Charcoal jar

Sunday, December 26, 2010

ما الذي أيقظ الحيثانور؟

(يا للجدار المقوّس فوق المياه). صرخ (نَكتُب) منشباً أظافره على ردف (إسماعيل). كأنْ لم يع الغاية العملية الآثمة من بناء الكوبري بين وهمَي المدينتين. كأنْ لم يعد قادراً حتى على أن يعي آلية الترائي ذاتها، إذ بدت له إغراقاً في السلوك الشعري تتعفَّن الأسرار بين ردفيه عليهما أكاليل الإلهام والمعرفة. ولم تَرُق له خطيئة التمثيل. ومستعيداً ملمس الكتاب الفأس نام بالأمس حوصلةً من القيح في مهبل الوالد، ثم ها هو ينبت بين أصابعه من جلد (إسماعيل) متكسراً تكسُّر البيض الكثير تلده الدجاجة الميتة معتليةً شجر البرنامج الأسود، تهالَك (نكتب) المبهور ناهشاً كتف الكتاب. ومدن السرداب ترقص في الركاكة حيكَت بينها حيَط سرابية تتلوى فهوداً في سماء السرداب، يصرخ عاضاً ذارع (إسماعيل): (حبيبي، يا للجدار المقوس فوق المياه)، وكأنه استبطن الصرخة: (يا للفسوق)، لأن كتابي المتألق عارياً مستدبراً الطرابيز السريعة وهي تعبر الكوبري، وَثَب على الحاجز الصخري القصير، ثم انزلق نحو الزبد المتلاطم بالأسفل تثيره ارتدادات المياه على الركائز العمودية. لكن صرخة الإنسان من على الطربيزة السريعة هزّت الباب، وانهمرت شظايا الصورة ليلةً لا تنضج مكتنزةً بالنموّ على الفرع، وشجر البرنامج الأسود يتأرجح جامداً بين الساحلين. ولما كانت صرخة الإنسان من على الطربيزة السريعة كافيةً لأن يرتج أفق الخرطوم كمن أصيب بسعال، وأن تخرج منه الرقاع الملونة هذه تلتحم على تجاويف الكتاب وهو يسقط، فإن الصرخة (إسماعيل!)، ذاتها التي واكبت صرخة (نكتب)، كانت كافية أيضاً لأن يدرك ركاب الطرابيز أنه مقضيٌّ عليهم في بطني بركوب الكتب. وأنّ عملاً سودانياً بازغاً في كهوف الدُّوْرْسِيد يُملي على كائنات البطن جميعاً أن يوقفوا حيواتهم على ذلك؛ أن يغزلوا البسائط والمركَّبات في روح المكان النائم، أن يزرعوا الموسيقى في بساتين البطن، وكانت تشي ببيض الثعابين تدهسه أقدام ضخمة مجهولة، فيسيل الزلال والمح على الحائط الوهمي الراقد هناك فوق المياه ورقاً وأقمشةً وقوارب في الجهة الأخرى تعبر البطن من الشرق إلى الغرب. و(نكتب) ينظر ذاهلاً إلى امراُة في ثياب سوداء على الساحل، حيث منازل العصفور الكثير، ترفع ظافرةً ذراع البرنامج الأسود المقطوعة. ورأسه الطافية المفتوحة العينين تخترط المياه وراء القوارب كالبجعة.

Sunday, December 12, 2010

في الرِّقاب

وها أنا في الرِّقَاب، لا أتعلَّمُ، مطلقاً!. المستحيلُ الذي سَلَخْتُهُ عن أحد مقاعد السَّيَّارةِ البلجيكيَّة، لم يَقْوَ على الالتصاقِ بمعصمي، فَلَعَقَ دَقَّاتِ السَّاعةِ وليلَ أظافري وهرب. لا أتعلَّم، مطلقاً!. المستحيلُ الذي ترك أعوامي بلا فصول؛ بلا شَعر؛ بلا أعضاء، عَلَّمَ ثيابي أن تتذكَّرَ، تخافَ وتخجل؛ أن تتركني بلا معنى، وتُرَافِقَ الأسماكَ إلى المراحيضِ والنَّوم؛ أن تتمايلَ بتثاقلٍ، وهي الفارغةُ، في مَمَرِّ السيَّارة البلجيكيَّةِ المتكدِّسةِ بأجسادِ مجنَّدي كتائب الاسكندر الأكبر. لا أتعلَّم، مطلقاً!. لأنْ... ما الخوف!. لِمَن أشكو عشائيَ الذي صارَ ريشاً سَرْدِيَّاً وأصوات غَنَم؟. لَسْتُ حزيناً، لأنْ... ما النسيانُ سوى وكيلِ الحشراتِ فيَّ والقائمِ بأعمالِ الشَّجَرِ في دولةِ جسدي. لا أتعلَّم، مطلقاً!. لكنَّهم علَّقوني على مسامير. علَّقوني على المساميرِ التي ما اْخْضَرَّت في حقولِ الكوتشينة. أنا عَلَفُ الأباريقِ الجائعة. لم أخبرْهم عن جوعِ الشَّايِ وموتِ أولادِهِ داخلَ الأباريقِ متأثِّرينَ بالقِرْيَافِ الأبديِّ لضيوفِ البواخرِ النيليَّةِ الأتراك. لا أتعلَّم. وأنا الجائعُ، وهو دأبي، أهرُبُ ومنقاري مطبق. جائعٌ أكثر من أن تَسْتَبْقِيَنِي ضيافةُ الصَّباح؛ جائعٌ مثلَ ثيابي؛ جائعٌ مثلَ تَرْكِي بقايا السَّنَوَاتِ وعظامَ النُّجومِ على طاولةِ مطعم «عيون الكلاب» بـ«بطني». أبِيتُ داخلَ ساعاتِ الميِّتين، قربَ أحد مخازن الميناء، عسى تأتي سفنٌ غيرُ منتظرةٍ تَقِلّني إلى جزيرةِ الزَّمَن. قد اللَّيْلَ آكُلُ؛ قد علفَ الأحلامِ وهو يغادرُ الجِّيَادَ العائدةَ إلى قلوبِ النائمين؛ قد يأسي؛ قد هناك. فلا الشَّايُ جَرَحَني، ولا شَرِبْتُ العَرَبات؛ لكنَّه القَصْدُ المشقوقُ، وتَمَامُ التَّسَتُّرِ على كِسْوَةِ العيد، والتَّدَلِّي من عناقٍ ناقصٍ خيفةَ السُّقوطِ في الأعلى تحت جبلِ الصَّوت، وارتجالُ العَجْزِ عن تناول اللَّيلِ بأصابعَ مبلولة. فكيف؟، والمناقيرُ المقصوصةُ يَاهَا!، وفي أيِّ خوفٍ نظيفٍ أَبِلُّ هذا الخبزَ الْمُعَظَّمَ، غيرَ متأمِّلٍ في عفافِ صمتي وشَفَاعةِ الجُّوعِ لي؟. لا أتعلَّم، لأنْ... ما أنا!. لستُ مَن شَخَرَت الأبوابُ والصباحاتُ مِلْءَ قميصِه؛ مِلْءَ قميصي ترابٌ وعظامٌ وتهاويل، وثيابي تشبه النسيان. لا أتعلَّم، لأنْ... ما إن أهُمَّ بمحاكاةِ أصواتِ البَحَّارةِ الْمَكْوِيِّـينَ بحرصٍ على طرابيز العاطفة، حتى يتوجَّع لساني كدجاجةٍ حَامِلٍ وتَسقطُ منه غُرْبَةٌ كبيرةٌ تصيحُ بلا شفاه. فإن حَدَثَ وتذوَّقْتُ امرأةً ملفوفةً بالكتَّان من الزّجاجةِ رأساً دون أن أصبَّها على القدح، خَفَّت الأشجارُ مذعورةً من مَدْرَسَتِها البعيدةِ في قلبي إلى مستنقعات عيوني، فلست بمستطيعٍ مَشْيَاً بَعْدُ من شدَّةِ اشتباكِ أفكارِ الحيتانِ بأصابعِ قَدَمَيّ. لا أتعلَّم، مطلقاً!. لأنْ... ما أنا!. لستُ الحضور. لستُ الغياب. لستُ الوعد. الصورةُ منزلي، والأبوابَ أفترس. فما شكلُ الخوف؟. صباحٌ ثقيلٌ داخلَ السَّلَّة؟، أم طماطم لُغَوِيَّةٌ تشبه النسيان؟. ما النّسيان؟. لا أتعلَّم!. إنَّ الصَّلَفَ الظَّنُونَ الذي يبتعدُ عن يَدِي على مَهْلِهِ، ويتأرجحُ هناك، بين اْلْتِذَاذِ نَقَّارِ الخشبِ وروحِ النشيجِ الملفوفِ بعنادي، يَشفُّ بسرعة، ويلتمع عند حدودِ انحسارِ الطاقةِ الشخصيَّةِ التي أوْدَعْتُها في ألْيَافِهِ لتمثَّلَ وجهي ومجتمعي الخاص. ولو الهديلُ يتعفَّنُ بالذِّكْرَى محشورةً خرساءَ في موقفِ بكتيريا التحلُّل!؛ لو الطيرُ تَمَّحِقُ في صلاةِ السُّهوبِ على آلهةٍ جبليِّين صاروا أساور وأقراطاً!؛ لو الخفاءُ يأخذُ العالَمَ وتذهبُ الأُمَّهَاتُ إلى معتقَلِ جهنم الكبيرِ بحثاً عن أبناءٍ أطاعوا الألَمَ والمستحيل!؛ لو...

Friday, December 3, 2010

من مسبَّعات الرأس

             من أعمال عمر خيري/جورج إدوارد    
سمعتُ النحنحات في أصقاعي الوحشية، يا تحت وطأة الصورة، يا تحت موسيقى تقلّبني بين المقامات من اللبلاب إلى القمح إلى الزهرة فالخشب المنخور فالدهاسير فالسمسم فالليمون. وفي كمال أحوالي بين أيديهم، تنحنحوا. ضيوف عائليون ظلوا يطلبون القهوة لا يكتفون، ومسحوق البن في الصورة ينحسر. أشعلتُ سيجارتي من عين أحدهم واستأذنت الدخول إلى المطبخ.
أردتُ أن أرى أمي، كسرتُ بيضة الحمامة التي انزلقَت على زُهُوّ روحي ذات صباحٍ ماطرٍ قديم في سوبا. رأيتُ روحها ترتعش على سطح كرة المحّ الصفراء ذات القوام المتماسك اللزج. دنوتُ بأصبعي رفقاً فوثبَت عليه ضحكةٌ لم أطق حرارتها فنفضت يدي فزعاً وصرخت. ومع انحرافة جسدي المباغتة، والتفاتتي المُشيحة المتألِّمة، رأيت رؤوس الضيوف تملأ باب المطبخ، وفي عيونهم ليس السخرية، ليس الشر، ليس الخيانة، ليس الذهاب، بل المزيد من الإقامة والاسترحاب. كبيرهم الذي يبدو كشيخ الحارة ناداني بإشارة راعشة من سبابته النحيلة، تحركتُ من وثبتي الصخرية فارغاً أتدانى. استداروا واجمين أمامي عَوْداً إلى الديوان. جلسوا على المقاعد تاركين لي مصلاية الجلد أقرفص كالعادة. أدار أحدهم مفتاح الراديو، وحرَّك مؤشِّر الموجات ناظراً إلى السقف كمن يستشعر مجال الأبدية الصوتيّ بين الترددات المترحّلة علوا وانخفاضاً عبر كثباني، ثم مال بوجهه جانباً مضيِّقاً عينيه اللتين ما لبثتا فأشرقتا بغموض، وطفح هواء الديوان بسوتيانات كثيرةٍ خرجت من سماعة الصوت. احتوى ذو العين الواحدة أذنيه بكفيه وشدَّهما متشنجاً، ثم هبّ مرتعداً وانتزع موصّل الراديو بالدائرة الكهربية. ضحك الآخرون برجولةٍ وتمزُّقٍ، ثم عكفوا يرتدون السوتيانات مبتسمين كأسرى غلبتهم النداءات فهجروا الصبر وصُوَر النجوم والنجمات وهم يرْنون إليّ في مصلاية الجلد بالعيون الحسناء المخيَّشة. غاب ذو العين الواحدة وعاد من المطبخ رافعاً براحته اليمين كرة المحّ ترتجّ وعلى سطحها روح أمّي وهاجس الانتحار. وما إن رآه الضيوف العامرو الصدور حتى ارتدّوا برعبٍ صارخين، رافعين راحاتهم بتهديد، لكنه أطاح بكرة المحّ نحوي فتحطَّمَت على وجهي، ورأيت أنه استعاض بذلك عن رغبة مضطرمةٍ في حكّ فم العماء بالليفة يغسله غاضباً من رنين المدارات المنويّ الذي أُريق عليه كما أريق المحّ على وجهي. أطربني التناظر لوهلةٍ حين أوشك أن يصيح لماذا. وبدت المقاعد فارغةً، وهواء الديوان. وبدا الضيوف صوراً كثيرةً معلقةً على الجدران في براويز الموسيقى، تبكي كلها. وأنا، بأكياس التمباك المكرمشة، أتلقّى دموعاً مجوّفةً كنوازع الطيور، وأطويها تحت نور الضحكات الطليقة في حقلي. وذو العين الواحدة يجثو على زاوية الديوان، ممسكاً بقدمَي أمي النابعتين موسيقى، وهي تقرع على رأسه بعكازها دون أن يدعها أحدهم تدخل.