Charcoal jar

Tuesday, November 9, 2010

ليست هذه حكاية الأرض


(كُفّ عن تغيير نفسك بما يوافق العالم، ودَعْها تتغير بما يوافقها). مغمىً عليك في الكهف تسمع الصوت واهناً ينبعث من بطنك. تتمهل ناظراً إلى أرفف مكتبتك الداخلية؛ المستندات، المُشِيرات، ميراثك الصغير، مقضوماتك الفقيرة من أرشيف الملاحظات والأفكار والإنسانيات والعلوم الهائل المتراكم عصراً بعد عصر على عاتق الأرض، فتطرب، تميل دائخاً بين يدي ما ترى، وتدقِّق في المحتويات الثمينة، يعروك الخشوع لِلَحظةٍ وأنت تقابل هذه القوة المبهرة: (يا للعالم!). وهي لحظةٌ، قبل أن تصحو من تَمَاطُرك، تدرك خائفاً مخذولاً هذه نفسك. متهدج الصدر تبكي مستعرضاً جوانب الشذرات من مكتبتك الداخلية الصغيرة هاتفاً: (يا للعالم!)، متظاهراً بأنك إنما تنظر إلى العالم عملياً، لا إلى نفسك؛ كنْزك الشخصي المتجدِّد أبداً ما عشتَ تقضم. لكنك لا تريد مقابلة نفسك، ليس لأنك لا تريد ذلك فعلاً، بل لأنك تريد مقابلة العالم، واعترافك بأنك مقيم دائماً في مقابلة نفسك، وأنها المقابلة الوحيدة الممكنة، يحملك أيضاً على الاعتراف بأن مقابلة العالم غير ممكنة، وأنك شخصٌ فانٍ ذو قدرات عملية محدودة، وأن العالم الذي تلتفّ به على نفسك، وتتغنى به متعجباً، وتهتف باسمه؛ ليس موجوداً في الواقع، ولا في الحقيقة، ولا في نفسك، إنما هو مجاز يتيح لك الإقامة مطمئناً في الاستمرارية الخطية الخالدة للعالم ولنسختك الآسفة من الحياة، كذلك الواقع والحقيقة، ويَعفيك من مغبة الشعور بنفسك كتلةً مفردة تدور حبيسةً مثل صاعقة بين جدران كوخ القش. وهذا يحرجك. وهي أيضاً لحظةٌ قبل أن تعود ملتحقاً من جديد بقاطرة التراكم التتابعية، باحثاً في كتلتك الحزينة عن ذكرى غامضة اختلط فيها العالم ونفسك؛ الانبهار والحرج. وصرتَ، كلما أعدت النظر إلى مكتبتك الداخلية، مدركاً هذا أنت، ومحتوياتها هي محتويات نفسك، عجزتَ عن تراها مبهرةً، وأدركتَ من ثمّ أنها قليلة، وفقيرة، ومحدودة، وفانية؛ قلة وفقر ومحدودية وفناء الإنسان، فينتابك الحرج. تعيد النظر من جديد، لا تعيد النظر فعلاً، تعيد إجراءات النظر، وقبل أن تقع في ما تحذر، تُجري تبديلاتٍ إدراكية سريعة على الواقع، فيقع عليك ما تريد وقوعه: (يا للعالم!). هرباً من نفسك المحرجة، تعمد داخلياً إلى تغطية محتوياتها بأقنعةٍ من وفرة وثراء وسعة وخلود العالم، حتى إذا نظرتَ إليها من جديدٍ أبهرَتْك إذ حوَّرْتَ إدراكك لها ليرى فيها العالم، وصرتَ قادراً على تناولها، ومن ثمّ إعادة إنتاجها تشاركياً بالتعبير عنها وهي على مضمار العرض، بعد أن غدت في نظرك العالم؛ جميلة ومبهرة وأخاذة ومرموقة وخالدة وجديرة بالكشف عنها والترويج لها وإبراز مزاياها. إذن أنت تعرف أن ما تراه، إذ تنظر إلى العالم، ليس هو العالم، إنما هو نفسك؛ نطاقٌ مطلقٌ مغلَّف بأغشية حواسك، وفيه تقبع مستنداتك؛ مدخلاتك الشخصية من كل العتاد، وأنت تعرف أن إقدامك على عرضه بصفته الشخصية، يجرِّده أولاً من امتيازات الإبهار التي يقوم عليها العرض من أساسه، وأنت لا تريد أن تقول للشركاء المنكرين أنفسهم بالمثل: هذا أنا، أبهرْتُكم أم لا، هذه نفسي، أشبهَتْ في نظركم العالم أم شذَّت، رأيتموها أم لم تروها أم أبدلتموها نسخةً أخرى. لا تريد أن تنوء بتبعات هذا، تريد أن تقول: أنا منكم، أنا مثلكم، وبي كل خصائصكم الوراثية، أنا من هذا العالم، ألا ترون؟، ها أنا أُبلِغ عن (نفسي)!. لكنها يا مسكين ليست نفسَكَ نَفْسَكْ، وأنت الذي أبدلتها، إنها نفسك وفقاً لصورة العالم، و(لولا الضيوف لكانت البيوت قبوراً: جبران)، احتيال دائم متفق عليه من أجل توحيد الطبعة والحفاظ على التناسق الخَطِّيّ لمجاز العالم، وهو جذر الذرائعية الذي قامت عليه عمليات التواصل الدائمة بين البشر.
ليست هذه حكاية الأرض، لا يريد أحدٌ أن تُحكى الأرض، وإلا لم يكن نافراً مِن أكْل فضلاته الهضمية. البعض يفعلون؟، لذا تراهم يعيشون في أرضٍ خلت من تراكم الميراث والأرشيف والمستند، ولا يجدون حرجاً من أنفسهم، لذا لا ينافسونك على مضمار العرض، لذا تراهم منقطعين عن العالم، لذا لا يقضمون مما أنت تقضم، لذا هم بلا مكتبات داخلية تملي عليهم، لذا لا يشاركون إلا بما تحتل أجسادهم من حيز ولا يباشرون ولا يوافقون ولا يرفضون ولا يتعظون ولا يتذكرون ولا يبلغون عن أنفسهم ولا عن أحد ولا عن شيء، ولا يتمهلون أمام شيء ليس جزءاً من اللحظة، لذا يحرجونك إذ يذكِّرونك بنفسك، لذا تستنكف أن تكون مثلهم، تطلق عليهم النعوت المزرية، وكما أنكرتَ نفسك، تنكر عليهم سلامة وجودهم، وتزجّ بهم وراء الأبواب (المُقْلَقة)، إذ ها هو باقٍ فيهم بعد كل شيء أثرٌ أخيرٌ من الإيجابية؛ أجسادهم: كعب أخيل، وهي المقبض الوحيد الذي يمكِّنك من الإيقاع بهم في الأحكام والعقوبات، وحين ترى فيهم هلاماً سرابياً عارياً متراقصاً بلا مزايا ولا حدود؛ ترى فيهم بلاغة الأرض، فترتعب من هول الغريزة، ويعجزك أن "تعبِّر عنها"؛ فهي دائماً حكاية أخرى. حكاية الأرض فريدة، بمثل فرادة الفضلات الهضمية واختلافها من شخص إلى آخر، بل واختلافها من مرة إلى أخرى في نطاق الشخص نفسه. وبها قِسْ مدخلاتك من وابل الكون على حواسك، فأنت على باب كل لحظة شخصٌ آخر. شخصٌ يحكي حكايةَ الأرض؛ حكايتَه، فما الذي حدث في اللحظة التي تلتها؟، لم تعد تلك حكاية الأرض، ولا حتى حكايته. ليست هذه حكاية الأرض، إنها حكايتك، تقريباً.
(أنتَ أمام الآخرين واحدٌ آخر غيرك: تريستان تزارا). وإنْ أنت لم تكن غيرك من جهتك، كنتَ غيرك من جهتهم، وغالباً ما تكون غيرك من جهتك، وغيرك من جهتهم. شيئاً فشيئاً، بِتَّ لا ترى نفسك، تنظر إليها لمحاً فترى العالم. ولكنها لا تزال نفسك، وما زلت مقيماً في الحرج الذي لا يزول بل يتفاقم، ولم يبق الكثير قبل أن يغدو (العالم!) نفسُهُ محرِجاً. ها أنت تنظر مهموماً إلى ما يحيط بك من بؤسٍ (هي حال مكتبتك الداخلية)، فتمتلئ رغبةً في المناهضة وإصلاح الحال، وقد ترفع السلاح، وقد تكتب، وقد تخطب في الجماهير، وقد تؤدِّي أعمالاً تطوعيةً، وقد تصير قاضياً، وقد تصير مدرِّساً، وقد تصير طبيباً، وقد...، ولكن ليست رغبتك هذه في إصلاح العالم إلا كرغبة القاضي إزاء المجرم، وكرغبة الطبيب إزاء المريض، وكرغبة المدرِّس إزاء التلميذ، وكرغبة الكاتب إزاء القارئ، وكرغبة المسلم إزاء الكافر، إلهاءات، مقاطعات، أدوية، دروس، أحكام، عقوبات، كتب، مؤسسات إصلاحية، وها أنت على سرير بروكستوس، هذا العضو زائد يا أخي عن حدودي فدعني أقطعه من هنا، يقول لك السرير، هذا العضو قصير سأشّده حتى يلائم حدودي، لا؛ لأنّ السرير بداخلك، وما تراه العالم ليس هو العالم، إنما نفسك، والعالم لا يزال مجازاً. وإنما تناهض نفسك أن تمدّ رأسها من تحت الركام. إنه الحرج القديم. وبؤس (العالم!) هذا يذكرك بنفسك، وأنت لا تريد أن تعود ثانيةً إلى هناك، تحلم بأنك لست هناك. لقد تطابقتَ مع صورة العالم، واعتدت عليه طيباً وصالحاً وخالداً ومتفقاً عليه ومحل فخر، وجدير بالاستناد إليه، وها هو يفسد، ذابت حدود السرير ولم تعد تعرف من أين تقطع ومن أين تشدّ، وها أنت محرَج من جديد؛ ليس من نفسك هذه المرة، بل من العالم. وأين نفسك، أليست هذه مناسبةً طيبةً لتفقُّدها، ولكن لا، أنت تعرف أنك بالفعل في نفسك، وأن ما يفسد هو نفسك، وأنك خجلٌ محرجٌ منها هي لا من العالم، وسوف لن تشير إلى ذلك، ها أنت تنبح: (العالم يفسد، يجب إصلاح العالم. ما العمل؟)، شعلة أخرى تضيء وجهك في السرداب. تضيء الطريق أمام القطيع التائه. كما فعلتَ بنفسك من قبل. تغيير. تغيير. تغيير. غافلاً عن أنك لا زلت تعمل في نطاق نفسك، وأن تغيير تغيير تغيير إنما يلحق بنفسك وفقاً لصورة العالم في نظرك، لا وفقاً لها.
كفّ عن تغيير العالم وفقاً لصورته؛ صورتك، فإنك تطلب للعالم شيئاً هو في مناله؛ العالم يتغير فعلاً بما يوافق صورته المتفق عليها بينك وشركائك، صورتكم بالأحرى، ومهما كان مقدار حرجك منه؛ من نفسك، فإن العالم يبقى هذا المجاز: مكتبة الأرشيف اللانهائية لا تكف تنمو وتتسع، فدع نفسك تنمو بما يوافق نفسك.
وأنت شعلة سرعان ما تنطفئ. وما دمتَ كتلةً بشريةً متحركةً فأنت في مفترق بشعب ثلاث: شعبة الذرائعية؛ أن تظلّ منكراً نفسك واقفاً لها تقطِّع أطرافها وتشدها كي تتطابق مع سرير العالم، وهذا شأن أغلبية البشر. وشعبة الغريزة؛ أن تدع نفسك تتغير بما يوافقها، في نقاء بهيمة، متجرداً من الأرشيف والميراث والمستند والمضمار، فينعتونك مجنوناً، أو مجرماً، أو مريضاً، أو جاهلاً، أو حيواناً، ما دمت موضوعاً مادياً قابلاً لتلقِّي الحكم وتطبيقه، وهذا مسموح به لحسن الحظ. وشعبة الذرائعية المضادة؛ أن تدع نفسك تتغير بما يوافقها، مع الحفاظ على مزايا المشاركة كافةً، وركوب المضمار عرضاً وإبهاراً ومنافسةً ووراثةً واكتساباً وتعلُّماً، وهذا شاقّ على أغلبية البشر، ويزول سريعاً ما إن يقع الخلاف بين نفسك والمضمار، وهو لا ريب واقع، فإذا بك في إحدى الشعبتين الأخريين؛ منكراً نفسك، أو مجنوناً، ولعله السبيل الوحيد إلى الغريزة، وبانتهاجه قد تصل إلى كهفك حيث تنمو نفسك بلا حدود، ولا تنس، بانتهاجه قد تصل أيضاً إلى سرير بروكستوس. هذه حكايتك.
...
ثم ماذا ولستَ نفسَك اليوم، ولستَ أياً منهما غداً؟، (في كلِّ منعطفٍ طريقٌ تُغيِّر نفسَك إلى واحد آخر: تريستان تزارا)، عن مَن مِن نفوسك الشتَّى هذه يكون بلاغك يا بطل الذرائعية؟، وماذا إذا إبلغتَ اليوم عن (نفسك) بما يناقض ما أبلغتَ به أمس عن (نفسك)، وما ستبلغ به غداً عن (نفسك)، أيّ بلاغ منها يكون أدق تعبيراً عن (نفسك)؟، و(نفسك) ليست ذاتها في البلاغات الثلاثة؟، وبأي من بلاغاتك يأخذك الشهود؟. سيسهل عليك أن تلوذ بـ(آخِرها)؟، وأنت تعلم أن سيليه بلاغٌ يحذف عنه امتياز آخِريته هذا. دائماً آخِرها؟.
لعلك تلجأ إذاً إلى الأسهل من ذلك؛ أن تقيم في اللحظة مخرجاً دائم التجدد من هذا المأزق دائم التجدد. فهل تستطيع أن تفي لهذه الإقامة الوخيمة بما تقتضيه؟؛ أن تتحرر من الأحكام التعاقبية والتراكمية، منحلاً من أي إدراك تسلسلي أو هرمي للوقائع والمعلومات، منبتاً من كل الامتيازات والملاحظات والتفضيلات والعظات والخبرات التي أتاحتها لك النسخ الأخرى من نفسك والشركاء الخياليين؟، أن تذهل عن كل مرضعة؛ المزايا التحفيزية للذاكرة والتعلم والاجتماع والتواصل والحب والأمل والرغبة، وأن لا يعود ثمة من وجود لأشخاص آخرين ذوي أنفس يعبِّرون عنها يورثونك بلاغاتهم وخبراتهم، أن تتخلَّى عن مكتسبات المباشرة والمشاركة وتأثيراتها على أعمالك واختياراتك وأحكامك، منطلقاً في نسخة من نفسك مغلقة بالتمام لا تعي المكان ولا الزمان ولا الآخَر؟. هل يمكن الوجود في لا أين ولا متى ولا شريك ولا مُشير ولا مُحيل؟. إذاً يمكن التخلِّي عن التفاضل وعن الحُكْم. إذاً يمكن التحرُّر من كل ما يشير بك إلى خارجك، بما في ذلك محض التفكير في وجوده وعمله إلا بكونه جزءاً من نشاطك الشخصي. إذاً يمكن التحرر من حتمية التعبير عن النفس ما دامت هي الوجود، دون أن تتذكر أن الله "واجب الوجود" نفسه عجز ـ في ما يزعم عَبَدته "جائزو الوجود" ـ عن تحمُّل نفسه المغلقة دون أن يعبِّر عنها، فخلق شهوداً، ليذهلهم ببلاغِهِ وجماله ووحدانيته، ووجوده الفريد الفائق. (كنتُ كنزاً مخفياً فأحببتُ أن أُرَى: حديث قدسي). الله نفسه!. يا للهول!. الله يُبلغ عن نفسه. الله يعبِّر عن نفسه.
أما وقد (فشلَت عبادة اللحظة: أحمد النشادر)؛ (اقرأ: عبارة اللحظة) تستطيع إذاً على الأقل، لتنجو من تناقضات ومفارقات إبلاغاتك (المتتالية)، أن تتحرر من وهم تتاليها هذا بالذات، قبل أن تقع في المحذور التعاقبي لأفعالك وأفكارك، وهو أن تبلغ عن نفسك دائماً على ذات النهج وذات البلاغ؛ خوفاً من الوقوع في ما تراه تناقضاً، خوفاً من مقارعة نفس جديدة في كل يوم تستطيل على لاشيء و(تحسب أنها أنا: بوذا). تستطيع أن تتحرَّر من التفكير في نفسك كـ(واحد).
والنفس رديفة التغيُّر، تتخبطها الأهواء والاحتيارات والأحوال وما يحدث وما يصيبها وما تفعل وما يلج فيها وما يخرج منها، النفس متغيرة متجددة شاكَّة منقلبة عليها على باب أية لحظة، فكيف يصحُّ لها يقينٌ أبداً إلا اعتسافاً وتنكُّباً، وكيف لكتابة خطِّية محكمة مبدأية مطمئنة إلى خطابها واثقة من صوابها أن تكون تعبيراً عن نفس؟، كيف لها أن تكون واقعية، والواقع شذريّ متقطِّع مكتظّ بالاحتمالات والفجوات والدوخانات والتجاورات والمجاهيل واللاوثوق واللاإحكام واللامعقول، شأنه شأن النفس. كيف لعملٍ مطلقاً أن يكون محكماً ومنطقياً ومفهوماً، وأن يكون واقعياً في الآن ذاته؟.