أيامٌ مُعَادَة؛ مُعَادِيَة؟.
وأشياء تُشْبِهُ الموتَ، لولا أنَّ بها شيمةً من حنينٍ وظلاً من ابتسام.
لعلها هو.
وهل بدا الموتُ أبداً غيرَ مألوفٍ حميم؟.
وإنَّكَ لَتَظْلَعُ في الجَّادَّات الجَاحِدةِ، التي تتوزَّعُ على براريِّها الذاكرةُ، فاقعةً وناريَّةَ المحيَّا، حتى لتراك البوَّاباتُ الكريمةُ في الطَّشَاشِ والمدنِ البيضاءِ يتيماً ومُزَاحَاً إلى صقيع الهوان والنَّسْي، والعينُ منك يترقرقُ فيها السأم والأسف واللاسؤال. وكَمَنْ يتظاهر بتذكُّرِ مالم يَحِرْ له إنكاراً، تخوضُ في استدراكاتك حيال الآخر، مُنْجَرَّاً مع قطيعك الطاعن في القناعة، ذهبُكَ الصغيرُ؛ إرخاء ما يمكن من اللِّجامات من أجل استعادةِ التثبيتات الْمُتْحَفِيَّة في التصوُّر، بالعَرَمِ ذاته الذي يأخذك إلى سريرٍ ما. لا... لم تفهم الحبَّ، إنما تُسَمِّي خَجَلَكْ؛ تسمي نزوعَكَ إلى القرب من مفقودٍ لا تدريه، تسمي ما يهينك في الكيان؛ حباً، وتَدَّرِئ بما لم تختبر له هذياناً ولا نكتةً. لا.. لم تكن لغةُ الجسد؛ طقسُهُ؛ اقتصادُه وفضاؤُه، مما تعتني به يوماً. كنتَ تعني مجازاً حين تحكي مغامرةً جنسيةً؛ تعني تفوُّقَكَ، كما يحكي غازٍ كيف خرَّب المدينة. كنتَ... لا، لم تُعْشِبْ فيك رغبةٌ، وما ـ حين الموتِ حتَّى ـ أزهَرَتْ في قلبكَ نِيَّةٌ ذات حياة. أما أتاك أن كل هذا المعنى الحاصل الذي تسميه (الإنسان) كان دائماً التَّبعة الميكانيكية لعمل لحظةِ الجنس، التي ما كانت لتستدعي حفظ النسل الإنساني بأية حالٍ لدى وقوعها، بقدر ما كانت نُشْدَانَاً لفراغٍ ثمينٍ من جهةٍ ومَلاَءٍ بخسٍ من الأخرى؛ تخلُّصاً من عَرَمٍ، بالأحرى، إلغاءاً لكلِّ آخر يتعدى عضوَي العمل الجنسي في الجسدين مقتسمَي اللحظة، وإن أُرهقَ الفعلُ باستعاراتٍ أخلاقيةٍ ثقيلةٍ، فكلَّفت العائلةُ الحياةَ كثيراً، وكلفت مركزيةُ الإنسان المعرفةَ ما لا يقاس. فبين قوسَي الولادة والموت، يتلوَّى الكائنُ، ولا يكفُّ يحاكي الموتَ بالنومِ، ويدخل في صيرورات الحلم المُخْتَلَقَة المحفوفة بالشوق والسؤال. إذ لا يستمدّ الموت ثِيمِيَّـتَه الكاسحة من كونهِ حتماً، ولا من كونه يجزِّئُ الوجودَ إلى (كينونةٍ حياً) و(صيرورةٍ ميتاً) بحدِّه القاطع، ولا حتَّى لأنه السؤال الأشدّ غموضاً والأقسى إيلاماً للأحياء. فَبِعلَّةٍ من أن الموت لا يُلْزِمُكَ بآخر يقتسمُ وإياك المتعة والألمَ ـ بحسب الاستجابات ـ يغدو جوهرياً، فَمُفْضٍ بك إلى تجربةٍ تاليةٍ في الحياة والإحداث قد لا تبدأ بشخصين التصقا فباضَ أحدُهما ثالثاً. فعساكَ صرتَ شجرة، شتيمةً عابرةً، حذاءً، غُربَة،....، قبل أن يحتكرك شريكا سريرٍ لتكون اْبنهما.
مسروراً داخل لعثمتِكَ الجسدية تعرج فوق قلقِ اللغة، مصاباً بالمجازات المشوَّهةِ وأشباه التأويلات، تنسجُ ـ شأن حشرةٍ مسرنمةٍ ـ ثياب الضوء المبقعة بالأسى والعَرَق. يهشّك ولعٌ في سريرتك بأحاديث الآخر عنك، وتتوَّهم تحت كلِّ فكرةٍ خنجراً أو بسمةً مسمومة.
أدعوكَ للنظر إلى مجازات السرد الوادعة هذي؛ المتجذِّرة في عمق بنيتك المأساتية المتكررة بتعرجاتٍ على مرايا اليوميّ المخيّب:
الدين/ الأخلاق/ القوانين/ الأمثال/ شهادات وعقود الإثبات/ المدارس وأساليب التربية/ مؤسسات التكويم الاجتماعي/ مفهومات الذهن الاجتماعي/ إحاطة أعمال الحركة الداخلية للفرد بانتقائية غيبية، وإحالتها إلى قوى موضوعية تلغي شرط الذات الذي أنتجها، ومن ذلك، احتقار أعمال الذاكرة والخيال وإلغاؤها، ضمن تصوُّرٍ يقدّس الحكي الشفاهي، ويفرح باختراقات الخرافة لوحلِ بركته الميتة؛ وبتفسيره الذي يُسْقِطُه عليها، ويرى في الكتابة والرسم والغناء صياعةً وانعدام موضوع/ تشفير الحنان على هيأةِ حلفٍ سريٍّ مستبطَنٍ مُتَوَاطَأٍ على إقصاء ظلِّه المجازي، باتفاقٍ غير معلنٍ بينك والعائلة، يقضي بتمرير الرشوة حناناً عبر أسفل الطاولةِ ثمَّ بَسْط الوعد بِرَدِّها طاعةً وحَمْلَ اسم على سطح الطاولة/ تفخيخ الذاكرة لدى الطفولة بمفرداتٍ ذات ظلالٍ مستقبليةٍ مصيريةٍ أسطورية مثل (طبيب، مهندس، ضابط...) وتردادها بكثافات تقديسية تتعلَّق بالرِّفعة الاجتماعية والمكانة و(يشار إليه بالبنان!) ثم إذا قَصُرْتَ عن الارتقاءِ إلى هذا الذهب العالي، تراكَ علقتَ بصمغِ القاع، فتبقى ـ ذهنياً ـ محتفظاً بتصورات دونيّة عن قَدَرِكَ كشخصٍ خارج التقييم، وتنحر أعماقك على حَجَرِ التثبيتات التربوية، لتصبح بعدها قاصراً حقَّاً، محضَ كتلةٍ مليئةٍ بالبلادةِ واللاسؤال، تَدْرُجُ على مساقط الرضا بالمكتوب، حتى لكأنَّ (المكتوب؟!) اشتغالٌ تختلي به السماوات في مخادعها الباردة لتقطيع الحياة/ ثمَّ فانظر إلى هذا الحديث الشريف المزخرف على الحائط: (من رأى منكم منكراً فليغيِّره بيدهِ، فإن لَم يستطع فبلسانهِ، فإن لَم يستطع فبقلبهِ، وذلك أضعف الإيمان)!!، هذا المجاز السلوكيّ الكاسح الذي حاد بك تماماً عن التفكير وملاقاة الأسئلة. فهاهو عرَّابُك الصحراويّ يهتفُ والقذارات تنهال عليه: (والله إني لآتيكم بالذَّبح)!، وهو المرسل لينقذ الناس كافَّةً، يرتِّب لهم أساليب مواجهة الآخر على ذلك النحو!!، أليس التغيير بالقلب هو التفكير؟ إنه أضعف الإيمان/... وسِوَاهَا.
ثمَّ أدعوكَ للنظر فيها، ثمَّ أدعوكَ لتقول لي: لماذا موتك، ثمَّ ما، وكيف هو!.
أراك تترجرجُ على غُنَّة الذوبانات العالميَّة، فَمِنْ هازِجٍ فيك بِزُمبارَتِهِ المشروخة لحراسة الثقافات المحلية الموهومة والفلولكلورات المتحَفِيَّة المهترئة، إلى صادحٍ بغناءِ الكونيّة، مُصَفّقٍ بِبِرٍّ وبُنُوّةٍ للثقافة الإنسانية والتقدّم والديموقراطية وما شاكلَ ذلك من النداءات التوتاليتاريّة الزاهية المزيّنة بالتكنولوجيا والتطوّر العلمي والنظريَّات ذات الأجفان المحترقة. تَمثُلُ أمامي بقوّة (أسطورة يوم القيامة)، وأنا أسمع تقاليد النهاية والما بَعْد التي أخذ يُرْسِيها منظرو وكهنة العراء البرزخيّ الراهن. أما الثقافةُ يا هذا، فإنْ يحاولُ بعضهم فيك إلاَّ اختلاقها. فثمَّةَ نثاراتٌ من التقاليد والمقولات والأشكال الشعبيّة، هامشيّة ومتنحِّية عن المشهد القُطْرِيِّ نفسِه، أخذ هذا البعض ينبشها ويحاولُ بَعثَها في تُرْبَتِهِ الغُفْلِ من خصوبةٍ، وقد اكتشفَ فقره الداخليَّ وفراغَ رَاهِنِهِ، ليرى فيها خصوصيّةً، ليسميها ثقافةً، وهي تعجزُ عن إيواء الزمن، تَقْصُرُ عن أسرِ أيِّة لحظةٍ أو اشراقةٍ معرفيةٍ داخل اسمها. أتظنّها تدرأُ عنك الطوفانَ وتعصمك من سَيَّال دين المعلومات الوليد؟. لستَ سوى ساندويتش معرفي داخل شبكة تشفير العالم، وإنك لمقضومٌ ومحذوف. وما تعدو جميع المحاولات الراهنة لإحياء تلك الثقافات الأثرية عن أن تكون (فرفرة مذبوح). ما يلزم للدخول في الأزمان القادمة، هو صَيَرانٌ جديدٌ، لا يبدأ بالتأسيس على أيةِ مفاهيم أو أشكال موروثة في الخطاب والعمل، ولا يكون إلغاءً أو تكفيراً عن ما سبق. يبدأ من الصمت. من استنطاق الأعماق بلا صوت ولا إشارات، والإنصات للغتها ومعرفتها. يبدأُ خارج الصوت والعضل. يبدأ بفكرةٍ عن القوّةِ مغايرة. ربما قوّة الدخيلة.
وأنت في شخيركَ الصَّحْوِيِّ، تُغْضِي أمام السترات المبقَّعة بالأخضر والأحزمة الغليظة، مَهِيْنَاً، أم هَيناً، لم أعد أعرف، تدَّرئ بالخجل من هجير الأسئلة اللاَّفح.
أخ خ خ، ... يتراءى الموت أمامي، أليفاً، ومعصوب العينين بالرغبة. رغبةٌ، بما تُبطنُ من حرمانٍ وِلاَدِيٍّ واستنفارٍ لحوحٍ لإقامة الحياةِ والسَّهرِ على عافيتها، دائمةُ الهمهمةِ والبَرَم تتململُ على الاحتمالات، مدفوعةً بالذي يخيبُ ويطيشُ بلا توقف؛ بما يتخلَّى ولا يُمْسِكُ؛ يُغْضِي ويَرَى؛ يُشِيحُ ويُزْهِرُ في عينيهِ الدَّمُ. رغبةٌ تَنْسى.
ينتحب الجسد في مَغبَّةِ إحداثاتِهِِ الممكنةِ المتأبِّيةِ ويتذكَّرُ ولَعَهُ التافهَ بمجازات الجنس وأشباه الطاعات. وأيامٌ تسيلُ على ليلِ الصورةِ المشلولِ، عريقةً وموشكةً على الهلوسة والنسيان، تَتَلوَّى في شركِ الذاكرةِ بمرحٍ، ثمَّ تَنْسَلُّ تاركةً قميصها اليابسَ على أسلاك الكيان.
وهو، الشخصُ، أنتَ، وكذا الضمائرُ، وفيراً كما سَجدةٍ، ينتَعظُ بقوةٍ إثر عضَّاتِ الساعةِ، ويموتُ حين الصَّديق. هل رأيتَ حَرَجَ الأشياءِ لَدى الدَّمَامَة؟، هل بَلَّتْكَ الطِّبَاعُ الْمُسُوخيِّةُ بِقَطْرِ فتنتها؟. نياقُ الوقتِ مذهولةٌ من شدِّة الشَّجر!، وفي عروقِ القوافل يَسري الحديدُ. يسقُط الشَّخصُ في أسْرِ حالاتهِ، ويتكوَّم الضوء على شطرنج الحداثةِ الأمْهَقِ، مائعاً ومتجمِّعاً كَكُتلةِ مخاط؛ فالضوءُ، هو التجلِّي المقدَّس للمطلق، وهو مجازٌ مكشوف منذ فجرِ الحيرةِ عن وجهِ الإله. وإلى ذلك، فهو عاهةٌ بيضاء تزيِّنُ وجه المكان، وثمَّةَ الروحُ الكربونيّةُ للعالم ثاويةٌ تحت كل جَسدٍ وطيف، تَسهَرُ على براءةِ الشظايا وعافيةِ الخرابات الوشيكة. أفَفِي أحشاء هذه الجدران طيور؟؛ لأنَّ ثمة أجنحة وحكايات محطّمة، تخرجُ بلا ذاكرةٍ، ولا تعودُ تحملُ أسماء. لأن وعداً بالموتِ، ما كفَّ عن التهدّلِ منها كثديِ امرأةٍ عجوز. لأنها ما كفَّت عن السُّعال. تقِفُ النِّيـَّةُ أمام الجسدِ مخنوقةً بالإشاراتِ، تحترقُ داخل ثوب الزفاف الهلاميّ؛ فالرغبةُ تَنْسَى.
وفي غايةِ العاصفة، هنا، بالتأشير على كمين الظنِّ في اللّعبة عينها؛ المضيئة بكامل السماحة؛ الرَّاعبةِ دون أن تُسْتَنْفَد؛ المنشورة على الطبق الأبيض الذي تمتدُّ إليه بسعارٍ منهومٍ جميعُ الأيدي العالقة على الاحتمالات؛ الْمُرْتَصَّة بالضرورة حول مائدة العالم: تُمْكِنُ الكراهيةُ.
بمصاحبةِ غياب الْحِنِّيَّةِ المريع، في كنفِ كُلِّ الرّفقات الوحشيةَّ الوافرة، تحت المجيء الظافر والدخول الكبير الذي دَشَّنَ بهِ البياضُ هَجْعَتهُ المديدة تحت الأشجار: أعثرُ على ما لا تتهيَّأُ ملاقاتهُ إلا بالجنون، ما لا تَنْتَجِزُ مُوَاقَعَتُهُ إلا باقتصاد الجسد. أعثُرُ على الوعدِ الهندسيِّ؛ جَنَّةِ الحديد والبلاستيك؛ قيامة الصِّناعة. أنظُرُ إلى يدي، فأجدها قديمةً، تلهَجُ بدعاءٍ وَثَنيٍّ، وعليها بقايا النَّار التي، منذ صورٍ كثيرةٍ أشعلتُها لأرى الزَّمنَ؛ تَرِفُّ فوقها خِفَّاتُ العوالم النادرة التي ساحت في الأبعاد. وبين المصافحات الحارَّة ومقابض السيوف، ماتت كثيراً، ثمَّ، وبلا أدنى إحساسٍ بالتَّأذّي، وبكثيرٍ من المودَّةِ والتوتُّر، ها هي، بثلاثة أصابع تقبضُ على شيءٍ صغيرٍ، يفضي بشوشاً إلى أقصى العنف والرهافة.
أكتب عن شفرةِ الزمن. أكتب ومن زعمي أنَّ الزمن هو المكان بلا مسافة؛ هو المكان يتقطَّعُ، وما اتصالاتهُ إلا دأب التَّظَنِّي، تَهْرِفُ به الضرورةُ في هذيانها على فراشِ التحوّلِ، منساقةً إلى طبع جَلْدِ الذات، بتقمّصِ ما توهَّمَتْهُ من سلوكات الاحتمالات، لإسكاتها، ولكي تزيح عن نفسها الإحساس بالخزي والخجل من جرائمها والهجران. وربما هو الحكاية بلا أجسادٍ ولا لغة، وما صِفَتُهُ الخطِّية التي يتغنَّى بها خطابُ حضارات الإنسان، إلا بطارية يشحنها الوعي الانتهازيُّ من أشواق الجماعات المُسَرْنِمَةِ نحو يوم عدلٍ وخلف قوةٍ متصورةٍ، قد يكون مجازها شخصاً أو مكاناً أو حالاً، تَقَعُ حتماً في آخر الزَّمان؛ عادلة. إذْ بَيْنَ (التصوُّر الزراعي للجنَّة)، لدى الديانات الموسومة سماويَّةً، و(الوعد بسَعَادِيَّةِ منجزات الصناعة الحديثة)، الذي يبذله عرَّابو الحضارة السائدة راهناً، تقومُ أُخوَّةُ الضرورة، وقد قَدَّمَا حتى الآن من البراهين ما يكفي على غياب الحبّ والسَّلام في خطابيهما العمليّيْن؛ فالإيماءُ بالكراهية والنَّبذِ، إنما يتوجَّهُ إليهما على السَّواء، بحسبانهما، أي (الجنَّة الخضراء في الآخرة)، و(التخطيط التكنولوجي لليوتوبيا الدنيويَّة):
1. وجهان للعملة نفسها، صَدئ جانبٌ منها، وما زال الجانب الآخر بهيَّاً، يَعِدُ بمزيدٍ من التداول وتكويم العالم داخل خزانات المعلومات الجديدة.
2. الذريعة الحاذقة لتكريس وتغذية الأمل بالسعادة كغايةٍ سُمْيَا، بِسَائِقِهَا يُبَرِّرُ الذهن الجماعيّ حركته ولهاثهُ وصبره على اللالُقيا، ولأجلها صار لكلمة خادعةٍ مثل (تضحية) معنى.
3. الخطاب الكُلِّي الذي تحت ظلّه يُقنَّنُ القمعُ لكلّ خيانةٍ للمعنى أو غياب لمفهومات فارغة مثل (الكمال، الغاية، الحتمية، المثال، الصبر، التضحية...).
لستُ لأَسَمِّي مؤامرةً كونيةً بهذا، بل احتيالاً وجودياً، ضَرْبَاً من مكافأة الذات، وجنساً من احتكار التلقين بقوّة المعرفة وسلطة الوعي. أنا هنا لأُريكَ صورةً لا أبلغ، مُحتقنةً بالمجازية والوشاية: (الإمام محمد عبده يقف مُطرقاً مخذولاً أمام عينَي المفكّر الفرنسي رينان المحمول على طلقة نابليون الجامحة). إن هذه الصورة لتمرقُ عبر الجِّفن لتقول العالم، لتعني كلّ هذا.
أسألكَ عن مَجْلَى ما مَدَّتكَ به الحملة البونابارتية من (علميّة!)، وأنا أرى حاصلَ القيء التاريخي الذي أحدثْتَهُ جرَّاءها باسم هاجس التقدم و(خذوا منها ما ينفعكم)!. فكيف ستحمي دولة الأشجار والماشية القابعة في ذاكرتك وحاضرك النَّفسي من بهاءِ وسحريّةِ دولةِ السِّلع والهندسات التي انسلّت إليك بمجازاتها الوبيلة وإشاراتها الباطنيَّة كافّةً وأقامت فيك بنيةً عميقةً تطفحُ بالضوء وترسلُ عطايا الكمال بلا حد. هل تستطيع الاحتفاظ بهذه الجِّيرةِ الوخيمة؟.
أرى أزهاراً بلاستيكيةً على سطح جهاز التلفزيون.
تائهاً تَتَخبَّطُ في حَرَجك، وسط مهرجان الولادات والتحولات، وتدير بإصبعك الحبات الأربع لمسبحة الأيام القديمة ذات الطبع الأوركستراليّ والصَخَبِ المتساوقِ الرَّصين: (الفلاَّح، الراعي، الصياد، التاجر)، هذا الحبل الزخرفي النظيم الذي هذَّب التاريخ على رفِّ الثابت والضروري والواجب، ومدَّك بعقيرةِ التمثال. هذه المرآة الوفية لصورتها؛ صورة الحياة؛ صورة المألوف. هذا المربَّع العريق الذي قصَّ أطراف المعرفة بالدَّم والنار وأرسلها مع شياهه إلى العشب، واحتقر الحيرة محيلاً المجهولَ والأسئلة القصيِّة إلى جامع نهائيٍّ كاملٍ للإجابات، مفترضٍ: (الله).
لن ترى ذلك الشيء الصغير الذي تدلَّى من خيط المسبحة منـزوياً، لأنه هو كلُّ مايحيطُ بك من جنونٍ وصخبٍ وازدحام: (الصَّانعْ). عَلَى الهامش؛ على الهامش بلا ترددٍ، ومنذ ولادة العمل، طفق الصانع يظلع خلف القافلةِ مثل أسيرٍ، آخذاً على عاتقهِ الفتيّ كلَّ ما يتناثر من أسرارٍ ورمادٍ ونَدَمٍ، حتى تراكمت لديه الفسيفساءُ الكونية؛ مانْدَالا الحضارات؛ بانوراما الظواهر، والمعادل الموضوعي للعالم، فحازَ (الأَلِفَ) بامتياز. فمن موقعه المتململ ذاك، الْمُزَاح بقسوةٍ إلى الحافَّة، كان يمدُّ، بين العصر والآخر، أصابع خفيّةً تعبثُ بودائعِ ضُحى الحضارة، ويتساءَلُ بسأمٍ عن أوان الغسق، ثمَّ بدأت القافلة المربَّعةُ باللهاثِ والتساقط، وكانت الصناعةُ لدى لحظتها المركزيّة في أوج الفتوّةِ، فتقدمت القطيع الفتران وانحدرت به من صحراء الحركة والظلام والمواجهات المؤجلة، إلى عاصمات الضوء والجلوس؛ إلى نشيدها الكونيّ الموحّد، حيث المدن: سيادة الصوت وأخوَّة الضرورة. المدن التي لاحُلُم. المدن التي ليلٌ وزمن. المدن التي خاطها الدَّمُ وتخثَّرت على جَسَدِ الجَّمال. المدن التي تسْهِلُ في الرُّوح أياماً ديدانيّة وأصواتاً تشبهُ المخاط.
وأمامي يترجرجُ طيفٌ بائدٌ ذو وجهٍ خماسيٍّ يتجدد بلا سأمٍ، يطلُّ من عيونهِ الحديدُ؛ روحُ الصَّانع وشخصُهُ. فالتصنيع؛ هذا اللاهوت الزخرفيّ الآسر الذي تَسَرطن على جَسَدِ العالم مثل النبوّة، يرتِّلُ كتابَ المادةِ بمنتهى الصَّخب والرعونة، ويدعو الجميع للجلوس على قلبهِ الوثير وتناول عشاء التشابه الأخير من صحافٍ مَجْلُوِّةٍ بالديموقراطية والاختراعات؛ مُغطاةٍ بمناديل من أرواح شهداء الحضارة والمعرفة!.
وهي الايَّامُ الأيامُ...
تَحْمِلُنِي جَسَدَاً،
[هل (الرّوح) مقابلةٌ أمينة وعادلة لـ(الجسَد)؟. هذا لأن ما يتحطَّم وينهارُ بعمقٍ هو شيء كتيمٌ مُنْـزَوٍ في الداخل؛ داخل الجَّسد. وحين أحسُّ بعواء فادح يرتِّلُ هشاشتي، أعرفُ أنَّ ثمة ما سيلتحقُ بالجسد. حين أتذكّرُ ما يهيِّج اللوعةَ والمرارة في أعماقي، يتذكَّرُ جسدي. ذُهَانْ؟!. أرى في الروح شيئاً حيوانياً، هائلاً، غرائزياً، شهوانياً، مخيفا. وإلا، فما العواءات العنيفة المجروحة، هذه التي تنبعث من أين لا أدري في الداخل، وتسيل على جهاتٍ مجهولةٍ سالبةٍ مدلَّلةٍ وشرسةٍ أبيّة، وحين أتقصاها وأتغيَّا كشفها، أحسُّ دماً ساخناً مختلطاً بشعرِ بهيمةٍ ما يسيل من شدقي].
أَحْمِلُهَا كتابةً،
وأرى عَيناً كَهْلَةً ترقُصُ بتبذُّلٍ، على حلبةٍ بيضاء. أرى طيوراً؛ أشجاراً، حشراتٍ وخيولاً، تمرقُ من سجدتيَ الغيبوبيةِ أمام السافنَّا. أرى...، أسيحُ في مُرْتَقَيَاتِ الضجر والهشاشة، وأتنـزَّى من أصابعِ الهلامِ مثل صديدٍ مضيء. كنتُ راعيَ الكراهيةِ في المدن الضَّالةِ على جادَّات الزمن المتقاطعة. كنتُ صديق الدمِ والرمادِ والصَّمتِ والصُّور الْمُغْثِيَةِ في بلاطات الجمال. رأيتُ الجَّمالَ أمراً قبْليَّاً ينتمي إلى تلك الظواهر المغفَّلة البادئة في عراء الكون، بديهياً، خارج الفكْرِ والصّنعة. أمَّا ما هو إبداعيٌّ وإنسانيٌّ ويشيع حميميةً وأُلفةً لديَّ، فالبؤس والحرجُ والسؤال والألم. رأيتُ شَفَةً مَلْوِيَّةً، تَشي بالازدراء، تهاجرُ في الزمنِ، داهنةً جدران العواصم بالسخريّةِ والحشرات. رأيتُ كتاباً وحيداً مهجوراً، مدعوك الصفحات، يتقلَّبُ في مهبِّ الحوادث، قاذفاً من سطورهِ المتعرِّجةِ الليلَ والمرضَ واللّعابَ والملابسَ الداخليّةَ المباحةَ للقمل الأشقرِ، وكلَّ التلويثات الممكنة، راشفاً صيحاتِ اللعنةِ وشتائم حُرَّاسِ الجَّمالِ والأخلاقِ من شاشةٍ لامعةٍ تتهادى في البياض.
آه... كم صَعَدَتْنِي الخفَّاتُ؛ حين أموت؛ حين الثياب في الزَّمن؛ حين ارتخاء الطيور من الرّتاجات المقتَحَمة؛ حين لا ألم، بل مُزَقٌ تَتَشلَّى من جسد الوقتِ، مدفوعةً بالوعدِ نفسهِ الذي يُملي الحياةَ على تلاميذٍ يتحاشون الأخطاءَ بحماسٍ خائف: الموت، بل سهاداتٌ عتيقةٌ تشرقُ على الورقةِ المعطونةِ في ليلها، فحرسْتُ الأشياء، وهي تفقدُ أوزانها بشَرَف.
من الذي سأل؟!.
نَفَسُ هبوبٍ خيانيٍّ سامٍّ بامتياز، سَحَبْتُهُ من لفافةٍ كُنتُها حين موت السِّوَى. ريحٌ غامضةٌ من زوايا الذاكرة وجهات المكان، بدأتْ بالارتخاء البارد المباغتِ على شقوقِ الشاشةِ الداخليةِ المنمِّلة، هبَّت على الاسمِ العالقِ بأسلاكِ الطفولةِ ما زال، فسالت التمتماتُ والحماقاتُ بخفِّةٍ على بادية الصُّوَر. وكان ما أطوله إسهالا. بدا الأمر شبيهاً بتسليةٍ تقترنُّ بلذَّةٍ لانهائيةٍ حُوذِيُّها الشغف بالقدرةِ الفاجئةِ، ولمرات كثيرةٍ تالية، على الاستفزاز بما يتبدى لهم إهانةً، حين يتعثَّر الكبارُ، وهم في طريقهم يَدْرُجُونَ نحوَ مظانِّ اسمائهم، بورقةٍ صغيرةٍ غير ذات شأن.
تصوّرات بلهاء تعلَّقت بمصيرٍ خارقٍ وسيرةٍ فائقةِ الغموض. هتافات داخليةٌ جذلى تُمليها حَفَاواتُ الآخرين واحتراماتُ الأقران. هذا، وكان عليه أن يدفعني للكفّ عن الغباء. تراءت القلعةُ سوداء، مهجورةً، والمغيب ينسدلُ عليها ثقيلاً. سِرنا في دربٍ وعرٍ، وسط مناخات غريبة. للقلعةِ بوَّابةٌ خشبيةٌ هَرِمَة. دفعها، فصرَّت بعويلٍ متقطِّع، وخفَّت الخفافيشُ إلى الجبال المحيطة. وَلَجْنَا ممراً ومشينا، حتى بلغنا مفترقاً يفضي إلى عدة أروقة. وضع راحته على كتفي وقال لي: (اذْهَبْ). ثم اختفى. وما وجدْتهُ؛ نصَّار. فهل اخترتُ طريقاً، أم ما زلتُ عند المفترق، عالقاً في خوفي وحيرتي؟.
أفهمُ أنه صار على تلك التَّثبيتات التي لا تنقضي ولا تكفُّ تتجدَّدُ، وتبدأُ من أول صفحةٍ في كتابٍ أثارت كمينَ فكرٍ أو دغل لذِّة، وتَصْدُرُ عن كل ما أعدَّه العالم لوليمتهِ الملعونة، أن تتململَ في نومِ الذاكرة، وأن تخرجَ إلى سهلٍ أبيضَ ملتَبسٍ خالٍ من الوعدِ والغواية، حاملةً: سواد الأقاصي الكثَّةِ المعتمةِ في الطفولةِ، مشاهداتِ الأيَّام، التوليداتِ الدَّاخليَّةَ المنطويةَ على وحشةِ الأعماق، تفاصيلَ ما مضى من وقت الشخص، الأحلام والعصيانات. لِتَرى أيّ ضلالٍ وسهادٍ تضمر لها الحياةُ، في متاهة الكتابةِ؛ في ليل الورقةِ العاقِّ؛ في تجارب الأسئلة والمجازفات اللاحقة.
أستعيد كائن DARKHOOD، ثم أنساهُ، كما نَسِيَ. أتقلَّبُ في عناق الْمُحَايَثَةِ، وشِقَاقِ الْمَعِيَّاتِ الكسولةِ لصقَ عُجمَتي. وألْمَحُكَ، مرتاباً بِدَسِيْسِ الرُّبَّما وكتيمِ مفاجآتها، ملتاذاً بأيقونةِ: (العاقل مَن اتَّعَظَ بغيره)!؛ هذه الآية الوطيدة في قرآنك الاجتماعيّ، تسترخي على نعومةِ الطريق، تَتَرسَّمُ حوافر من سبقوكَ على المسارات المتصلةِ الآمنة المسطحة الواضحة. هل اتَّبعتَ هذا الغَيْرَكَ لأنه خطَّ لك درباً معافى من الانقطاعات والانحرافات والقيعان؟!، هل اخترتَ أن تشبههُ وأن تُلغي حقّك في التجربة والاختبار لأنه نجا؟، أما فكَّرتَ أنه حتماً غامر وخَسِرَ مرَّات ورأى، قبل أن يُرسِّمَ لكَ هذه الطريق/العظة؟!. أم، وللأيقونةِ وجهٌ آخر، حِدْتَ عن طريقٍ تَعِدُ بالخيبةِ وعدم اللُّقْيَا لأن ثمةَ من فشل وانكسر لديها؟!. هذا مجازكَ الكبير، تَدْرُجَ في أمان مخاضةِ (دَرْبْ السَّلامة، للحول قريبْ)!!، وها حافركَ فوق حافرِ سلفك، حاملاً القانون الشامل والصيغة العامَّة للنموذجِ السَّوِيِّ، مستظهراً بلانهايةٍ الطبعةَ الأولى من التجربة والمغامرة على ورق العقل، حاضَّاً أعماقك الكسولة على قبول المزيد من التَّرسيمات وغوايات التشابُه.
ومفردة (زمان) هذه التي تصرخ بأشياء هائلةٍ؛ بتقاطعاتٍ مريعةٍ وانحرافاتٍ مفاجئةٍ تخون الجماليَّةَ المكرَّسةَ للأُلفةِ والتكرار، أليست تعبِّر عن (الماضي) في خطابك العامِّيّ اليومي؟. دائماً تهرب من الآتي؛ من كل ما يزلقك في السؤال والظن. فحتى في موتك هذا حيال الاحتمالات وارتياد المحلات الخطرة؛ في مواظبتك على الاقتداء واحتذاء المسارات المعبَّدة، تَحِنُّ إلى ما كرَّرْتَهُ رَدْمَاً على حافر سلفك، وكنتَ لديه محضَ قناع بلاستيكي مشوَّه لذات الوجه الذي وضع علاماته الأولى على خطوط السير.
أتُغْضِي؟، وقد كنت سأفرح لأجلك إن سألتني: (هل يستمدُّ المجهولُ إغوائيَّتَه وجاذبيَّتَه من رغبتك في أن تكون مغامراً ومرتادَ مناخات سرية تمرِّر عبرها حماقاتك وخيباتك؟، أم يستمدُّها من رغبته هو نفسه في أن ينرئي ساحراً وجذَّاباً من جهة مغفَّلين مندفعين أمثالك؟)، فَلَمْ.
ياااا سلاااااام!. ألعتمات!. مجاهيل الداخل والعالم!. الأقاصي الملتبسة!. الجهات المجنونة!. فكيف سأحيا إن لم أنطلق في هذه الشسوعات المشتبكة اللذيذة؟؛ كيف لا أنجِّم وجه المستحيل المتقطع في سفارات الجنون؟. وطُرُقات داخلية، ثمَّة العَمَى حُوذِيُّها، مرصوفة بالصداقة والكتمان والخجل، مهجورة مهجورة مهجورة، تنتظرني داخلها مضامير فاتنة بلا متسابقين ولا جائزة.
طرقات لانهائية تَعِدُ بالصمت والتيه والاكتشافات، احتطَبَ العرفانيون الكبار؛ سفراء المحاولة، في مسالكها الغابية المدللة، بغاية الوصول إلى شجرة أصلية، فما اشتعل تحت قدورهم سوى التأويل. ها هم تتحلَّب أعماقهم اشتهاءً لتفاحة ضوئية آسرة نائمة في نهاية الطريق!، يتوهَّمون الوصلَ بجائزةٍ مزعومةٍ، وما قد بَلَّ إنِّـيَّاتِهِم سوى الفراغ.
فبِحَضٍّ من غبنٍ سياسي واجتماعي، وبوجدان ذي تعلُّق بمطامع إصلاحية ويوتوبية، لم يعد العدل ممكناً في الأرض بالنسبة لـ(الحلاج) إلا إذا صار كل بشري نسخةً من الله، فأنشأ مسافراً سائحاً يطرق حواضر الأرض ذات الطاقة الدينية الفائقة ساعياً في إعداد جسده لاستقبال نسخته متى كان في الأرض الملائمة، ثم أتى ميقاتٌ فظَنَّ الرجل أن (الجائزة/الوعد/الله) احتلَّته قبل وصوله إليها من قوة شوقها إليه، فجزع أن لا يفي بما يقتضيه الوصال من الحال، وراح يتخبَّط في الأسواق أنْ (أغيثوني من لَيْلَى)!. حتى إذا وَدَعَتْهُ وقَلَتْ رفعه معاصروه على الخشبات مُغِيثِينَهُ ربما، وربما منتقمين عن زرايته بهم، فعاد يرمقهم متألِّهاً؛ مدارياً خذلانه، يأخذ من دمه بذراعيه ويلطم صدره مردداً: (هذا دلال الجمال).
أما (ابن عربي) الذي تناهبَتْ وجدانَهُ وُحُوشُ الخيال كلها، وهَبَّت عصافيره الكواسر تفترسه؛ تأكل من كتفه نفسه، ومن دماغه، وتزرع النجوم العصبية في أكتاف حَمَلَة الأفلاك، فقد رأى آيةً منه في كل شيء فائضةً من لحمه الأوزوريسي الكوني على الوجود، لكن نذيراً من أهل زمانه لدغه في عقر ذاتيته المطلقة هذي، فما ملك إزاء ذلك الإحراج إلا أن وضع قناعاً لها الذاتَ المحمدية، بانياً بنيانه على أساسٍ من أن (الجائزة/الوعد/الله) متوزِّعة بالأصل في العالم متَّحدة بالوجود، وهذا برهان كُلِّيَّـتِها وكمالها، ثم عاد إلى أوراقه ليصحِّفَ ألغازه وهياكله التفاضلية مُقَسِّماَ منازل الفيوض وبوابات الفتوح في محاولة سحريَّة لإغواء وَهْمَة الروح المنتشرة بالنزول في شراك الهندسة والحساب من دوائر ومنحنيات وخطوط وأبعاد، يتمتم مخطوفاً: (الجوهر واحدٌ والقسمة في الصورة)، وقد نسي كَبَدَ الرحلة الداخلية وإباء الأعماق على من يطلب وعداً.
يختلف (النَّفَّرِيّ) نوعاً ما، فهو، وقد أدرك غاية الإيمان وعين اليقين، أدركَ بالتالي أن خطاباً إلهياً حقيقياً لا يستقيم أن يغدو قرآناً جماعيا. فقط هو الفرد، في مادَّة عدم الشريك، منصتاً قبالة المخاطِب، معرِّضاً جسده اللامرئي لنقلات وتحريكات هذا اللاعب الحاذق، في حُمَيَّا الفيض والصمت والخوف. (ورأيتُ كلَّ شيءٍ قد أَسْلَمَنِي). فانطلق هذا النبي المشرَّد في شاسع روحه الجبريَّة، وانتظر مُصِيخَاً كيانه في مواقف الطَّيِّ يَسْتَوْلِج ويَسْتَخْرِق. فبِعِلَّةٍ من كونه كان بالأصل مريداً متقصِّداً حضور الخطاب الهاتف؛ ومن كونه غدا في عُقْرِ الرهافة، صار محتَّماً أن يُمْلِي على سمعه مخاطبات وإيقافات تسوِّغ له (الإيذان بالوقت) والوصول.
كذا، مكتفين بِأَجْرِ المُنَاوَلة، شغلوا أعماقهم بالغاية يا عين، دون أن يدركوا طبيعة هذه الممرَّات الداخلية الخاصَّة الكتيمة، دون أن يمسّوا كَلِمَها؛ خُلُقَها ومناخها. دون أن ينجِّموا وجهَ المستحيل المتقطع في سفارات الجنون.
ولكنك هنا، وتستطيع أن تنتحب وأن تندم، وأن تغفر لك وللآخر، لأنك البرهان الوحيد والأعزل على هشاشة البنيات الداخلية والعمارات العميقة المسنودة بتثبيتات العادة والتربية والتكرار؛ التي أقامتها حضارات الصوت، بعد إقصاء احتمال أن تكون هناك نشاطات لاتجريبية في دخيلة كل فرد، قد تقود الحياة؛ لغةً وتطوراً نحو ما هو (نحو) وما هو ليس. وبدلاً عن أن نتناول قوة الثورة والخيال والإرادة من أيدي سفراء المحاولة، كأقل ما يمكن عمله، لا اتعاظاً، بل وراثةً بحق ما أخفقوا عن تحصيله، عُكست الآية، فصِيرَ إلى ترسيمِ المعنى وتراكم الخبرات واللغة الإشارية أيقوناتٍ كاريزميَّةً محكمةً، تعظ على منبر العقل بدرس التَّفَادِي، واضعةً خطوط السير على أسسٍ من الخطأ والصواب، والفشل والنجاح، والجهل والمعرفة، و...، كما صِيرَ إلى قَصْرِ القدرات الداخلية على هذه القِلِّةٍ من الأشخاص الملتبسين (مُنَجِّمُون، كُهَّان، أنبياء، أولياء صالحون، وُسَطَاء رَوْحَانيون...) فسُدَّ باب المحاولة، وبفضل درس (الحلاج) وأصدقائه وأسلافهم، عُلٍّقت صورة (الإنسان القادر الممكن) المأسورة داخل إطار المستحيل، على جدارِ ما لا يُقْتَنَصُ ولا يُتقَصَّى من الزمن: (يوم القيامة)، بزَعْم أن هذا الإنسان لن يوجد إلا في الجنَّة بعد اجتيازه مِحَن الله بنجاح، وما إنسان الجنة إلا كائن مفترض، فاقد الذاكرة، عاجز عن التفكير، ميت الروح، تماماً مثل نظيره إله الحلاج، كلاهما زراعة قلب في الجسد العكس.
هاذا، وجَعَلَ العالم لا يَنِي يثغو، ويَدْرُجُ تحت صقيع الاحتمالات بمعاطف الضرورة. فحتَّى حين رقَّت سريرتُهُ وراودته الدخيلة عن نوالها، عَقَدَ معها حِلْفاً ليوقف طفحَ ندائها، واتَّخذ الفنون والإبداعات دليلاً على تسامحه وعلى ما ظنَّهُ ثنائيةً فيه، وألزم هذه الأعمال السِرَّانِيَّة باستعمال الحواس بوَّابات، لاجئاً إلى الأدوات نفسها التي أقصاها بها: (اللغة، المعنى) ليتَّخذها مطايا للتعبير!!. وكان هذا الحلف هو فجوةُ الاكتشاف، فـ(المعنى) وقد تمَّت خيانتهُ وإعدامهُ، و(اللغة) وقد عُذِّبت ودمِّرت، في راهن الأعمال الشُّوَاشِيَّة لهذه الفنون، لا يعودان، بعد أن استعرضا عضلاتهما طويلاً على حلبة الحياة، سوى وقائع للعجز والخذلان في مواجهة حسابات المصالح الجماعية الكُبرى، ويفضي تقاطعهما مع هذه الحسابات وبالتالي ضياعهما، لا إلى اعتناءٍ بطقس الأعماق وتطويرٍ لحركاتهِ من جهة الفرد كما ينبغي أن يحدث، بل إلى انشغالٍ بمواجهات بَرَّانِـيَّةٍ ضالةٍ تتوخَّى استعادة المفقود!. وهو، أي المفقود، من شتَّى الجِّهات لا يضمرُ سوى نزعةٍ تكراريةٍ تُقعِدُ حراك الرُّوح وتُبْطِلُ انطلاقها في طرقات القوَّة الحقيقيَّة: قوَّة الدخيلة. لا. لا مفقود. بل ثمَّة الفَيْضُ.
الكتابة؟. إنها الفضيحةُ. فَهَرْول إلى سراويلك الداخلية.
الكتابةُ طفحٌ، قيحٌ، وهي عُرْيٌ.
لِمَ تخفي أعضاءك التناسليَّة؟. فإن كان كشف العورةِ الجسديّة يفضحُك، أفليس أدعى أن يميتك، يضيّعك كشفُ عورة الأعماق؟.
شيئان، إن كتبتَ ولم تحسّ الفضيحة والخجلْ؛ إما أنَّ أعضاءكَ العميقةَ؛ عورتك الداخليّة ميتة، ولا ترمي لأن تثيرَ بها شهوة الآخر، فأنت خَصيُّ الروح. أو أنك لا ترى ضيراً في عرض ما يخصُّك أنت فقط، وتَسْعَدُ، بتعاطي الآخر معك؛ بسقوطهِ في لذّة شبكتك الفاتنة؛ وباستجابته لغوايةِ استعمال أعضائكَ، ضمن شرطٍ سريٍّ غميس يسمّى القراءة ـ هلْ أخطُّ (المطالعة) لتبدو قريبةً من (المضاجعة)؟ـ، فأنت شاذّ، وهُوْ...؛ فالشاذُّ هو الْخَاصِّيُّ تماماً؛ الخفيُّ بلارحمة. وما ينجم خفاؤه من رغبتهِ في ذلك، فهو فاحش الكراهية للآخر، شغوفٌ بدسِّ الفخاخ على طريق الرغبة، يختبئُ في مسوح الفريسةِ الوادعة المعرَّضةِ دائماً لفعل الآخر، وفي أعماقهِ يعوي شخصهُ الوحشيّ الفردُ. ينجم خفاؤه من قوّة الخجل ـ أم الخوف؟، ربما معاً ـ التي تدفع الآخر عنه بعيداً، ومن تعذُّرِ وفرةِ الكفايةِ من الاستجابات لعرضِهِ الفاضح. قد تقترح إلغاء الآخر، بعدم كشف العورة له؛ بعدم ترغيبه في استعمال ما لديك؛ بعدم الكتابة إذاً، فَتَسلَمْ من تُهمتَي العِنِّة والشذوذ، لتَنْرَئي معافىً سويَّاً، فتصبح لديك أغنيةٌ للعفِّة والطهر، تمليها عليك حشمةُ العقل والذاكرة. ولأنَّ الآخر لا ينقسمُ في هذا المجاز المستعمل هنا، فأيّ تعاطٍ مع الآخر، الذي هو مَثِيلٌ في الخصائص الثقافية، الذي هو القارئ، يُعدُّ شذوذاً.
أن تحيد باستمرار عن المسالك المطروقة الموصوفة. أن تجترح الانعطافات والكوارثَ. أن تضلِّلَ الحُجَّاج. أن تعرك البواصل وعظات التاريخ داخل قبضتك ثم تلقمها فَمَ الحقيقةِ الأدرد. أن تنطلقَ شذوذاً، بَراااااااكْ. هذا هو أن تكتب.
لا....، فاللغةُ شغلٌ غَيْرٌ والمعنى لباس.
كيف أدفعك لأن ترى هذا، تشمه وتسمعه؟، وها أنت تقرأه فحسب. لا أريدهُ تصديراً عن جهنم الأعماق، ولا سفارةً شكليةً عن هذه الدولة السوداء المعتصمةِ بداخلي... أريدهُ هي ذاتها، جهنَّم. أريدك أن تشم الشياطَ ذاتها وتراها على هذا السطر عندما أقول لك: (إنني أحترق) لا أن ترى الكلمات فقط. لا تلزمني مواساتك ولا حنانك الذين لا أرى فيهما إلا أنك فهمت ما تَصَوَّرتَ أنني أردتُ أن أخفيه عنك باللغة. فاللغة هي العجز نفسهُ حين يتعلَّق الأمر بترحيل حسٍّ ما، وأخرقٌ من ظنَّ أنَّ الشعر يُكْتَبُ. وأنتَ إذ تغتبط بتمكنك من فهمي ـ الذي لم يكن غايتي أبداً ـ تكون قد أرسلت إليَّ دعوة للموت لن اقاومها. آهِ لكن...، لن تتحلَّب خلايا اللعاب في فمك، ولن يمتقع وجهُكَ من شدِّةِ حموضةِ هذا، لأنك لم تدخُلْ في روح الورقة، لم تَصِرْ مكتوبَك. فأنت، بعقلٍ؛ بأشياء ممضوغةٍ في عينيك تشبهُ الخرائط؛ بجسدٍ ميِّتٍ؛ بأعماقٍ ذات أثاثاتٍ مستعملةٍ، تطفو مبتهجاً، على أمان الطبعات المكرَّرة لكتاب العالم.
ــــــــــــــ
شكراً:
ـ [(إنَّ سِرَّكَ لَمَرْئِيٌّ على وجهك، وفي نظرتِك، فَلتَفْقِدَنَّ يا هذا وجهَك): جيل دولوز].
ـ [(اللغة هي الشذوذ الجنسي للروح): محمّد المزروعي].
ـ [(المرايا تُكَرِّرُ، ببغاوات... في أقفاص المدى): محمد المهدي المجذوب].
ـ [(العينُ مريضةٌ بالصور): جويس منصور].
ـ [(في الصباح، كنتُ من ضياع النظرة وتعب الكيان، حدّ أنّ مَنْ قابلتُهم ربما لم يروني): رامبو].
ـ [(في الجنون، لا أرض غير السماء الوهميّة، نتعلّم فيها كيف نطير بأجنحةٍ مقصوصة): محمد شكري].