كنتُ بالقربِ من دمعةِ السودانِ، أسترِقُ الحضورَ والعاطفة، أرفعُ عن طَمَعي بعضَ الكلام...
رأيتُ فأرةَ الدَّمعةِ تجري على الأوراقِ الأزهارِ، تلتفُّ بحنكةٍ حول البذورِ؛ الغريبة الكلماتِ، الغريبة الفاكهةِ، الغريبة الأجداثِ، وعيني عليها. ولحظةَ أوشَكَتْ تنحشر في جُحْرِ الاستجابة، ركلَت بساقها عفواً بذرةَ مفتاحٍ تدحرجَتْ، ورأيت. رأيت. وَقَفَ المستقبلُ يرتعد وادَّارَى خلفَ بذرةِ المفتاحِ، اْنكشفَ خباؤهُ، ضامَّاً كفَّيْهِ إلى صدرهِ كمسيحيٍّ يصلِّي، عارياً إلاّ من إزارٍ صغيرٍ ملتفٍّ حول جذعه. يرمقُ فأرةَ الدمعةِ في ضراعةِ المستعيذِ، وهي؛ مشدوهةً، على مسافةِ لمسةٍ من الجُحرِ، إليه تحدِّق. لم أجِدْنِي بشَرَاً هناك. (؛). عقلي وحيداً وجسدي وراء الباب. تشنَّجَ عقلي صريعاً في عينِ الطبيعةِ ما لقيتُ بِطَرَفِِِي عيناً باكية. بِالعَيْنِ الوحيدةِ التي كانت معي هناك؛ عينِ صبيٍّ جِنِّيٍّ من إحدى مدنِ الفردوسِ عالقٍ أبداً في سلاسل السنِّ الإلهيَّةِ، نظرتُ إلى عقلي العصفور، وعقلي ليس عقلي؛ هو العقلُ خالصاً مجرَّداً كشخصيَّةٍ كارتونيَّة؛ بل دودةٌ، فضحكْتُ... كالجَّاهلِ وَزْنَ المقام. أخَذَ العقلُ يرفسُ القشَّ بساقَيْهِ كمشرفٍ على الموت، هَمَد. طرح من سُرَّتِهِ أجِنَّةً مشقَّقةً من الطينِ المحروقِ اْنزلَقَتْ كالبَيْضِ، لم أعُد هناك. لم أعد هناك بشكلٍ مهين. طارَ عقلي الضِّفْدَعُ اْنزلقَ عبر فجوةِ المفتاحِ ملتحماً بجسدٍ هبَّ بحيوان النهايةِ يشدو كالجميل...
مبعوثاً، (من صورةٍ في الخلودِ إلى صورةٍ في الطَّيَران)، المستقبَلُ، (صبيُّ رَبَّاتِ الحاضرِ الدَّائخاتِ داخلَ الآبارِ الشَّاشاتِ الكبيرةِ المنصوبةِ في ترابِ الخيط. مثل محرِّكِ الدُّمَى، مِنْ تَحْت، يتقاذَفنَ عبر بدَنِهِ الطَّاهرِ بالجداولِ القُوَى قناطيرِ الجِّراحِ الثَّقيلةِ)، ينظرُ خائفاً إلى فأرةِ الدَّمعةِ التي، لستُ أدري كيفَ كيفَ، تنصَّلَت من دَوْرِها في الحاصلِ، اْفتعلَت بصُلْبِها حركةً طريفةً كأنَّها تسوقُ أعذاراً: لي، لستُ عاذرَهَا؛ للمستقبلِ المُحْدِثِ في جَمَالِه ذعراً، ما ظننتُه العَاذِرَهَا؛ للغاباتِ، كيف عَذَرَتْها، لِدَهشتي، وجُحْرِ الاستجابةِ الذي، بالطبعِ، لم يُبَالِ، فَعَصَفَتْ بنا كُلّنا، بَعثرَت أهدافَنا. خَرَجَتْ من الحكايةِ مثلما دخَلَتْها؛ عاصفةً، واْنْقَطَعَتْ في عينِ السودان الباسمة. لن يصدِّقَ المُمْكِنُ كيف أعَادَها المستَقْبَلُ؛ هل يُصَدِّقَ ماذا فَعَلَ بي!، أنا لم أُصَدِّق!. أذكرُ كَمْ كانَ خائفاً مختبئاً وراء بذرةِ المفتاح مُحْدِثَاً في جَمَالِهِ وسروالِه... لا أصَدِّق!...
بنظرةِ صعلوكٍ لئيمٍ رَمَقَنِي المستقبَلُ، خاطبَني بِلِسانِ الأعضاءِ المخيفة: (واااك!!)، يختبرُ قلبي، فأجفَلْتُ طبعاً بردَّةِ فعلٍ طبيعيَّةٍ يأتيها أيُّ واحدٍ حيالَ البَغْتَة. أقول: لازِمْ كانَ مُحْرَجَاً أنْ شَهِدْتُ خيبتَه؛ ولازِمْ كنتُ مُحْرَجَاً أنْ ذلك أيضاً، وإلاَّ ما وَجَدْتُنِي مُلْقَىً على قَفَايَ في مكانٍ آخَرَ ما إنْ أجْفَلْتُ؛ مكانٍ لا أعرِفُه. حُفْرَةٌ في الطَّيَران. شكلٌ هندسيٌّ ظِلِّيُّ الأبعادِ على صفحةِ كرَّاسة. لا هو بالقاهرة لا هو بالخرطوم لا هو بالأرض حتماً؛ ليس بالقرب من دمعةِ السودانِ على أيَّةِ حال، هذا عن يقين!. هل دارَ في بالِك أنَّهُ القَمَر؟، أنا أيضاً!، لكنَّه ليس قمرَ الأرض بالتَّأكيد!. قلتُ إنَّهُ قَمَرُ الدَّمعةِ ربَّما، أو هو قمرُ الهاجس، أو حتَّى، قمرُ الرَّسَّامينَ أو قَمَرُ الوِلادة!. هذا غير مستبعَد. أعرف أنَّ الممكنَ يستبعد قمرَ الدَّمعة، لكنَّه كالعادةِ، ممكن. فما إن اْعتَدَلْتُ على طولي حتى تلقَّيتُ في وجهي لطمةً، وحفنةٌ من نهاراتٍ كونيَّةٍ ثقيلةٍ ملأتْ قلبي بمذاقِ التُّرابِ، اْتَّسَعَتْ عينايَ، أفْعَمَتْ أنفي رائحةٌ أليفة.
رأيتُ فأرةَ الدَّمعةِ تجري على الأوراقِ الأزهار، تلتفُّ بحنكةٍ حول البذورِ؛ الغريبةِ الكلماتِ، الغريبة الفاكهةِ، الغريبة الأجداثِ، وعيني عليها!. ولحظةَ أوشكَتْ تنحشرَ في جُحْرِ الاستجابةِ اْمْتَدَّت ساقٌ طويلةٌ من خلف إحدى بذورِ المفاتيحِ الكثيرةِ المرميَّةِ عفواً وعَرْقَلَت رجليها، تدحرجَتْ فأرةُ الدَّمعةِ صارخةً. ورأيت. بَرَزَ المستقبلُ من وراء البذرةِ عارياً سَمَكَةْ، يشدَّ بقبضتِهِ على سلسلةٍ تنتهي بحزامٍ يطوِّقُ عنقَ المفتاحِِ الذي طفق يعوي في هياجٍ ووحشيَّةٍ ينازع قبضةَ المستقبل على السلسلةِ التي ما لبثت فاْرْتَخَتْ، فاْنْقَضَّ المفتاحُ مجنوناً على فأرةِ الدمعةِ اْقترَفَ المعلوم. أخَذَت فأرةُ الدَّمعةِ ترفسُ القشَّ بساقيها للحظةٍ قبل أن تهمدَ طارحةً من سرَّتِها أجِنَّةَ طَيْرٍ مشقَّقَةً من الطينِ المحروقِ اْنزلقَتْ على القشِّ، ولم أعُدْ هناك. لم أعد هناك بشكلٍ ما. أعادَتْني إلى الدَّارِ مُهْرَةُ اللاَّنهايةِ المعراجيَّةِ المُجَنَّحَة. سأذهبُ أُطْْعِمُهَا شيئاً من الماءِ بالطَّواسينِ المؤدَّبَة.