صرتُ ألقَى «مصرعي» كثيراً هذه الأيام. صحيح أنني تنفَّستُ بإسراف، وبعثرتُ ما لا يُحصَى من الإشارات برهاناً على وجود الحظيرة فيها «حياتي» و«صوابي» و«كتابي» و«أمّنا» يتماطرون. ولكن أصحّ منه؛ أنني نجحتُ على نحو محقَّق في تجنُّب البقاء على قيد «حياتي»، بقدر ما حقَّقْتُ من نجاحٍ في تجنُّب «مصرعي» كلما رأيتُهُ يسير مسرعاً يطنطن شاكياً من حماقات أخيه «حَيَاتي» راكلاً بقدمه النتوءات.
أيامٌ تقطَّرَت وأنا طافح على أسطحها. يوم يتسلّمني من يوم دون أن يشكِّل قيدُ «حياتي» عقبةً أمام انتقالٍ بهذه الصعوبة. أشعر أحياناً بأن الأيام تخدعني بـ«كتابي»، وتنقلني من قيد إلى قيد بألعاب سرعة أعجز عن ملاحظتها بسبب انهماكي في الحَدّ من أضرارٍ أخرى تنال مني عادةً جراء عملية الاقتلاع والزَّرْع اليومية هذه التي يرتجّ لها دماغي ولا يستقرّ إلا عند انتصاف الليل ليبدأ الزلزال من جديد تحت نوم «كتابي».
أيامٌ تقطَّرَت وأنا طافح على أسطحها. يوم يتسلّمني من يوم دون أن يشكِّل قيدُ «حياتي» عقبةً أمام انتقالٍ بهذه الصعوبة. أشعر أحياناً بأن الأيام تخدعني بـ«كتابي»، وتنقلني من قيد إلى قيد بألعاب سرعة أعجز عن ملاحظتها بسبب انهماكي في الحَدّ من أضرارٍ أخرى تنال مني عادةً جراء عملية الاقتلاع والزَّرْع اليومية هذه التي يرتجّ لها دماغي ولا يستقرّ إلا عند انتصاف الليل ليبدأ الزلزال من جديد تحت نوم «كتابي».
ثم رأيتُ ذاتَ يومٍ متجراً اسمه «قَيْد الهَامِلة»، لا أعرف حتى الآن على وجه التعيين كيف عمل مفعول هذه الضربة، لكن الرعب الذي أصابني كان في ما يبدو كفيلاً بتفتيت قيد «حياتي» شذراتٍ من نُشَارَة مادّة النّوم اللعَابيّة الشفّافة السائلة من ثغر «كتابي». وبدا لي أنني لمستُ فرعاً من اليوم لم أكن بمدركه إلا لأنه ارتطم بي متجاوزاً حدّ السرعة المنضبطة ذاتياً على مقاسي لتضمن غفلتي كلما تناقلتني الأيام. الأرجح عندي أنِّي لما رأيتُ ـ في حرارة الضربة والرعب ـ رتبةَ «قيد حياتي» من رتبة «قيد الهاملة»، اهتزَّ إيماني بـ«كتابي»، وأمسكتُ بالمثل عن سرعة التصديق التي طالما قابلتُ بها بهلوانيات اليوم وهي تشتِّت انتباهي على نحو ما سبق، أكفُر مرةً بكتابي، وألف مرة أؤمن، وكتابي يؤاخذني تدلُّلاً بالمرة، يدرجني قسراً في «ذهابي»، وكم أتشتَّت.
أمّا أن يطير «صوابي»، هكذا، بلا أي إشعار سابق، فهذا ما على الأيام أن تشمِّرَ عن ساقٍ لتواجهه أكثر من تشميرها لمواجهة بلوى تسكُّعي بلا قيد «حياتي» وتمرُّغي كالحمار الأجرب بين الجبل والقارب. أنا نفسي، منبوذاً إلى كتلة الجدري، لم أكد أتلقّى إشعاراً، إلا أنني توقعتُ الطيران ما إن رأيتُ «صوابي» يتململ في القفص وينقر قانطاً على القضبان ناظراً إليّ بعينين اختمر خلف شاشتيهما «ذهابي». ثم ثبت لي أنه يا مات حيث هو يا طار، يومَ رأيتُهُ يعلو بجناحيه الواهنين ناطحاً السقف برأسه في يأس انتحاريّ أخجلني من استمساكي بالأمل في بقائه. هكذا، طار «صوابي». ونظرتُ فارغاً إلَى كُلِّ إلَى. ولم يخجل أحد.
«كتابي» في عالم المثيل يأكل الثدي. «ذهابي» معتوه بـ«كتابي»، «ذهابي» المكتوف برائحة اللعاب يجهل أين كتلة الجدري. «نفْسي» يتنفس. «حياتي» في الحظيرة يأكل الكتف. «صوابي» الطائر يأكل العين الطائرة. «مصرعي» يُحْدِقُ بي على كل رأس.
بِتُّ كتلتي خالية. أقوم كل صباح بدافع البول لا غير، وحين أخفض ألبستي مُسَوِّياً جسدي بما يلزم لاندفاع البول خارجاً بحساب أن لا يصيبني من رذاذه شيء، يبغتني شعور بأني نائم أبول تحت ثيابي فأُوْشِكُ أن أهُبَّ واقفاً لأعيد إنزال ثياب لا أراها تَحُول بيني وجِلدي عَرَتْها رطوبة طفيفة من بلل البول الذي برَّدَه الهواء.
بعدها لم يعد «مصرعي» قانعاً بالتذمر، فقرر أن يتحرَّش بي. «نلتقي كثيراً هذه الأيام!. لماذا تتبعني إسماعيل؟، ها؟». زأَر في وجهي وهو يَصِرُّ بأضراسه بغبن مجوف ناظراً إليّ بعينين لئيمتين تضمان عشرين ضرساً على الأقل!. أردتُ أن أذكِّره: (لستُ إسماعيل، نسيت؟)، لكن شُلّ لساني من الخوف فوقعَت كلماتي في بطني، وأعجبني «مصرعي». لم أعِ إلا وأنا أندفع إلى حضنه بلا إرادة. وكم جسيمة مهمة إحصاء الأيام على من يُقْحَم في حالٍ مماثلة. ولما عادني الكلب أدركت أني تخلفت عن كل الأيام التي تلت آخر مرة لقيت «مصرعي». وعجزت أيضاً عن الاهتداء إلى كتلة الجدري لما رأيت ذيل «كتابي» ناعماً يتراقص غبطةً من داخل أرض المثيل ويصفع خدِّي برقَّة.
ثم سمعتُ الراوي يحدِّث عن أمرٍ غريب يسمونه «الغَد»، يقولون إنه يحدث في اليوم التالي، ولم أعرف أحزن ولا عرفت أفرح. لأنه لم يكن لـ«حياتي» نفوذ عدا يومه المفرد. نطاق عصبي من الكلب والعين والزمن؛ يطفو قارباً على سطح مياهه اليومية، أجري به من الحافة عبر القعر إلى الحافة الأخرى، ولا ينقلب إلا جبلاً وأنا تحت، قارباً وأنا تحت، أجري بـ«حياتي» في نطاقٍ لعله اليوم التالي تتابعياً، وأنا، في دوام الجري، أظنه يومي المفرد مقلوباً؛ الجبل قارباً، والقارب جبلاً. ولعله محض تََيْوَامِ النطاقِ جبلاً حيناً وقارباً حيناً.
لم أمُتْ مرةً في يوم مجاور لأعرف طعم ما لم يمكن، ولم أعرف من الذي أمكن غير أن أذعن للمكان. ومع ذلك، لم أخطِّط لأن يكون التحديث التتابعي لليوم أياماً، بالغاً ما اشتطَّ جوعي إلى الإفلات من أسفل الجبل القارب، أقل واقعيةً من حضور الموت. لهذا كلب وعين وزمن. كلب وعين وزمن.
ذبحتُ اليوم لقلبي قمراً مراً، كما اشترط الراوي، لتحميل «حياتي»؛ بـ«ذهابي» كاملاً بمنيّ كتابي ولعابه ولمسته ورائحته وصورة عينيه الجميلتين، إلى اليوم التالي. لا أعرف!. كيف استطاعت «حياتان»؛ فرضاً، دعك عن «حيواتٍ كثيرة» سمعتُ أنهن حشدن نفوذاتهن في اليوم التالي، أن تتحمَّلا بعضاً إلى أيام متتالية كثيرة دون أن تخطئ إحداهما فتفرِّع يوماً تالياً غير اليوم الذي تتحمل إليه أختها؟. والحال أنها «حيوات» لا تحصى، مَن لم تنجح في الانهيار إلى الغد المشترك ذاته تبقى صلبةً مطمئنةً تلتهب من طولها المؤلم في اليوم المتروك، ولا تخطئ مرَّة بالذهاب إلى يوم ثالث. أهذا ما حدث لي ونسيته؟، ألهذا «يومي» المفرد المتقلب يملأ مادَّة الجدري، وأنا بالقارب أبتعد؟. لن أندهش إذا كان العجز عن الذهاب بالحياة إلى الغد هو الشيء يسمونه الموت!؛ لأن ما حدث لي تحت الجبل عاديٌّ إذا كان بتأثير الموت.
سألوني: «ماذا حدث؟». «أين كنت؟». «ماذا الأصابك؟». وعجزت عن تبسيط ما حدث لي بالذهاب إلى إنه من سوء الحظ أو المصادفة. أيكون سوء الحظ عندهم أيضاً كأيامهم منظماً متتابعاً بهذه الدقة؟. أتكون المصادفات شخصية إلى هذا الحد؟. لا أظن!، على الأقل، ليس بدون نوع من التعمد السابق يدعمهما ليكونا فاعلين في ما حدث، وهو أمر يتعذر توثيقه في الذهاب، ما داموا جميعهم محتشدين هكذا داخل اليوم. أظنني حين تخلَّفت في «ذلك اليوم» عن الذهاب بـ«حياتي» إلى الغد، لم أكن أقصد «مصرعي»؛ أردت أن أجد الآلات والقوانين الحركية اللازمة لحساب سرعة اليوم المطلق وكتلته ثم تطبيقها على يوم عادي كـ«يوم مصرعي»؛ فالشَّكُّ لم يترك لي منفذاً غير. كنت ميالاً دائماً إلى الركود في الموضع، وحدث أن نسيتُ «حياتي» و«ذهابي» كَمْ مرَّة في مكان واحد طيلة ما لا أدري من أيام متتالية تستقبلني مع الحشد المتحرك دون تحقيق، ثم يظهر الكلب وبين شدقيه «ذهابي» ولجام الدجاجة الميتة. بهذا الميل إلى الارتكان، بدأت التأملَ في وجوب أنْ ليس المكان فحسب، بل والزمن أيضاً، يخلو من التتابعية، ما لم يكن المكان بالمثل، كالذهاب والحياة، يمكن تحميله إلى اليوم التالي، أي ما لم تكن لكل «يوم» نسخة تخصه من «المكان» تعمل مستقَرَّاً له، ويظل اليوم المتروك بنسخته من المكان، بل وبنسخته من الحياة والذهاب. فكَّرت؛ إن الصعوبة العملية التي جعلت من المتعذر الاعتقاد في أن المكان ينتقل، بمقتضى ضرورة استنساخه، تمثل مصدراً كافياً للشك في وجود اليوم التالي. وهو بالطبع شكٌّ، كأيّ شكّ، يحمل تفنيده معه. ولكن الذي حدث هو أن «سرعتي» و«كتلتي» هما اللتان تأوَّهتا هناك من مطر المنيّ على أرض أمّ الكتاب، تحت نوم اليوم المطلق الذي يتقلَّب قارباً جبلاً قارباً جبلاً قارباً جبلاً، وفضَّلتا البقاء يقظانتين تنموان في بطني، تاركتين نفسي لـ«ذهابي» يعلمها امتطاء القارب. هيا أيها اليوم المطلق.