الأثرُ. مرضعةٌ لغير التغذية. حليبٌ في المهب. ولأنّ العالَم نزّاعٌ بطبعه إلى الْتِقَامِ أي ثدي يعرض به في طريقه ويتغذى على ما يَرضعه منه، فهي قابلية يتحلَّى بها العالَم والفنان على السواء، لا أثر الفنان. (يأكل المجاز. يَشرب الشَّايَ في القلب الخطأ: نجلاء عثمان التوم). و(العالَم) يستخدم هذه القابلية؛ لا اضطراراً ولا احتياجاً ولا رغبة، ولكن وأكثر؛ لا اختياراً، بل وفاءً منه وحفظاً لتقاليد المشاركة والاتصال الراسخة أن تُبقي على وجوده بمنجاة من البطلان، وإنْ على المستوى الإشاري بوصفه (دالاً) على حزمة بعينها من العناصر اتفق لها أن تتراضى على صيغة اعتبارية من الحدود تربط بينها علامات الجمع المحفوظة وهي مفترقة، لتنصبّ جمعاء عبر علامة التساوي سبيكةً مسكوكةً يُشار إليها بـ(العالم) دون الوقوف مطوَّلاً لدى واقع كونها مقداراً صناعياً ذا قيمة اعتبارية.
هذه القابلية لتناول العارض جوهرياً، يستخدمها الفنان أيضاً؛ ولكن من باب أسلوب الغلطة. أي أنه يُقْبِلُ عَمْداً على أيٍّ مما يهمّ وما لا؛ فيلتقم الثدي المسموم والثدي الميت والثدي المريض والثدي الخالي والثدي الـ...، ويستخلص منه ما لذّ له من الأغذية، وهو يعلم، كما إنه يضع هذا التشوُّه الترفيهي على عمله اختياراً. الفنان يَرْضَعُ لذَّةً ويُرْضِعُ لذَّةً. وهذا توقيعُهُ الأنشودة؛ توقيعه النائم في كل أحدوثة وملحمة وأمثولة وأسطورة وتمثال ونقش و...، يضعه في الظلام بيضةً بمثابة الخطة البديلة، فمتى ما انقلب الأثر نظاماً ومنهجاً واستقرَّ بعون آلات العالم المتأهِّب حاملاً فأس الملاحظة، حتى يستيقظ بيض اللذّة المدفون يغني في تربة الأثر، ويسعى جيشاً داخلياً من الحيث المستحيل عاملاً على مكافحة عوالق الملاحظة والتغذية والموعظة عن جلد الأثر، ثم يعيده إلى مهبّه طيراً أسود يشدو بحليبه المُظْلِم، وأيّ حليب؟.
إن الفنان يبذل عمله كما يبذل أي بشري يومَه عبر سنِيّ عمره. وما الأثر الفني إلا يوماً للنموّ والإخفاق والإصابة والتعلم و...!. لا يبذل الفنان أمثولات إلا بقدر ما يُشْرِقُ قلب الطفل إذ ينطق مفردةً يفهمها ذووه، ليس لأنها معبِّرة في نظره، ولا لأنها تعني أيَّ شيء جوهري، فقط هو يفرح بها لأنها تنشط بالخارج، وتعمل عمل الوصلة تسري عبرها تيارات الجوهر الثقافي المتراكم ـ علماً؛ لغةً، موعظةً، ديدناً، قوانين، ملاحظات، ملخصات، اختصارات،... ـ على أكتاف أهليه الفرحانين بالمثل إذ عثروا أخيراً في هذا المعجم الرضيع على ما يمكِّنهم من توريثه خبراتهم وتجاربهم و...، يَحْشُونَهُ بها. ومع ذلك، مع ذلك!، أفكار موحشة تتمزّق في بطن الطفل كبيضة الزمن، رطانات من العالم الجيني الدفين تُخرج أثقالها في قيامة التنفس والتعليم تنشرها؛ قبائل تكافح في أرض إدراكه كل المدخلات الطفيلية الفايروسية المقتحِمة، كتائب خرساء من كريات (الأنا المُظْلِمة) البيضاء المنسلَّة من قصر عدم الشريك الذي يفتح هذا أنفاقه السفلى حتى إذا فشلت طلائع المقاومة في طرد أغذية الخارج التيارية التهمتها وحوّلتها، فإذا بـ(فنَّانٍ)، مذعوراً أبداً من فأس (مَن عاشَرَ قوماً) يدفع الجزيةَ، مستدِيراً تلقاء نفسه غَيْرَاً؛ عينين مقلوبتين إلى داخله تضيئان بلد الروح البعيد لمرتاديه يستكشفونه بما هو أوفى إتاحةً من نشرات سياحية مبتسرةٍ تلفظها الألسن كما تلفظ الطابعةُ الورق، وقد يقيم بعضُهم بالداخل، وقد يتركون ذريةً، أما العائدون فهؤلاء رسل الرَّوَاج والمجاز والفهم وسوء الفهم والتناول الذرائعي؛ هم أبطال الفتوحات الانثربولوجية العائدون ظافرين إلى العالم من منابع نِيل الـ(أنا المُظْلِمة) بالكشوفات الجغرافية والأسطورية والتفاسير، وتحت سراويلهم الجوهرة الفذّة: زمبارة التحليل النفسي الفريدة. ظلمةٌ، إذا هذا يفتحها فذاك يغلقها، مشرِعاً فَمَه المجاني عَرَضاً يلتقم ويرسل من عاهاته المستحدَثة إشارات يا محسنين الكرامة لله.
يقع العالم، تحت وطأة الجوهر الثقافي الطاغية، في إدمان الموعظة، اغتياب الشخص في تجربته، ولا يتخلى أبداً عن المرجع والقاموس، ولا يؤدي خدماته بحماس ما لم يَنْحَشِ على مدار اللحظة بالنكات والنوادر والنفائس والأخبار والتقارير والسلع والعلوم و...، يؤذِّن فيها بالحج من رأس كعبته الزهراء تأتيه رجالاً، وعلى كل ضامر تأتيه، من كل فجٍّ عميق.
يريد العالم توسعة المتجر ما أمكن كي يزداد نطاق اختياراته من ما يرضع، وهو لهذا، لهذا!، يستنجد بالفنان لينهل من عمله ما يعينه على سياسة المتجر، ممسكاً ما دام بين يديه بثديه؛ ثدي الفنان، الذي يبدو عامراً بمحصول وافر من اقتصاد المجازات الذي يَهِبُ الوجودَ رخاءً سياسياً بمحمولات أبدية مطَّاطة تتراوح. وفي أحيان كثيرة يتناول العالم ما يرطنه الفنان غير مبال بنوعية ما يصدر عنه من إشعاع يكون سالباً على الأرجح، (إنه يلمع!)، يهتف المتسوِّق مأخوذاً: (إنه يلمع!)، ويروح يحشو به فمه منتشياً إذ يحلبُ اللمعانُ غُدَدَ المجازات البارَّة بركةً رقراقةً في اللقمة تحت اللسان الفرحان. (طبعاً قد يَنْظُر، ولا يَرَى: رندا محجوب).
لا تطلُب القراءة الذرائعية من المقروء غير ما هو يستعرض، بمبدأ المنطق الإيجابي لآلية العرض والطلب؛ أي ما هو في حدودِ مشروعيَّةٍ متفاهَم عليها شريطة أن تحقِّق النفع للطرفين وفقاً للتسعيرة الوضعية السارية. أما القراءة بمبدأ اللذة، فهي تستدرج المقروء إلى فتح أعمى نطاقاته والتحديق فيها بذات الانفعال البادي على العينين اللتين تطالعانه. القراءة: إيقاظ المادة الغذائية التبادلية العاملة داخل الحقلين. وإذا اضطررنا إلى تعيين وظيفة الفنان؛ فهي وظيفة تؤدَّى مرة واحدة لا غير: أن يخطو منسلخاً عن بابه، أن يوجِد مجرىً بين نطاقين.
ولكن، إذا كان الأثر، بفضل جذرية التوقيع الشخصي للفنان عليه، منيعاً ضد قابلية التغذّي العرَضي والتغذية العرضية، فإن مناعته هذي تتهالك ذاتياً أمام إغراء قابلية أخرى استثنائية، يستوردها الأثر إدراكياً: أسلوب الغلطة. و(مُشَاعٌ في التنفُّس شَطَطُ الحِرَاسة: رندا محجوب). عبوديات وأسفار. طبقات متشاربة من اللحوم والتوصيلات الداخلية والزلقانات والتغاذي وأعمال الرؤيوية البيئية تشعل في الأثر هوس الالتهام، الجوع المرَضيّ، طفْحٌ من العلاقات والترحيلات المتواترة؛ سواءٌ، أعمداً كان تواترها أم بـ(حُكْم العادة)، فهي في المحصلة تغدو نفقاً احتياطياً بابه داخل القصر وبابه الآخر خارج الأسوار، يرقد سطراً ميتاً، ناذراً بقاءه لتهريب عائلة الملك كجزء من مناعة القصر لا مغزى لوجوده غير أمرٍ واحد: (للحَيِّزِ أنثى: محفوظ بشرى)، القصر غير منيع ولا بُدَّ مقتحَم. يوضع أسلوب الغلطة مفارقةً معماريةً لتعزيز مناعة الأثر الفني على أساسٍ من افتراضٍ احتياطي يستبطن اللامناعة. واسطة العَقْد الهشة التي منحت أعظم الكنائس مهابتها، وهي حجر واحد إذا سُحِبَ من مكانه انهار البناء بحاله. ولكي ينام حقل البطيخ في بطن الفنان المنخدع اختياراً في صيف خريفه الإدراكي، فإنه يترك هذا الباب موارباً لينمو عليه عضوٌ استدراكيٌّ نفقاً سرياً للهروب، هو الشرط الضروري الذي بموجبه يأمن الأثر الفني من خطر الزوال مهما كثر عليه الغزاة، كما بموجبه يَسقط قصر الأثر الفني في إمكان التناول واستعصاء التناول، بضمانةٍ من أنه مهما قُلِبت غُرَفُهُ رأساً على عقب فإن شيئاً منه يبقى مغلقاً، وليس بالضرورة داخل إحدى الغرف، شيء مغلق في لا وجوده، في هربه، في نجاته، في ربما لم يكن هناك، ولكن النفق!. هناك سر في هذا النص!، هناك إذاً إغراء بفتحه ونبشه!. السِّرِّية دِينُ إزالة السِّرِّية. إرادة تدمير الغواية. أو كما كتب الفنان محيي الدين بن عربي: (الإشارةُ نداءٌ على رأس البُعْد وبوحٌ بعين العِلَّة).