من أعمال عمر خيري/جورج إدوارد |
سمعتُ النحنحات في أصقاعي الوحشية، يا تحت وطأة الصورة، يا تحت موسيقى تقلّبني بين المقامات من اللبلاب إلى القمح إلى الزهرة فالخشب المنخور فالدهاسير فالسمسم فالليمون. وفي كمال أحوالي بين أيديهم، تنحنحوا. ضيوف عائليون ظلوا يطلبون القهوة لا يكتفون، ومسحوق البن في الصورة ينحسر. أشعلتُ سيجارتي من عين أحدهم واستأذنت الدخول إلى المطبخ.
أردتُ أن أرى أمي، كسرتُ بيضة الحمامة التي انزلقَت على زُهُوّ روحي ذات صباحٍ ماطرٍ قديم في سوبا. رأيتُ روحها ترتعش على سطح كرة المحّ الصفراء ذات القوام المتماسك اللزج. دنوتُ بأصبعي رفقاً فوثبَت عليه ضحكةٌ لم أطق حرارتها فنفضت يدي فزعاً وصرخت. ومع انحرافة جسدي المباغتة، والتفاتتي المُشيحة المتألِّمة، رأيت رؤوس الضيوف تملأ باب المطبخ، وفي عيونهم ليس السخرية، ليس الشر، ليس الخيانة، ليس الذهاب، بل المزيد من الإقامة والاسترحاب. كبيرهم الذي يبدو كشيخ الحارة ناداني بإشارة راعشة من سبابته النحيلة، تحركتُ من وثبتي الصخرية فارغاً أتدانى. استداروا واجمين أمامي عَوْداً إلى الديوان. جلسوا على المقاعد تاركين لي مصلاية الجلد أقرفص كالعادة. أدار أحدهم مفتاح الراديو، وحرَّك مؤشِّر الموجات ناظراً إلى السقف كمن يستشعر مجال الأبدية الصوتيّ بين الترددات المترحّلة علوا وانخفاضاً عبر كثباني، ثم مال بوجهه جانباً مضيِّقاً عينيه اللتين ما لبثتا فأشرقتا بغموض، وطفح هواء الديوان بسوتيانات كثيرةٍ خرجت من سماعة الصوت. احتوى ذو العين الواحدة أذنيه بكفيه وشدَّهما متشنجاً، ثم هبّ مرتعداً وانتزع موصّل الراديو بالدائرة الكهربية. ضحك الآخرون برجولةٍ وتمزُّقٍ، ثم عكفوا يرتدون السوتيانات مبتسمين كأسرى غلبتهم النداءات فهجروا الصبر وصُوَر النجوم والنجمات وهم يرْنون إليّ في مصلاية الجلد بالعيون الحسناء المخيَّشة. غاب ذو العين الواحدة وعاد من المطبخ رافعاً براحته اليمين كرة المحّ ترتجّ وعلى سطحها روح أمّي وهاجس الانتحار. وما إن رآه الضيوف العامرو الصدور حتى ارتدّوا برعبٍ صارخين، رافعين راحاتهم بتهديد، لكنه أطاح بكرة المحّ نحوي فتحطَّمَت على وجهي، ورأيت أنه استعاض بذلك عن رغبة مضطرمةٍ في حكّ فم العماء بالليفة يغسله غاضباً من رنين المدارات المنويّ الذي أُريق عليه كما أريق المحّ على وجهي. أطربني التناظر لوهلةٍ حين أوشك أن يصيح لماذا. وبدت المقاعد فارغةً، وهواء الديوان. وبدا الضيوف صوراً كثيرةً معلقةً على الجدران في براويز الموسيقى، تبكي كلها. وأنا، بأكياس التمباك المكرمشة، أتلقّى دموعاً مجوّفةً كنوازع الطيور، وأطويها تحت نور الضحكات الطليقة في حقلي. وذو العين الواحدة يجثو على زاوية الديوان، ممسكاً بقدمَي أمي النابعتين موسيقى، وهي تقرع على رأسه بعكازها دون أن يدعها أحدهم تدخل.