Charcoal jar

Thursday, March 3, 2011

الحياة التي... الحياة

صَرَخَ في الحواسِّ الكونيةِ العظيمةِ، وهي منهمكةٌ بدأبٍ في قياسِ أشياءِ العالمِ، تسجِّلُ المقاديرَ والأحجامَ والمساحاتِ والأبعادَ والأزمانَ و...، كلَّ شعورٍ وكلَّ مادةٍ، ما أمْكَنَ قياسُهُ منها دنيوياً وما لم يمكن، تصنِّفه تفاضلياً في مستوياته الهيكليةِ المتغيِّرَةِ ثم تختم عليه.
صَرَخَ في آلهةِ الأشكالِ المستقرةِ للصوتِ، وهي على شرفِ ليلةِ العالمِ الأخيرةِ في حقلِ الغفرانِ، تعكف، في تواطؤٍ فاضحٍ بينَها والطبيعةَ، على أشياءَ فادحةٍ؛ أشياءَ نادرةٍ وفظيعةٍ، تقومُ معها بأعمالٍ، يبدو من ظاهرها، تُؤَدَّى لأغراضٍ احتفاليٍة لا أكثرَ، غير أنَّ الذي لم يَخْفَ عليه، تولِّدُ طاقةً شعوريةً مضادَّةً، غايَتُها تكوينَ ساحلٍ جاذِبيٍّ مقنَّعٍ بالهذرِ والضحكاتِ الفارغةِ، يكبحُ حركةَ الموسيقَى عند قدومها ويصفِّدها بالمادة إلى شروطِها القياسيةِ المتعارَفِ عليها في عالَمِ الشَّهادة.
صَرَخَ في الغافرِ الآليِّ النائمِ يُرْغِي رؤىً، ويُزْبِدُ مِنْ خيالاتٍ وطمثِ عواصفٍ وأزمنةٍ خميرةٍ ما يسيلُ من ركنَي شفتيه شفَّافاً وسميكاً كَمَنِيِّ غريرٍ، وتنحدرُ الفقاقيعُ الصغيرةُ على فَكِّه الناعم؛ فَكِّ الصبيِّ، ثم تنقِّطُ على صدرِهِ الآخذِ عُلُوَّاً وانخفاضاً في تنفُّسٍ رتيبٍ، والعالمُ يتهاوَى مِنْ جهاتِهِ الطفلةِ الممعنةِ ضرباً مغبوناً بالعكاكيزِ والأغصانِ الخضراءِ على عقلِ الهندسةِ الطفل؛ يتهاوى نحو الحقل مُتَّخِذَاً لنفسه مِنْ خِزْيِهِ سلوكَ النادمين ولاهجاً بنجوى التائبين.
صَرَخَ في وجه الحيرة الخالد الطائف حول الزمان مثل روحٍ حيوانيةٍ شقيةٍ طائفةٍ حول قبر حيوانها الْمُعْرِضِ عنها، وجنب الحيرة انتصبَت ليلةٌ عضويةٌ حيَّةٌ ووحيدةٌ، مأخوذةٌ بحالها من صلب الزمانِ وهي بَعْدُ دون الحدوث؛ انتصبَت ممسكةً ببوق هائل له أذرعٌ بلا عددٍ، كالحقيقةِ في قلبِ الواشي، ممتدةٌ منه كالوَصْلات إلى داخل الحياة، تنفخ فيه بصوتٍ لا صوتَ فيه فيهدل الكنـزُ الكلاميُّ المعجمُ في اللحم باعثاً في الخلايا نداءَ الوثيقةِ الصناعيةِ الأولى ليتولَّى خدمُ الحقل الملائكيون بعد ذلك إدارة الطيران.
صرخ في الصِّبْغَةِ الحمضيةِ المنشورةِ داخل نظام الوجود خميرةً أبديةً؛ حقلَ ألغامٍ خالدٍ يتناسخ في السلالات يُرَاسِلُ بَعْضَه باللُّغْزِ وآبارٍ، وينثر أوهاماً وعلوماً ونوافذَ ومغاليقَ تسعى بين أسطر المادةِ لا تعي الرَّمْزَ ولا تَعِي الصَّرَاحَة.
صرخ في القدورِ الواقفةِ يُوْدِعُ فيها النورُ بيضَه الأسودَ، يُقْفِلُها خْلفَه صبيانُه مُحْدِثين عليها من مؤخِّراتهم طلاسمَ موسيقيةً يجلبونها وهي بَعْدُ ثماراً وهميةً من دكاكين سوق الصُّوَرِ الكائنة بجنَّةِ القِدَمِ الخفية؛ يدفعون لقاءَها أشياءَ غاليةَ من حُسْنِهِم وحَدَاثةِ السِّرِّ فيهم، يأتون بها في مواكبَ هازجةٍ فيأكلونها عادةً عند حوافِّ العقل الطبيعيِّ ناظرين بشوق وحسرةٍ إلى مساقط عقلٍ لا يُسَمَّى ولا يُنَالُ بِعَيْنٍ تَرَى المكانَ وتبكي، يُنادون الظلالَ بأسماء أخواتهم فتناديهم كأنهم صَدَقوا، يريقون الطلاسمَ الموسيقيةَ في أحشائهم مع جرعاتٍ من النورِ والسهر والدَّمِ والعمَى، يتأوَّهون كعاشقاتٍ، وسرعان ما تُعادُ كتابة الموسيقى على ألواح أكبادهم بأحبارٍ صوتيةٍ مستعارةٍ من نفخة الصُّورِ فتسري هنيئاً مريئاً تتنـزَّل عبر محوِّلاتهم الهضميةِ الطاهرةِ لتخرج الثمرةُ الواحدةُ منها لحناً معجماً فتنطبع على فُوَّهَةِ القِدْرِ وهي قفلٌ؛ وهي خِتْمٌ، وهي رَصَدٌ، وهي، في الآنِ نفسه وبالأساس، مفتاحٌ يعرفه قَرِينُ القِدْرِ الموافق من أهل الأرض. هذا، قبل أن تُرْسَلَ إلى الزهور التي، وهي تَلِدُ الزمنَ في صباحاتِ الأرض وفي أسحارها، تُوْلَدُ أيضاً لعمرٍ بطول الشهقة يكفل لها أن تستقبل بأذرعها العضليةِ اللاقطةِ ما كُتِبَ لها من إرسال النور الأسود، فتنطوي كحاضنةٍ على ما وَفَدَ إليها من قدورٍ مملوءةِ بالبيض النَّيِّء تغمرها بالحياة والعاطفة، ثم تلفظها على العالمين زمناً متَّقِداً بتوافيق الممكن المجهولة واقترانات الأفلاك. زمنٌ، لَهُ في الأبدان أسْبِلَةٌ؛ وفي الأنفُسِ أنهارٌ، وفي العقول آبارٌ، وفي الأبصار نظامٌ هندسيٌّ يصرِّفُهُ للنَّاهلين. وما من زهرة منها، إلاَّ وفي أحضانها انفجرت شمسٌ سوداء وأفرخت ضحكةَ الْخُلْدِ الساخرة من عالَمٍ حيٍّ تبهجه الرموزُ أكثر مما يبهجه النبضُ في رسغ اليد. وما من زهرة منها، إلاَّ وهي جريمةٌ مجرَّدة؛ وهي نورٌ صارخٌ يتخبَّط بانزعاجٍ وجهلٍ وسط قطيع السعادات المذعور، وهي كلمة معطَّلة يتَّحِدُ الشعورُ بالطغيانِ أُشْنَةَ على ساقيها، وهي تقف مذهولةً حافيةً وترتعش في مياه أزَلِها الباطنيِّ الأخضر، خالدةً تحيض النورَ وتبعث في الأجناسِ عملَ الظواهر المائية.
صرخ في ضمير الغائب الْمُتَّصِلِ الذي يقف على رصيف الخيال مثل سلامٍ باطلٍ يفتعل الغيرةَ والهياجَ فيهجم وهو في رهب وتخاذلٍ متأصِّلٍ في صميمه على حبل الحياة المشفَّرِ بالروحِ ثم يرتدُّ صارخاً مرتعداً يسبُّ ويشكو قبل أن يلمس الحبلَ، وينطوي إلى رُكْنه الرَّكين في مخزن الضواري حبيسة الأنفس؛ مخزن الدهورِ قِطَعِ الغيارِ المجهولةِ، مخزن الضمائرِ الباطلةِ والوحدانياتِ الوثائقيةِ المعطَّلة.
صرخ حَبِيبِي في الحياةِ ذاتها. الحياة التي لم تَعُد لي ولم تَعُد للموسيقى ولم تَعُد للطَّيَرانِ ولم تَعُد للجريمة. الحياة التي شَفَّتْ وخَفَّتْ، حتَّى لم تَكَدْ يدٌ تُدْرِكُ لَحْمَها. الحياة التي ركضت كجِنِّيٍّ فَزِعٍ على تراب العقل اليابسِ واْنحَشَرَت في طبقاتِ الحقل التراكميِّ، ضاعت في المفاتيح الخاطئة. الحياة التي...