، وقعَتْ من البابين الطرابيز والأبواب الكثيرة، قمنا نركب الطرابيزَ مرتكزين بأردافنا على القضبان ندور، وقامت الطرابيز بنا تتهارش، وتندفع كالجواميس مجنونةً نحو الأبواب الكثيرة، حتى إذا بلغَت الأعتابَ انغرسَت أظلافُها بالفرامل تحفر في التراب أخاديدَ كأنها على حافة هاوية، والأبواب الكثيرة مفتوحة تتقلّب في الأخبية. صرنا نلمح، كلما نظرنا إلى خارج البطن، بنات أَرْخَيْن أوراكهن في الماء يردن المنيّ القارب، حتى إذا انقلبنا ناظرين إلى داخل البطن هبَّت الزغاريد في القضبان تأكل الإنسان لمرأى كتابي كاملاً على مصراعيه يستمني بين يدَي أمنا، ويدق بالبيض بابَ الكهف يعوي بمنجاةٍ في أنْ استَغْفَلَنا بالبنات.
تسيل مني يدٌ مفؤوسةٌ فائرة تمشي، وكُلِّي طَمَع، وعلى رأسي المطارق، تحت مواسمَ هضميةٍ ثقيلة بغازات الرعب والدخاخين والأبخرة الملونة، ولما تكاملَت أجزائي من اليوم عند كتابي، وجدتُني لفافةً محشوة بالمكان تجرني يدي كالإنسان القتيل إلى القارب، على رأسي أسدٌ صغير يومض كلما امتصَّ كتابي مِنِّي نَفَساً. وبدا الكون كحولاً في المعسكرات.

Sunday, March 20, 2011

عَضَّني كتابٌ مسعور

باكتشافهم الولادة أحرز البشريون نصراً فائقاً وأخيراً على صعيد نشاط الجسد. وهو نصرٌ فائقٌ لأن الولادة كانت العملية الثنائية التي منحتهم أول حصيلة فيزيائية حية ينتجها الجسد، (بعد انمحاق المحاولات الأحادية الأولى لإنتاج كائن حي بالعون الذاتي)، ولا يزالون يحملون عبء إنتاجها مراراً وتكراراً، مع ما تقتضيه من احتشاء وتغذية. وهو نصرٌ أخير لأنهم اكتفوا به في ما يبدو، وأضربوا عن ما يليه بداهةً من انتصارات كانت أدنى إلى منالهم منه، بحكم ما يتيحه النمط التكراري لأية عمليةٍ إنتاجية ذات طابع إحصائي من إمكانات الانتقال (خطِّياً بأهون الاعتبارات) إلى ما يليها قفزةً أبعد في النسيج الأعمى للحدوث، لولا أنهم أقاموا الولادة الثنائية عائقاً، فالتفتوا من ثَمَّ، لا إلى حصيلتها، بل إلى العملية ذاتها، مأخوذين بشرطها الثنائي يكررون النصر إلى غير نهاية، حتى لم تعد الولادة البيولوجية شيئاً يثير، فتنادوا إلى كواكب الذهن ينهبونها نهباً يتصايحون: هيا نلد الكتب!. ولكن كما رأينا؛ لا يزال قَصْر الإنسان مشيداً، وبئر الخيال معطلة، وقد لم تأخذهم الصيحة إلا بمقدار. اتجهوا في أعقابها، لا إلى ولادة الكتب كما صاحوا، بل إلى استقصاء الممكنات داخل سلسلة التكرار ذاتها يستنتجون منها انتصارات تعاونية منطقية على صعيد الذهن؛ يراكمون المعلومات والملاحظات تخزيناً وتعليماً وتجريباً وتعبيراً وطباعةً وتخابراً وتوارثاً نحو المزيد من الدقة والإتقان في إنتاج الفنون والصناعات، فضاع، ربما إلى غير رجعةٍ، الأمل في أن يحقق الواحد نصراً بمفرده، ودع عنك تعطيلاً وإنشاءً لفظياً؛ ما يتغنى به الرائعون حَمَلة الأرحام العقيمة من (مخاض الكتابة) وما شاكله من تعابير ميتة.
ليس خافياً أن الكتاب الورقي لم يكن أول وحدة تخزينية للكتابة في تاريخ البشرية، سبقته أوعية كثيرة أودعها السابقون أعمال الخيال والتفكير، ولما لم تكن تلكم الأعمال ذات نازعٍ مَنَوِيٍّ إلا من وجه المجاز فقد تعذَّر على أوعيتها الحوامل أن ترقى بها إلى أفق المشيمة الأعلى، فبقيت خزائن ربك لا حَيَّة الكهرباء تصلكم بها فتبصرون فتُطردون، ولا قوارب الذهن تحمل من سفينة البطن يونس، وبقي الضبّ يرتعد على الجدار ينظر آسفاً إلى ذيله المبتور يرقص.
الكتاب الورقي، حيوان المكتبة، عامل الأرشيف المجنَّد، هو (روح) معذَّبي ميشيل فوكو التي تنمو طارئة على أجسادهم تغزوها يا دووب أثناءما هم معلقون على (شاشة الإظهار) لإكمال عملية (إنتاج الحقيقة) التي لا بد لنجاحها من نشاط الروح المستحدَثة. وهو على أية حال لا يغادر موضعه إلا ضمن سلسلة الفعاليات المجازية والإحداثات الداخلية التي يجود بها الشهود. أي لا يعمل الكتاب الورقي إلا من خارجه، من روحه الوعائية الخُلَّب التي استحدثها الشهود في أحشائهم لتستقبل فيض الحقيقة. الكتاب الورقي ليس شخصاً، ولا هو كاتبه.
الكتاب المولود من لحم ودم، الكتاب الشخص، هو الحيوان الخلاء المفترس الضَّاري، الحيوان الخرافي، (خيال) شخصيات جيل دولوز المفهومية التي تنمو على (مسطَّح المحايثة) أثناء عملية (إبداع المفهوم) التي لا بد لحصولها من نشاط الشخصية المفهومية.
وهل تخلو من المغزى كتبٌ قبل ولادة الكتاب الورقي سُطِّرت على جلود الحيوانات الميتة؟.
الآن، هل نحن شهودٌ على ما ينذر باندثار الكتاب الورقي؟، بل نحن شهود على ما يبشر بالكتاب المولود. ولا حتى الكتاب الإلكتروني يفي بذلك. ولكلّ (ميتافيزياء) أن تصير (علماً) كما أراد كانْت. لا أريد الولادة المجازية الباكية لأصحاب (مخاض الكتابة)، بل أريد الكِتَاب الذي يولد فعلاً، كما تلد الأمهات أوغاد الكوكب. وكان محمد المهدي المجذوب بشيراً به إذ كتب: (أحلم بجيل يجعل الكتابة جزءاً من العَيْش). وترجمتها: أحلم بأرضٍ تجعل السديم جزءاً من الإقليم. أحلم بإنسان يلد كتاباً من لحم ودم، يتنفس. أحلم بي ألتهم كتاباً من اللحم لا من الورق، بفمي لا بعيني. أحلم بي طريح الفراش يسعفونني بمصل الإقليم خمساً وعشرين حقنةً في السرَّة خوفاً من عدوى السديم؛ عضَّني كتاب مسعورٌ، ولا أتعافى.
يحدث هذا عندما يصعب التمييز حقاً بين (الكاتِب) و(العايِش). عندما يغدوان لحمةً واحدةً، عندما لا تعرف أيَّ النعتين تطلق على شخص؛ فهو مستوجب الكتابة والعيش شيئاً واحداً. وكان لطفاً من المجذوب أن يَلِي بحلمه (جيلاً)؛ لأن نازعاً كهذا لا ينتسب إلى حقبة ولا إلى إطار زمني. إنه ضرب دمويّ من التفكير ما كان المجذوب ليلغ فيه لو أنه فكِّر حقبياً. بل هي حال؛ بالاستخدام الصوفي لـ(حال)، أعني أن تغدو الكتابة قطعةً حيةً من عيش العايش؛ عضواً يجوع ويرتجف، ولا يتجزأ عن ما يملأ الجسد من سُعَار التنفُّس والحياة و(العَيْش). أن لا يعود الكتاب جليساً وحسب، بل جَسِيداً، يداً، عيناً، قلباً، كبداً، كتاباً، أماً، ولداً، أباً، حبيباً، فريسةً، مفترساً.
إذن، هل يموت الكتاب الورقي؟، لا أعرف هذا، لكن، ليموت شيء ما؛ عليه أن يحيا أولاً، أليس كذلك؟.

Wednesday, March 16, 2011

حليبٌ في المهَبّ

الأثرُ. مرضعةٌ لغير التغذية. حليبٌ في المهب. ولأنّ العالَم نزّاعٌ بطبعه إلى الْتِقَامِ أي ثدي يعرض به في طريقه ويتغذى على ما يَرضعه منه، فهي قابلية يتحلَّى بها العالَم والفنان على السواء، لا أثر الفنان. (يأكل المجاز. يَشرب الشَّايَ في القلب الخطأ: نجلاء عثمان التوم). و(العالَم) يستخدم هذه القابلية؛ لا اضطراراً ولا احتياجاً ولا رغبة، ولكن وأكثر؛ لا اختياراً، بل وفاءً منه وحفظاً لتقاليد المشاركة والاتصال الراسخة أن تُبقي على وجوده بمنجاة من البطلان، وإنْ على المستوى الإشاري بوصفه (دالاً) على حزمة بعينها من العناصر اتفق لها أن تتراضى على صيغة اعتبارية من الحدود تربط بينها علامات الجمع المحفوظة وهي مفترقة، لتنصبّ جمعاء عبر علامة التساوي سبيكةً مسكوكةً يُشار إليها بـ(العالم) دون الوقوف مطوَّلاً لدى واقع كونها مقداراً صناعياً ذا قيمة اعتبارية.
هذه القابلية لتناول العارض جوهرياً، يستخدمها الفنان أيضاً؛ ولكن من باب أسلوب الغلطة. أي أنه يُقْبِلُ عَمْداً على أيٍّ مما يهمّ وما لا؛ فيلتقم الثدي المسموم والثدي الميت والثدي المريض والثدي الخالي والثدي الـ...، ويستخلص منه ما لذّ له من الأغذية، وهو يعلم، كما إنه يضع هذا التشوُّه الترفيهي على عمله اختياراً. الفنان يَرْضَعُ لذَّةً ويُرْضِعُ لذَّةً. وهذا توقيعُهُ الأنشودة؛ توقيعه النائم في كل أحدوثة وملحمة وأمثولة وأسطورة وتمثال ونقش و...، يضعه في الظلام بيضةً بمثابة الخطة البديلة، فمتى ما انقلب الأثر نظاماً ومنهجاً واستقرَّ بعون آلات العالم المتأهِّب حاملاً فأس الملاحظة، حتى يستيقظ بيض اللذّة المدفون يغني في تربة الأثر، ويسعى جيشاً داخلياً من الحيث المستحيل عاملاً على مكافحة عوالق الملاحظة والتغذية والموعظة عن جلد الأثر، ثم يعيده إلى مهبّه طيراً أسود يشدو بحليبه المُظْلِم، وأيّ حليب؟.
إن الفنان يبذل عمله كما يبذل أي بشري يومَه عبر سنِيّ عمره. وما الأثر الفني إلا يوماً للنموّ والإخفاق والإصابة والتعلم و...!. لا يبذل الفنان أمثولات إلا بقدر ما يُشْرِقُ قلب الطفل إذ ينطق مفردةً يفهمها ذووه، ليس لأنها معبِّرة في نظره، ولا لأنها تعني أيَّ شيء جوهري، فقط هو يفرح بها لأنها تنشط بالخارج، وتعمل عمل الوصلة تسري عبرها تيارات الجوهر الثقافي المتراكم ـ علماً؛ لغةً، موعظةً، ديدناً، قوانين، ملاحظات، ملخصات، اختصارات،... ـ على أكتاف أهليه الفرحانين بالمثل إذ عثروا أخيراً في هذا المعجم الرضيع على ما يمكِّنهم من توريثه خبراتهم وتجاربهم و...، يَحْشُونَهُ بها. ومع ذلك، مع ذلك!، أفكار موحشة تتمزّق في بطن الطفل كبيضة الزمن، رطانات من العالم الجيني الدفين تُخرج أثقالها في قيامة التنفس والتعليم تنشرها؛ قبائل تكافح في أرض إدراكه كل المدخلات الطفيلية الفايروسية المقتحِمة، كتائب خرساء من كريات (الأنا المُظْلِمة) البيضاء المنسلَّة من قصر عدم الشريك الذي يفتح هذا أنفاقه السفلى حتى إذا فشلت طلائع المقاومة في طرد أغذية الخارج التيارية التهمتها وحوّلتها، فإذا بـ(فنَّانٍ)، مذعوراً أبداً من فأس (مَن عاشَرَ قوماً) يدفع الجزيةَ، مستدِيراً تلقاء نفسه غَيْرَاً؛ عينين مقلوبتين إلى داخله تضيئان بلد الروح البعيد لمرتاديه يستكشفونه بما هو أوفى إتاحةً من نشرات سياحية مبتسرةٍ تلفظها الألسن كما تلفظ الطابعةُ الورق، وقد يقيم بعضُهم بالداخل، وقد يتركون ذريةً، أما العائدون فهؤلاء رسل الرَّوَاج والمجاز والفهم وسوء الفهم والتناول الذرائعي؛ هم أبطال الفتوحات الانثربولوجية العائدون ظافرين إلى العالم من منابع نِيل الـ(أنا المُظْلِمة) بالكشوفات الجغرافية والأسطورية والتفاسير، وتحت سراويلهم الجوهرة الفذّة: زمبارة التحليل النفسي الفريدة. ظلمةٌ، إذا هذا يفتحها فذاك يغلقها، مشرِعاً فَمَه المجاني عَرَضاً يلتقم ويرسل من عاهاته المستحدَثة إشارات يا محسنين الكرامة لله.
يقع العالم، تحت وطأة الجوهر الثقافي الطاغية، في إدمان الموعظة، اغتياب الشخص في تجربته، ولا يتخلى أبداً عن المرجع والقاموس، ولا يؤدي خدماته بحماس ما لم يَنْحَشِ على مدار اللحظة بالنكات والنوادر والنفائس والأخبار والتقارير والسلع والعلوم و...، يؤذِّن فيها بالحج من رأس كعبته الزهراء تأتيه رجالاً، وعلى كل ضامر تأتيه، من كل فجٍّ عميق.
يريد العالم توسعة المتجر ما أمكن كي يزداد نطاق اختياراته من ما يرضع، وهو لهذا، لهذا!، يستنجد بالفنان لينهل من عمله ما يعينه على سياسة المتجر، ممسكاً ما دام بين يديه بثديه؛ ثدي الفنان، الذي يبدو عامراً بمحصول وافر من اقتصاد المجازات الذي يَهِبُ الوجودَ رخاءً سياسياً بمحمولات أبدية مطَّاطة تتراوح. وفي أحيان كثيرة يتناول العالم ما يرطنه الفنان غير مبال بنوعية ما يصدر عنه من إشعاع يكون سالباً على الأرجح، (إنه يلمع!)، يهتف المتسوِّق مأخوذاً: (إنه يلمع!)، ويروح يحشو به فمه منتشياً إذ يحلبُ اللمعانُ غُدَدَ المجازات البارَّة بركةً رقراقةً في اللقمة تحت اللسان الفرحان. (طبعاً قد يَنْظُر، ولا يَرَى: رندا محجوب).
لا تطلُب القراءة الذرائعية من المقروء غير ما هو يستعرض، بمبدأ المنطق الإيجابي لآلية العرض والطلب؛ أي ما هو في حدودِ مشروعيَّةٍ متفاهَم عليها شريطة أن تحقِّق النفع للطرفين وفقاً للتسعيرة الوضعية السارية. أما القراءة بمبدأ اللذة، فهي تستدرج المقروء إلى فتح أعمى نطاقاته والتحديق فيها بذات الانفعال البادي على العينين اللتين تطالعانه. القراءة: إيقاظ المادة الغذائية التبادلية العاملة داخل الحقلين. وإذا اضطررنا إلى تعيين وظيفة الفنان؛ فهي وظيفة تؤدَّى مرة واحدة لا غير: أن يخطو منسلخاً عن بابه، أن يوجِد مجرىً بين نطاقين.
ولكن، إذا كان الأثر، بفضل جذرية التوقيع الشخصي للفنان عليه، منيعاً ضد قابلية التغذّي العرَضي والتغذية العرضية، فإن مناعته هذي تتهالك ذاتياً أمام إغراء قابلية أخرى استثنائية، يستوردها الأثر إدراكياً: أسلوب الغلطة. و(مُشَاعٌ في التنفُّس شَطَطُ الحِرَاسة: رندا محجوب). عبوديات وأسفار. طبقات متشاربة من اللحوم والتوصيلات الداخلية والزلقانات والتغاذي وأعمال الرؤيوية البيئية تشعل في الأثر هوس الالتهام، الجوع المرَضيّ، طفْحٌ من العلاقات والترحيلات المتواترة؛ سواءٌ، أعمداً كان تواترها أم بـ(حُكْم العادة)، فهي في المحصلة تغدو نفقاً احتياطياً بابه داخل القصر وبابه الآخر خارج الأسوار، يرقد سطراً ميتاً، ناذراً بقاءه لتهريب عائلة الملك كجزء من مناعة القصر لا مغزى لوجوده غير أمرٍ واحد: (للحَيِّزِ أنثى: محفوظ بشرى)، القصر غير منيع ولا بُدَّ مقتحَم. يوضع أسلوب الغلطة مفارقةً معماريةً لتعزيز مناعة الأثر الفني على أساسٍ من افتراضٍ احتياطي يستبطن اللامناعة. واسطة العَقْد الهشة التي منحت أعظم الكنائس مهابتها، وهي حجر واحد إذا سُحِبَ من مكانه انهار البناء بحاله. ولكي ينام حقل البطيخ في بطن الفنان المنخدع اختياراً في صيف خريفه الإدراكي، فإنه يترك هذا الباب موارباً لينمو عليه عضوٌ استدراكيٌّ نفقاً سرياً للهروب، هو الشرط الضروري الذي بموجبه يأمن الأثر الفني من خطر الزوال مهما كثر عليه الغزاة، كما بموجبه يَسقط قصر الأثر الفني في إمكان التناول واستعصاء التناول، بضمانةٍ من أنه مهما قُلِبت غُرَفُهُ رأساً على عقب فإن شيئاً منه يبقى مغلقاً، وليس بالضرورة داخل إحدى الغرف، شيء مغلق في لا وجوده، في هربه، في نجاته، في ربما لم يكن هناك، ولكن النفق!. هناك سر في هذا النص!، هناك إذاً إغراء بفتحه ونبشه!. السِّرِّية دِينُ إزالة السِّرِّية. إرادة تدمير الغواية. أو كما كتب الفنان محيي الدين بن عربي: (الإشارةُ نداءٌ على رأس البُعْد وبوحٌ بعين العِلَّة).

Thursday, March 3, 2011

الحياة التي... الحياة

صَرَخَ في الحواسِّ الكونيةِ العظيمةِ، وهي منهمكةٌ بدأبٍ في قياسِ أشياءِ العالمِ، تسجِّلُ المقاديرَ والأحجامَ والمساحاتِ والأبعادَ والأزمانَ و...، كلَّ شعورٍ وكلَّ مادةٍ، ما أمْكَنَ قياسُهُ منها دنيوياً وما لم يمكن، تصنِّفه تفاضلياً في مستوياته الهيكليةِ المتغيِّرَةِ ثم تختم عليه.
صَرَخَ في آلهةِ الأشكالِ المستقرةِ للصوتِ، وهي على شرفِ ليلةِ العالمِ الأخيرةِ في حقلِ الغفرانِ، تعكف، في تواطؤٍ فاضحٍ بينَها والطبيعةَ، على أشياءَ فادحةٍ؛ أشياءَ نادرةٍ وفظيعةٍ، تقومُ معها بأعمالٍ، يبدو من ظاهرها، تُؤَدَّى لأغراضٍ احتفاليٍة لا أكثرَ، غير أنَّ الذي لم يَخْفَ عليه، تولِّدُ طاقةً شعوريةً مضادَّةً، غايَتُها تكوينَ ساحلٍ جاذِبيٍّ مقنَّعٍ بالهذرِ والضحكاتِ الفارغةِ، يكبحُ حركةَ الموسيقَى عند قدومها ويصفِّدها بالمادة إلى شروطِها القياسيةِ المتعارَفِ عليها في عالَمِ الشَّهادة.
صَرَخَ في الغافرِ الآليِّ النائمِ يُرْغِي رؤىً، ويُزْبِدُ مِنْ خيالاتٍ وطمثِ عواصفٍ وأزمنةٍ خميرةٍ ما يسيلُ من ركنَي شفتيه شفَّافاً وسميكاً كَمَنِيِّ غريرٍ، وتنحدرُ الفقاقيعُ الصغيرةُ على فَكِّه الناعم؛ فَكِّ الصبيِّ، ثم تنقِّطُ على صدرِهِ الآخذِ عُلُوَّاً وانخفاضاً في تنفُّسٍ رتيبٍ، والعالمُ يتهاوَى مِنْ جهاتِهِ الطفلةِ الممعنةِ ضرباً مغبوناً بالعكاكيزِ والأغصانِ الخضراءِ على عقلِ الهندسةِ الطفل؛ يتهاوى نحو الحقل مُتَّخِذَاً لنفسه مِنْ خِزْيِهِ سلوكَ النادمين ولاهجاً بنجوى التائبين.
صَرَخَ في وجه الحيرة الخالد الطائف حول الزمان مثل روحٍ حيوانيةٍ شقيةٍ طائفةٍ حول قبر حيوانها الْمُعْرِضِ عنها، وجنب الحيرة انتصبَت ليلةٌ عضويةٌ حيَّةٌ ووحيدةٌ، مأخوذةٌ بحالها من صلب الزمانِ وهي بَعْدُ دون الحدوث؛ انتصبَت ممسكةً ببوق هائل له أذرعٌ بلا عددٍ، كالحقيقةِ في قلبِ الواشي، ممتدةٌ منه كالوَصْلات إلى داخل الحياة، تنفخ فيه بصوتٍ لا صوتَ فيه فيهدل الكنـزُ الكلاميُّ المعجمُ في اللحم باعثاً في الخلايا نداءَ الوثيقةِ الصناعيةِ الأولى ليتولَّى خدمُ الحقل الملائكيون بعد ذلك إدارة الطيران.
صرخ في الصِّبْغَةِ الحمضيةِ المنشورةِ داخل نظام الوجود خميرةً أبديةً؛ حقلَ ألغامٍ خالدٍ يتناسخ في السلالات يُرَاسِلُ بَعْضَه باللُّغْزِ وآبارٍ، وينثر أوهاماً وعلوماً ونوافذَ ومغاليقَ تسعى بين أسطر المادةِ لا تعي الرَّمْزَ ولا تَعِي الصَّرَاحَة.
صرخ في القدورِ الواقفةِ يُوْدِعُ فيها النورُ بيضَه الأسودَ، يُقْفِلُها خْلفَه صبيانُه مُحْدِثين عليها من مؤخِّراتهم طلاسمَ موسيقيةً يجلبونها وهي بَعْدُ ثماراً وهميةً من دكاكين سوق الصُّوَرِ الكائنة بجنَّةِ القِدَمِ الخفية؛ يدفعون لقاءَها أشياءَ غاليةَ من حُسْنِهِم وحَدَاثةِ السِّرِّ فيهم، يأتون بها في مواكبَ هازجةٍ فيأكلونها عادةً عند حوافِّ العقل الطبيعيِّ ناظرين بشوق وحسرةٍ إلى مساقط عقلٍ لا يُسَمَّى ولا يُنَالُ بِعَيْنٍ تَرَى المكانَ وتبكي، يُنادون الظلالَ بأسماء أخواتهم فتناديهم كأنهم صَدَقوا، يريقون الطلاسمَ الموسيقيةَ في أحشائهم مع جرعاتٍ من النورِ والسهر والدَّمِ والعمَى، يتأوَّهون كعاشقاتٍ، وسرعان ما تُعادُ كتابة الموسيقى على ألواح أكبادهم بأحبارٍ صوتيةٍ مستعارةٍ من نفخة الصُّورِ فتسري هنيئاً مريئاً تتنـزَّل عبر محوِّلاتهم الهضميةِ الطاهرةِ لتخرج الثمرةُ الواحدةُ منها لحناً معجماً فتنطبع على فُوَّهَةِ القِدْرِ وهي قفلٌ؛ وهي خِتْمٌ، وهي رَصَدٌ، وهي، في الآنِ نفسه وبالأساس، مفتاحٌ يعرفه قَرِينُ القِدْرِ الموافق من أهل الأرض. هذا، قبل أن تُرْسَلَ إلى الزهور التي، وهي تَلِدُ الزمنَ في صباحاتِ الأرض وفي أسحارها، تُوْلَدُ أيضاً لعمرٍ بطول الشهقة يكفل لها أن تستقبل بأذرعها العضليةِ اللاقطةِ ما كُتِبَ لها من إرسال النور الأسود، فتنطوي كحاضنةٍ على ما وَفَدَ إليها من قدورٍ مملوءةِ بالبيض النَّيِّء تغمرها بالحياة والعاطفة، ثم تلفظها على العالمين زمناً متَّقِداً بتوافيق الممكن المجهولة واقترانات الأفلاك. زمنٌ، لَهُ في الأبدان أسْبِلَةٌ؛ وفي الأنفُسِ أنهارٌ، وفي العقول آبارٌ، وفي الأبصار نظامٌ هندسيٌّ يصرِّفُهُ للنَّاهلين. وما من زهرة منها، إلاَّ وفي أحضانها انفجرت شمسٌ سوداء وأفرخت ضحكةَ الْخُلْدِ الساخرة من عالَمٍ حيٍّ تبهجه الرموزُ أكثر مما يبهجه النبضُ في رسغ اليد. وما من زهرة منها، إلاَّ وهي جريمةٌ مجرَّدة؛ وهي نورٌ صارخٌ يتخبَّط بانزعاجٍ وجهلٍ وسط قطيع السعادات المذعور، وهي كلمة معطَّلة يتَّحِدُ الشعورُ بالطغيانِ أُشْنَةَ على ساقيها، وهي تقف مذهولةً حافيةً وترتعش في مياه أزَلِها الباطنيِّ الأخضر، خالدةً تحيض النورَ وتبعث في الأجناسِ عملَ الظواهر المائية.
صرخ في ضمير الغائب الْمُتَّصِلِ الذي يقف على رصيف الخيال مثل سلامٍ باطلٍ يفتعل الغيرةَ والهياجَ فيهجم وهو في رهب وتخاذلٍ متأصِّلٍ في صميمه على حبل الحياة المشفَّرِ بالروحِ ثم يرتدُّ صارخاً مرتعداً يسبُّ ويشكو قبل أن يلمس الحبلَ، وينطوي إلى رُكْنه الرَّكين في مخزن الضواري حبيسة الأنفس؛ مخزن الدهورِ قِطَعِ الغيارِ المجهولةِ، مخزن الضمائرِ الباطلةِ والوحدانياتِ الوثائقيةِ المعطَّلة.
صرخ حَبِيبِي في الحياةِ ذاتها. الحياة التي لم تَعُد لي ولم تَعُد للموسيقى ولم تَعُد للطَّيَرانِ ولم تَعُد للجريمة. الحياة التي شَفَّتْ وخَفَّتْ، حتَّى لم تَكَدْ يدٌ تُدْرِكُ لَحْمَها. الحياة التي ركضت كجِنِّيٍّ فَزِعٍ على تراب العقل اليابسِ واْنحَشَرَت في طبقاتِ الحقل التراكميِّ، ضاعت في المفاتيح الخاطئة. الحياة التي...

Sunday, February 20, 2011

القيامة: حكاية شعبية من جبل اليوم

صرتُ ألقَى «مصرعي» كثيراً هذه الأيام. صحيح أنني تنفَّستُ بإسراف، وبعثرتُ ما لا يُحصَى من الإشارات برهاناً على وجود الحظيرة فيها «حياتي» و«صوابي» و«كتابي» و«أمّنا» يتماطرون. ولكن أصحّ منه؛ أنني نجحتُ على نحو محقَّق في تجنُّب البقاء على قيد «حياتي»، بقدر ما حقَّقْتُ من نجاحٍ في تجنُّب «مصرعي» كلما رأيتُهُ يسير مسرعاً يطنطن شاكياً من حماقات أخيه «حَيَاتي» راكلاً بقدمه النتوءات.
أيامٌ تقطَّرَت وأنا طافح على أسطحها. يوم يتسلّمني من يوم دون أن يشكِّل قيدُ «حياتي» عقبةً أمام انتقالٍ بهذه الصعوبة. أشعر أحياناً بأن الأيام تخدعني بـ«كتابي»، وتنقلني من قيد إلى قيد بألعاب سرعة أعجز عن ملاحظتها بسبب انهماكي في الحَدّ من أضرارٍ أخرى تنال مني عادةً جراء عملية الاقتلاع والزَّرْع اليومية هذه التي يرتجّ لها دماغي ولا يستقرّ إلا عند انتصاف الليل ليبدأ الزلزال من جديد تحت نوم «كتابي».
ثم رأيتُ ذاتَ يومٍ متجراً اسمه «قَيْد الهَامِلة»، لا أعرف حتى الآن على وجه التعيين كيف عمل مفعول هذه الضربة، لكن الرعب الذي أصابني كان في ما يبدو كفيلاً بتفتيت قيد «حياتي» شذراتٍ من نُشَارَة مادّة النّوم اللعَابيّة الشفّافة السائلة من ثغر «كتابي». وبدا لي أنني لمستُ فرعاً من اليوم لم أكن بمدركه إلا لأنه ارتطم بي متجاوزاً حدّ السرعة المنضبطة ذاتياً على مقاسي لتضمن غفلتي كلما تناقلتني الأيام. الأرجح عندي أنِّي لما رأيتُ ـ في حرارة الضربة والرعب ـ رتبةَ «قيد حياتي» من رتبة «قيد الهاملة»، اهتزَّ إيماني بـ«كتابي»، وأمسكتُ بالمثل عن سرعة التصديق التي طالما قابلتُ بها بهلوانيات اليوم وهي تشتِّت انتباهي على نحو ما سبق، أكفُر مرةً بكتابي، وألف مرة أؤمن، وكتابي يؤاخذني تدلُّلاً بالمرة، يدرجني قسراً في «ذهابي»، وكم أتشتَّت.
أمّا أن يطير «صوابي»، هكذا، بلا أي إشعار سابق، فهذا ما على الأيام أن تشمِّرَ عن ساقٍ لتواجهه أكثر من تشميرها لمواجهة بلوى تسكُّعي بلا قيد «حياتي» وتمرُّغي كالحمار الأجرب بين الجبل والقارب. أنا نفسي، منبوذاً إلى كتلة الجدري، لم أكد أتلقّى إشعاراً، إلا أنني توقعتُ الطيران ما إن رأيتُ «صوابي» يتململ في القفص وينقر قانطاً على القضبان ناظراً إليّ بعينين اختمر خلف شاشتيهما «ذهابي». ثم ثبت لي أنه يا مات حيث هو يا طار، يومَ رأيتُهُ يعلو بجناحيه الواهنين ناطحاً السقف برأسه في يأس انتحاريّ أخجلني من استمساكي بالأمل في بقائه. هكذا، طار «صوابي». ونظرتُ فارغاً إلَى كُلِّ إلَى. ولم يخجل أحد.
«كتابي» في عالم المثيل يأكل الثدي. «ذهابي» معتوه بـ«كتابي»، «ذهابي» المكتوف برائحة اللعاب يجهل أين كتلة الجدري. «نفْسي» يتنفس. «حياتي» في الحظيرة يأكل الكتف. «صوابي» الطائر يأكل العين الطائرة. «مصرعي» يُحْدِقُ بي على كل رأس.
بِتُّ كتلتي خالية. أقوم كل صباح بدافع البول لا غير، وحين أخفض ألبستي مُسَوِّياً جسدي بما يلزم لاندفاع البول خارجاً بحساب أن لا يصيبني من رذاذه شيء، يبغتني شعور بأني نائم أبول تحت ثيابي فأُوْشِكُ أن أهُبَّ واقفاً لأعيد إنزال ثياب لا أراها تَحُول بيني وجِلدي عَرَتْها رطوبة طفيفة من بلل البول الذي برَّدَه الهواء.
بعدها لم يعد «مصرعي» قانعاً بالتذمر، فقرر أن يتحرَّش بي. «نلتقي كثيراً هذه الأيام!. لماذا تتبعني إسماعيل؟، ها؟». زأَر في وجهي وهو يَصِرُّ بأضراسه بغبن مجوف ناظراً إليّ بعينين لئيمتين تضمان عشرين ضرساً على الأقل!. أردتُ أن أذكِّره: (لستُ إسماعيل، نسيت؟)، لكن شُلّ لساني من الخوف فوقعَت كلماتي في بطني، وأعجبني «مصرعي». لم أعِ إلا وأنا أندفع إلى حضنه بلا إرادة. وكم جسيمة مهمة إحصاء الأيام على من يُقْحَم في حالٍ مماثلة. ولما عادني الكلب أدركت أني تخلفت عن كل الأيام التي تلت آخر مرة لقيت «مصرعي». وعجزت أيضاً عن الاهتداء إلى كتلة الجدري لما رأيت ذيل «كتابي» ناعماً يتراقص غبطةً من داخل أرض المثيل ويصفع خدِّي برقَّة.
ثم سمعتُ الراوي يحدِّث عن أمرٍ غريب يسمونه «الغَد»، يقولون إنه يحدث في اليوم التالي، ولم أعرف أحزن ولا عرفت أفرح. لأنه لم يكن لـ«حياتي» نفوذ عدا يومه المفرد. نطاق عصبي من الكلب والعين والزمن؛ يطفو قارباً على سطح مياهه اليومية، أجري به من الحافة عبر القعر إلى الحافة الأخرى، ولا ينقلب إلا جبلاً وأنا تحت، قارباً وأنا تحت، أجري بـ«حياتي» في نطاقٍ لعله اليوم التالي تتابعياً، وأنا، في دوام الجري، أظنه يومي المفرد مقلوباً؛ الجبل قارباً، والقارب جبلاً. ولعله محض تََيْوَامِ النطاقِ جبلاً حيناً وقارباً حيناً.
لم أمُتْ مرةً في يوم مجاور لأعرف طعم ما لم يمكن، ولم أعرف من الذي أمكن غير أن أذعن للمكان. ومع ذلك، لم أخطِّط لأن يكون التحديث التتابعي لليوم أياماً، بالغاً ما اشتطَّ جوعي إلى الإفلات من أسفل الجبل القارب، أقل واقعيةً من حضور الموت. لهذا كلب وعين وزمن. كلب وعين وزمن.
ذبحتُ اليوم لقلبي قمراً مراً، كما اشترط الراوي، لتحميل «حياتي»؛ بـ«ذهابي» كاملاً بمنيّ كتابي ولعابه ولمسته ورائحته وصورة عينيه الجميلتين، إلى اليوم التالي. لا أعرف!. كيف استطاعت «حياتان»؛ فرضاً، دعك عن «حيواتٍ كثيرة» سمعتُ أنهن حشدن نفوذاتهن في اليوم التالي، أن تتحمَّلا بعضاً إلى أيام متتالية كثيرة دون أن تخطئ إحداهما فتفرِّع يوماً تالياً غير اليوم الذي تتحمل إليه أختها؟. والحال أنها «حيوات» لا تحصى، مَن لم تنجح في الانهيار إلى الغد المشترك ذاته تبقى صلبةً مطمئنةً تلتهب من طولها المؤلم في اليوم المتروك، ولا تخطئ مرَّة بالذهاب إلى يوم ثالث. أهذا ما حدث لي ونسيته؟، ألهذا «يومي» المفرد المتقلب يملأ مادَّة الجدري، وأنا بالقارب أبتعد؟. لن أندهش إذا كان العجز عن الذهاب بالحياة إلى الغد هو الشيء يسمونه الموت!؛ لأن ما حدث لي تحت الجبل عاديٌّ إذا كان بتأثير الموت.
سألوني: «ماذا حدث؟». «أين كنت؟». «ماذا الأصابك؟». وعجزت عن تبسيط ما حدث لي بالذهاب إلى إنه من سوء الحظ أو المصادفة. أيكون سوء الحظ عندهم أيضاً كأيامهم منظماً متتابعاً بهذه الدقة؟. أتكون المصادفات شخصية إلى هذا الحد؟. لا أظن!، على الأقل، ليس بدون نوع من التعمد السابق يدعمهما ليكونا فاعلين في ما حدث، وهو أمر يتعذر توثيقه في الذهاب، ما داموا جميعهم محتشدين هكذا داخل اليوم. أظنني حين تخلَّفت في «ذلك اليوم» عن الذهاب بـ«حياتي» إلى الغد، لم أكن أقصد «مصرعي»؛ أردت أن أجد الآلات والقوانين الحركية اللازمة لحساب سرعة اليوم المطلق وكتلته ثم تطبيقها على يوم عادي كـ«يوم مصرعي»؛ فالشَّكُّ لم يترك لي منفذاً غير. كنت ميالاً دائماً إلى الركود في الموضع، وحدث أن نسيتُ «حياتي» و«ذهابي» كَمْ مرَّة في مكان واحد طيلة ما لا أدري من أيام متتالية تستقبلني مع الحشد المتحرك دون تحقيق، ثم يظهر الكلب وبين شدقيه «ذهابي» ولجام الدجاجة الميتة. بهذا الميل إلى الارتكان، بدأت التأملَ في وجوب أنْ ليس المكان فحسب، بل والزمن أيضاً، يخلو من التتابعية، ما لم يكن المكان بالمثل، كالذهاب والحياة، يمكن تحميله إلى اليوم التالي، أي ما لم تكن لكل «يوم» نسخة تخصه من «المكان» تعمل مستقَرَّاً له، ويظل اليوم المتروك بنسخته من المكان، بل وبنسخته من الحياة والذهاب. فكَّرت؛ إن الصعوبة العملية التي جعلت من المتعذر الاعتقاد في أن المكان ينتقل، بمقتضى ضرورة استنساخه، تمثل مصدراً كافياً للشك في وجود اليوم التالي. وهو بالطبع شكٌّ، كأيّ شكّ، يحمل تفنيده معه. ولكن الذي حدث هو أن «سرعتي» و«كتلتي» هما اللتان تأوَّهتا هناك من مطر المنيّ على أرض أمّ الكتاب، تحت نوم اليوم المطلق الذي يتقلَّب قارباً جبلاً قارباً جبلاً قارباً جبلاً، وفضَّلتا البقاء يقظانتين تنموان في بطني، تاركتين نفسي لـ«ذهابي» يعلمها امتطاء القارب. هيا أيها اليوم المطلق.