Charcoal jar

Sunday, June 3, 2012

الفيل السادس

عند زاوية آخر محطة العاشرة، التففت على كومة التراب الكبيرة المنبوشة عن ماسورة مكسورة. بائع السجاير والجرايد والتمباك يصلّّون المغرب أمام أكشاكهم المتلاصقة. نظرتُ من الخارج، عبر قضبان كشك السجاير، أستطلع الداخل. البائع، ذاته الذي يصلّي أمام الكشك مع رفيقيه، جالس أيضاً بالداخل على مقعده، يلهو بموبايل التحويل العتيق، وحده هذه المرة لا كالعادة. اشتريت السجاير والرصيد، والتففت بجسدي أمام الكشك عائداً. لكن ليس هذا الوقت مغرباً. إنه الفجر، وصوت النباه يأتي خافتاً مغتبطاً من مئذنةٍ قريبة. وليس المكان آخر محطة العاشرة. إنها ساحة واسعة، تمتدّ أمام خلاوي فرقةٍ صوفية ما. أتذكرها من قديم، براياتها الملونة المثلثة الأشكال، منظومة بخيوط وحبال، امتدت ملء الفضاء حتى كادت تحجب الضوء. من شارع جانبيّ في موضع امتداد زلط العاشرة الذي لم يعد هناك، برزت صبية في الـ15، تدفع درداقة جلس عليها صبي في السادسة، حليق الشعر، إلا من عُرف طويل يشقّ جمجمته اللامعة من جبينه إلى رقبته، تتدلى ساقاه على جانبي العجلة الأمامية وهو يدعك عينيه. وكل منهما يرتدي قطعة واحدة من الدمورية، ممزقة حائلة، ملفوفة حول جسده لفة الإحرام. يقتربان مني، والصبية تئنّ وتعنّف الصبي مهمهمةً. وأنا أنظر إليهما متخشباً، كأنّ الكون بحاله تجمّد ينظر إليهما، وهما وحدهما يتحرّكان. وما إن عبرا أمامي، ولمحتُ أجنحتهما المغبرّة المنتوفة، إلا قليلاً دامياً بقي منها على أكتافهما، حتى انطلقتُ وانفكّ انعقاد جسدي. سرتُ معهما كأني لم أكن من قبل إلا أسير معهما، لمسافة قليلة. بطرف الساحة، يفتح باب جامع. إنه الجامع الأخضر القدّام إستاد الهلال، عند الطرف الشمالي من ميدان المواصلات. هو وليس هو. البناء هو بناء الجامع ذاته، لكن هذا ليس ذاك الجامع. ليس هذا المكانُ جامعاً، بل ما يشبه ملجأً أو مدرسة داخلية، شيء من هذا وتلك. بامتداد الطرف الغربي، تحت جدار الاستاد ارتصَّت بنابر الشاي والزباين والنساء والكثير من الإثيوبيين العابرين. وصوت الفيل الأكيد من وراء حجاب. نقترب من باب الجامع، والصبي على الدراقة يتذمّر. تنتهره الصبية. لا أذكر أنني ميزتُ كلمةً من كلمات الصبي والصبية، ولا أتذكر حقاً أنني كنت معهما قبل ظهورهما بطرف الساحة، لكنني أعرف الآن، كما عرفت من زمانٍ قديم، أن الصبيّ نبيٌّ ما، يجب تعليمه وتدريبه في هذا المكان المخصص لأغراض شبيهة. الصبي يتذمّر من أنه سيُترَك هنا، وتنتهره الصبية بأنها ستتركه على أية حال. لم يقولا أمامي كلمات واضحة تمكنني من فهم هذا، لكنني عرفته. قبل أن نلج من باب الجامع التفتُّ عفواً إلى الجهة الغربية حيث بائعة الشاي، وعدّتها، وشابّ إثيوبي وحيد، خالف كراعو على مقعد. وقعت نظرتي على عينيه، فإذا به يتفرّس فينا بانتباه مريب. أوقفتُ الصبية عند الباب، وأسرعت بخطوات واسعة. لوهلةٍ انتفض الشاب في مقعده، وأنزل فخذه عن فخذه، وبدا كمن سيهبّ هارباً، لكنه ثبت وأطرق. اقتربت منه وغرست عيني فيه، فاضطر بعد قليل إلى رفع رأسه والنظر إليّ متسائلاً بعينين جزعتين، قلت له: (لا تجزع، أردت فقط أن أرى وجهك جيداً). نظر إليّ بتفهُّم، وأحسست أننا أعدنا بذلك تأكيد اتفاق قديمٍ بيننا، ثم ارتددتُ بسرعةٍ عائداً. نزل الصبي من الدرداقة باكياً، تجرّد من دموريته الحائلة، اتجه عارياً نحو باب الجامع الذي ليس جامعاً. وأنا أستدير عائداً، نظرتُ إلى الإثيوبي الشاب.

Friday, April 27, 2012

المياه ومجاريها


عشنا زماناً في كوكبنا، قبل بناء الجامع، نخرج في الصباح إلى حقولنا، وعصراً نعود. وقلّ ما نعرف شيئاً عن الناس في الكواكب الأخرى سوى ما يخبروننا به حين نلقاهم في الحقول. وبين هذا اليوم وذاك نولد ونموت. لم نكن بحاجة إلى أن نعرف أكثر من أنفسنا والقليل عن الآخرين يقينا. صحيح أننا أقدمنا على أفعال كثيرةٍ ما كنا لنقدم عليها في ظروف أخرى، واجتنبنا ذات يوم أفعالاً سنأتي بها في يوم آخر. وعرفنا أن ما يقضمه الحب منا تقضمه الكراهية. وكما ضحكنا بكينا. وكما رأينا الكواكب تولد وتنطفئ، ورأينا القرى تزدهر وتحترق، ورأينا رعشات الشفاء ورعشات الأوبئة، رأينا بهجة الناس بالناس وبالحياة، وعزّة الحرب والحب والجسارة والموت، ورأينا صحوة الأعياد في اللحم والأعراس. وكلما زغرد الكون فينا، بكل صوت، وبكل صمت، عرفنا أننا مستعدّون للحياة استعدادنا للموت.
وما كان الجامع، الذي بدأ أبناؤنا في إقامة جدرانه وسط البيوت، لينذر بأن شيئاً سيتغير. هل كان علينا أن نعرف مثلاً كم كان عددنا بالضبط قبل بناء الجامع؟، وحتى إذا أردنا، هل كان في وسعنا أن نعرف؟، وبعضنا يولدون ويموتون دون أن يعرفوا أن أناساً غيرهم يعيشون في الجانب الآخر من النهر، وبعضنا لم يخرجوا من أحشاء الجبال والأدغال منذ شروق شمس الناس، وبعضنا لا تَرى عتباتُهم قدماً غريبة، وبعضنا. بعبارةٍ أخرى، لم يكن عددنا يزيد ولا كان ينقص. كنا وعددنا شيئاً واحداً. كنا نحن وما زلنا نحن. نَعَتْنَا أنفسنا بأمور كثيرةٍ، يصدُق بعضها ويطيش الآخر، على أننا لم نبلغ من الجهل حدّ أن نَصِمَ أنفسنا بكاويةٍ واحدة. ولن يبلغ بنا حدّ أن يجعلنا الكذّابُ أُمّاً لأُخته. ولكن أن يُنسى وجودنا؟. أن لا نوضع في أيّ عداد؟. لم نتوقع أن هذا الجامع سيجذب الجدري إلى كوكبنا كحجر المغناطيس.
كانوا قلةً من أبنائنا، سبعة، ما دام شجر التعداد هذا يملأ الآن حقولنا، ونحصده ملء قطيع من الأفيال تنبح في الشوارع كالبراميل. كانوا سبعةً من أبنائنا. أكملو بناء الجامع يوم الجمعة ودخلوا فيه. قالوا أولاً: (ما اليوم؟، وكم نحن؟). إنهم إذاً اليوم سبعة. وفي السبت هم ثمانية. وفي الأحد خمسة عشر. وفي الاثنين عشرون. وفي... وفي الجمعة الثانية كنا جميعاً داخل الجامع. فما الذي حدث؟. لا أحد يستطيع أن يخبركم بما حدث. وإذا جاءكم مَن يقول إنه سيخبركم بما حدث، فاعلموا أنه كذّاب. ليست المفاجأة أننا لم نعد نخرج إلى الحقول، وهذا صحيح، وإنما أننا لم نكن نخرج أصلاً إلى الحقول. وليس لأنّ الحقول لم تكن موجودة، وهذا "صحيح"، وإنما نحن مَن لم نكن موجودين. وُلدنا يوم الجمعة الثانية، في الجامع. وبدلاً من الخروج إلى الحقول، حول الكوكب، صرنا ندخل إلى الجامع، في قلب كوكبنا.
ونحن نجيد العدّ والتاريخ.
لم نكن في البدء إلا سبعة...
بنينا الكوكب. وفي يوم الجمعة، وحدنا كنا موجودين. كوكب؟، هل من كوكب سوى كوكبنا هذا الذي بنينا في الجمعة الأولى؟. حقول؟، خارج كوكبنا هذا؟، ههههه!، يا لها من مزحة!.

Thursday, April 12, 2012

ذكرى الغابات


لِمَ يميل الأطفال إلى التضاحك والتلفُّت والتمايُل حين يغنون أو يمثلون أو ينشدون شعراً، أو حين يحاول مَن يكبرونهم الاطلاع على كتاباتهم أو رسوماتهم؟. خجلاً؟، تشكُّكاً؟، تنصُّلاً من جدية الأمر؟. ربما. ولكن لِمَ يخجلون ويتشكَّكون ويتنصَّلون؟. ربما لأنهم يدركون أنهم في موقفٍ لا يليق به إلا التضاحك والتلفُّت والتمايُل. وربما لأنهم في حِلٍّ من التِماس الرأي والاستجابات مصداقاً لما بين أيديهم. وربما لأنهم الأحرار القادرون على اللعب الحر. وربما لأنهم لا يخجلون من خجلهم وتشكُّكهم وتنصُّلهم. وربما لأنهم لم يتقنوا بَعد فنون الانكسار: الحقيقة والتباهي واليقين والجدري والتقيُّد.

Tuesday, March 13, 2012

ثعلب التلّ

(هِييي، أعمى، ألا ترى أين تقف؟).
نبياً برز الحيوان من وراء التلّ يتأوّد.

وليس لأنّ الجبل يقف على حقلك المثمر بيتاً،
أيها الحيوان،
صائحاً من فم الممكن،
واقفاً منحنياً على لسان التلّ،
مرتعشاً،
راقص الأذنين،
أحمر،
رفعتَ خطمك الصغير الأسود اللامع تنتهر الجبل:
(هِييي، أعمى، ألا ترى أين تقف؟).

أهذه يدٌ لتهزّها وتلوّح؟.
إنها قَدَم أمامية بقفاز أبيض.
ولكن لمن تهزّها وتلوّح؟.

أهذا ما أتى بك،
يا ثعلباً أحمر يزرع الفضاء ويحصد الجبل؟.

Saturday, March 10, 2012

يقولُ الباب

حبيبي ما بِهَذَا الضّوْءِ كثَّاً
ونحن مَن الشّظايا علَّمَتنا
وقادت خطوَنا الضّاحي بِلَيْلٍ

لتَخْبُرَ معدنَ الأشواكِ فينا
وتَعلَمَ إنْ صِلابَ الروحِ أنّا
فَجُزْنا في هلامِ الضّوءِ غَمْرَاً
رأينا ما يَرِينُ على وجوهٍ
عواءً ضامراً ودماً حليباً
يُغَطّونَ المكان بما تبقّى
ولا من ميّتٍ يطأُ الحُمَيّا
سوانا، والسّوَى وجهٌ بليدٌ

أنا والمستحيلُ سبقتُ ليلِي
عَلَوْتُ المستحيلَ بكيتُ مَرْحَى
فما عادَتْ يدُ المعقولِ أُمّي

حبيبي ما بِهذا الضّوْءِ يُرخِي
ويُطعِمنا شموسَ الخوفِ كي لا
فهذا رقصُ أعمدةٍ طِوَالٍ
تسيحُ ظلالُها في الرّملِ هَونَاً
وآيُ الرقصِ قرآنٌ كتيمٌ
ويُرْسِلُنا بياناً غِبّ نَدْحُو
كواكبَ غامضاتٍ يا حبيبي
يُزيّنّ المتاهةَ لي فإنّي
أذُرّ الصمتَ في الحافَاتِ حتّى
أيَا أشياءُ واْهْلَكْ يا صباحاً
ومُوتي أنتِ يا أنوارُ حَوْلِي
فَلَيْلِي بَعْدُ قوّادُ الشظايا

وأتْرُكُ للمياهِ الليلَ ترفو
فتختلجُ الستائرُ في مياهي
بأشكالٍ مُعَمّاةٍ تنادِي
حبيباً ممكناً حيّاً محالاً
أصاخ فأسرجَ المفتاحَ قبراً
حبيباً كم تناديهِ الطّوايا
تنادِي كُنْ معي في الصِّفرِ حتى
وزِدْنِي غربةً أزدادُ أهلاً

أقولُ لحدأةٍ صرَخَت حنيناً
وعندي سلسلٌ حيٌّ بروحي
فأقرأُ  أسطُراً في اللّحمِ كُنّتْ
أيا محجوبةَ المعنى جمالاً
وطِيْرِي في يَدٍ طُوِيَتْ حِجَابَاً
تجاوِبُكِ الحياةُ بصوتِ قرْعٍ
يَقُضُّ كنانةَ الأفلاكِ قَضّاً
من المحجوبِ أحراشاً وطَمْيَاً
تَرَيْنَ مَدَارَكِ الطّاغي يُغَذِّي
سَعاداتٌ مُجوّفَةٌ وتوقٌ
وتنْزيلٌ من الأشياءِ يأتي
أمَا وقَد اْستقامَ لكِ التّعَرِّي
فطوفي منزلَ الأعدادِ فينا
صلاةَ الهازلينَ لدى المراثي
عسى يستوفِيَ المرئيُّ عيناً


يُراقِصُ طيرَنا خللَ الحديدِ
طِرَادَ الريح من بيدٍ لِبيدِ
إلى بابِ المغامرةِ الوصيدِ

وتشهَدَ لو سنَشْرَقُ بالصديدِ
قُساةً في مقارعَةِ الأكيدِ
وطِرْنا عبرَ مشتبكٍ مديدِ
من الصخرِ اْستبدّت بالوعيدِ
وأكفاناً وكم ذا من عبيدِ
من الألغازِ في الرّصَدِ الرصيدِ
ويسترقُ الرمادَ من البَديدِ
تعلّقَ في فضا روحٍ بليدِ

وقامرتُ الصباحَ على وريدي
صباحُ البابِ ليس صباح عيدي
ولا عادَ الدّمُ الباني حفيدي

ويَهْمِزُ طيرَنا خلل الحديدِ
نصيرَ عواءَ مغربِهِ الجديدِ
تَحَلّبُ فوقها أثداءُ غيدِ
وتَدْرُجُ في المدى كَدَمٍ عنيدِ
يهزّ خرائبَ التيهِ الطريدِ
كواكبَ تائقاتٍ للبعيدِ
يَضَعْنَ النارَ في لغةِ الشريدِ
لفلاّحُ الطُّوَى وأنا حصيدي
يصيحَ الروحُ حولَ الرّمسِ: بِيدِي
من الخوفِ الذي أمْسَى عميدي
وحِتّي عن يَدِي لبنَ الحديدِ
وجلاّبُ الهباءِ إلى جليدي

ثيابَ جنونِه بِدَمٍ شديدِ
تخاتلُ عينَ واحِدي العديدِ
حبيباً فيهِ معراجُ الحدودِ
يسافر فانياً طَيّ الخلودِ
إليّ وسارَ في البابِ الوقيدِ
وتُشْرِقُ سُرّةُ الصّفرِ الوليدِ
تُسِرُّ إليكَ بئرٌ بالوجودِ
بما في المحوِ من وَجْدٍ وجُودِ

وهَمّتْ بالتّمزُّقِ ملءَ جِيدِي
يمهِّدُ لي مغاليقَ الجلودِ
وأُخرى أُلْغِزَتْ في النّحرِ: صِيدِي
صغيراً راكضاً تحت الصديدِ
وجُوْزِي أنهُرَ التيهِ المديدِ
على الأنوارِ مُصطخِبٍ شديدِ
ويأخذكِ العواءُ لتستزيدي
وميثاقاً من اللوحِ الفقيدِ
عِظَامَ الدّهرِ بالطّرْحِ المزيدِ
إلى وصلٍ وجوديٍّ مجيدِ
إليكِ يطوفُ في عُرْيٍ فريدِ
على أكفانِ منزلكِ الوحيدِ
وتابوتَ الحكايةِ واْستعيدِي
وصعلكةَ الفواكِهِ في مسيدِي
ويهدِلُ: إيهِ يا أكوانُ مِيدي

Sunday, March 4, 2012

الفيل في البرميل

(أمّا الخلاص الذي قد ظُنَّ أنه من الداخل؛ بات يلوِّح الآن  بمقصّاته من خلفية وجه كولومبوس. ها أنا في غرفةٍ قد تكون خالية أنحسرُ إلى نفسي فقط/ اليانصيب):
رندا محجوب.

1
تزعم مأثرةٌ مآليَّةٌ عامةٌ أنّ الشخص، عاجلاً أم آجلاً، يدفع ثمن أخطائه، بوجهٍ أو بآخر. بشأني، لطالما كانت أخطائي حبيبةً لي، وبلهاء، وحميمة، وقلما كانت ذات تأثيرات سالبة على حياتي، بل على النقيض، لم أُقْدِم على أمرٍ ظننته صائباً وتفاءلتُ به، كعادة البشريين، إلا وعانيت منه أشدّ العناء، برغم أن (الصَّوَاب) لم يَصِم إلا قدراً ضئيلاً من مجمل اختياراتي وأفعالي. وكثيراً ما كان الخطأُ صوابي الوحيد الممكن، وكان الصوابُ الخطأَ الذي عليّ أن أدفع ثمنه غالياً، وعلى نحو مؤسف. في الحالين؛ لا وزن عندي لمكارم الأخلاق في ما يبدو، فالصواب هو ما يخجلني، لا الخطأ. ولَمّا كانت الأخطاء تُطربني وتفي لي بما تقتضيه حالي، وهي التي أكون على صوابٍ إذ أُقْدِم عليها، فإن الصواب الآخر؛ صواب مكارم الأخلاق، هو الخطأ الوحيد الذي يمكن أن أرتكبه، آسفاً.
2
إننا نستطرف الآن تُحفة (إقليم الأرض الطافي) فوق بحر الظلمات، كما شدا بها طبيعيو السابق، ولم يكونوا فلاسفةً، لم يقولوا إنما نحن فلاسفة؛ كانوا في الحسبان مؤرخين علماء. وها هم، بلسان الحائط العائق، بقوة عين الزوج، بقلب لم يتفتت من العشق، يقولون للعالم كله إنما تطفو الأرض مركزاً على سطح كون من المياه، تطفو الكواكب أيضاً، والنجوم، وفوقها فراديس وجهنمات تستقر عليها أقدام العرش، حولها، سطح مائي محيط يطفو على سطحه كل شيء، تليه الظلمات التي لا يليها تال. والمنطق دائماً عبدُ مقدِّماته يطلب من أجلها المزيد من العبيد. ومن ثَمَّ يُستطرفُ لاحقاً فرحنا البدائيّ بـ(مسطَّح المحايثة). وهذا باكرٌ يتبجَّح. إن الحياة على الإقليم لم تفرح بعد بـ(مسطح المحايثة) كإزعاج بدائي، كمقدمة منطقية، لكنه باكر؛ لأن على إقليم الأرض أن يستطيل أولاً على مسطح المحايثة، قبل أن يسخر منه، كما سخر من مركزيته الطافية على سطح المياه الفاتحة. وكما ارتطم عرش الله الطافي بيابسة التفكير، وارتطمت سلة الرضيع بيابسة التاريخ، وارتطمت أنا الأرض بيابسة الضياع النجمي، سيرتطم أيضاً (مسطَّح المحايثة) التعدُّدي بيابسة العشق. ولكلٍّ سُلالته الباقية خشباً سديمياً محطماً من حفاوة الإقليم يترنح في ضفاف نتائجه.
3
أعني؛ كيف لي أن أجد الصوابَ أو الخطأ في شيء، وتباً.. كيف لي أن (أعتقد)!، وأنا أعلمُ راسخاً أنْ لا أرض في الواقع للحقيقة. لا أرض في الحقيقة للواقع. لا واقع في الأرض للحقيقة. لا واقع في الحقيقة للأرض. لا حقيقة في الأرض للواقع. لا حقيقة في الواقع للأرض. وهي مفارقات نسينا أن نتجاهلها ضمن ما تجاهلنا عمداً من مفارقات؛ وفيها ينضمّ التجاهل الخافي: عمليات الصغائر المنهِكة، كم خسرنا فيها من جنود الصيرورة!. وهل أنسى الرحمةَ الرحمة؛ الضِّمن التجاهليّ الطافي (بقِدْرٍ كأنَّ الليلَ شِحْنةُ قَعْرِها/ تَرَى الفيلَ فيها طافياً لَمْ يُقَطَّعِ: شاعر جاهلي مجهول)؛ وأرى تجاهلاتنا هذي، وأرى وأرى، أرى أموراً تجاهلناها لأنها كانت أبعد عنَّا من الصغائر، من الأرض والواقع والحقيقة، أموراً لا تعنينا، أمورَ (الرائش بينهما) فيلسوف الأحشاء شاتم الصيرورات؛ أموراً تطفو إشارةً خافيةً أو تعبيراً تشاركياً. تحرُّشاتٌ تُقَاطِع الصيرورة المسحورة، سلالٌ طافيةٌ، وعروش طافية، وكواكب ذهنية طافية، ترتطم بيابسة اللحم، تاركةً بيضها يتأقلم صيرورةً وسط سديم اليوم. أتعتقد؟.

Saturday, March 3, 2012

نهر في الذاكرة؟

إنّ الطريقة التي يكوِّن بها بعضُ الناس الصورَ في مسارح أرحامهم لا تسمح لهم قطّ بإدراك تعقيدات الصور التي يكوّنها أناسٌ آخرون، إلا على ذات الطريقة. إنَّ نهراً في الذاكرة لا يمكن أن يعني لهم إلا النهر الذي رأيتُه ذات يوم على الأرض وما زلتُ أتذكّره، استعارةً، على طريقة السؤال الجاري في الإذاعة والتلفزيون: نهر في الذاكرة؟: نهر عطبرة. مدينة في الذاكرة؟. جبل في الذاكرة؟. أما أن يكون نهراً جارياً بالفعل في ذاكرتي البشرية فهو عَصِيّ على إدراكهم، (إلا إذا كان هناك إذاً مكانٌ ما على الأرض يُدْعَى "الذاكرة"، ولنا جميعاً أن نزوره، فنرى نهره، وبركله، وبورسودانه!). تعجيزاً يقولون. وتحفيزاً نقول: (إنه موجود، هذا المكان الذي يُدعى الذاكرة، ولكم أن تزوروه). وحين يفتحون بأيديهم الأقواسَ ملحّين: (أين؟، أين؟)، وتوشك الصورة أن تقطف الرؤوس بمنجل، نتمادى فنذكِّرهم بما كان عليهم أن يذكِّرونا به، ما داموا يمرِّغون حواسّهم ناعمين على ساحل استعارة النهر في الذاكرة: تستطيع الذاكرة أن تكون وأن تحوي ما تشاء، جبلاً، مدينةً، نهراً، كوناً، وكل ما سبق، وغيره، و.... و"لكلّ شيء شجر"، كما قيل للنفّري، ونهر عطبرة.

Friday, January 20, 2012

البلاغة الواضحة


سأخبرك بأمرٍ لا أعرف لِمَ سأخبرك به. ولا أعرف إذا كان عليّ أن أنتظر منك رداً عليه، أم أنني أريدك أن تسمعه مني فقط. حقاً أريد أن أخبرك به. لا لأعرف رأيك فيه، ولا لأرى كيف يبدو لك. على أنني أعلم أنني أخبرك به، لأنني لم أعد قادراً على الاكتفاء باجتراره وحدي. ولا شكّ لديّ في أنني سأجد منك رداً عليه، وإن لم تقل شيئاً. لهذا أظنني أخبرك به. لأنني أريد منك رداً عليه. سأخبرك إذاً. ولكنني أخشى من أثره أشدّ من أن أجترّه وحدي. لا أعني أثر الخبر، وإنما الإخبار. أخشى أن لا تردّ عليّ، وإنْ تحدَّثتَ، فلا يتحقق لي ما أردته من إخبارك. وأخشى أن تردّ عليّ، وإنْ لم تتحدّث، فلا يتحقق لي ما أردته من إخبارك. ولكن ما الذي أريده حقاً من إخبارك؟. إنه أمر معقّد كما ترى. وسيكون تبسيطاً فادحاً أن أختزله في عجالة إخبارية تجعلني كمن أفرّ منه لا كمن أحاول الإقرار به. وهذه مدعاة لتناقضٍ عمليّ واضح. كيف يتسنى لي أن أخبرك به حقاً، وأن أتنصّل منه بذات الحجر. لأخبرك به، وأتنصّل منه، يجب أن تكون صورته مستكملة لديّ أولاً، ومشفوعة بالبيان اللازم للخبر. وهي غير مستكملة لديّ إلى حدّ أنها فجوة، إلى حدّ أن فمي يسبَح فيها، إلى حدّ أنّ استكمالها سيُغنيني عن إخبارك. وهذا هو إذاً بالضبط ما أريده؛ أن أستكمل صورته لديّ. وسأستكملها منك. ستكون القناة بيننا مزدحمة جداً. سيكون عليّ أن أخبرك به وهو غير مستكمل لديّ، على أن أستكمله منك أثناء عملية الإخبار. سيندفع منّا تياران متعاكسان يطحنان بعضهما البعض. والمربك في الأمر هو أنك سترسل إليّ تيارك بينما أتحدث إليك. أما وأنني أريد أن أخبرك به، راغباً في توسيع مدّه إلى نطاقٍ أبعد من حدودي، فهذا إثبات. أما وأنني أريد أن أخبرك به، راغباً حقاً في التنصُّل منه على ذات الموجة، فهذا محو. أريد أن أخبرك به لأثبته، ولكن أريد أن أخبرك به لأمحوه. أعرف الآن ما سيحدث، سيتحول الخبر أثناء حديثي، وحين أنتهي من إخبارك به، ستكون أنت من أخبرتني به. ها أنت، كما ترى، تعرف ما أردتُ أن أخبرك.

Thursday, September 1, 2011

في مصحف النظرة

تَقُولُ السَّاقُ الْحَدِيد
أكَلْتُ في الجحيمِ كتاباً بحالِهِ، تركتُ الكتابةَ للحياةِ التي؛ كَمَنَتْ هناك، مَلُولَةً، داخل عيني، تتذمَّرُ من أمرِ منزلٍ بها يوجعها فيه بابٌ نائمٌ بِوَضْعِيَّةِ القبرِ تحت جناحِ الحمارِ، ترنو إليه مغتاظةً، تحكُّ الجَمالَ الذي في ظهرها بغصنٍ يابس؛ تظنُّ الذي يأكلها في ظهرها جناحاً تَرَكَتْهُ في القبرِ أو في المنزل.
أكَلْتُ في الجحيمِ جمالاً بحالِهِ تركتُ الحياةَ تظُنُّ الذي يوجعها في جسدي كتاباً أكلْتُه في الباب أو في الجناح.

يَقُولُ الْمَسَاق
قرونُ الْمَغَبَّات؛ ألطويلةُ هذه، ناميةٌ تحتَ جِلْدٍ مُبْتَسِم.

رأيتُ وجهي كأنَّه الحلوى؛ في غلافِهِ يزهو ويُلاكُ بالداخل.

رأيتُ مطلوبي ليس عند أحد.

رأيتُ مِشْيَةَ الكونِ في الحبِّ أجمل في يدي إذا ما اْبْتَسَمَتْ؛ وهو يطبعُ بالعينِ خطوةً محروقةً عليَّ، تُبْصِرُني أطيرُ، يحملها إلى الطيرِ ماءٌ يُبْصِرُها، له جناحٌ أبيض تُبْصِرُهُ؛ جناحٌ واحدٌ أُبْصِرُهُ يمشي، تشمُّها عيني.

جَهْرُ الطَّبِيعَةِ... كِتْمَانُها
المكانُ لو ينطوي على مكانين. في مدينةٍ
يعثرُ الحكماءُ على الأرضِ مخمورةً
والليلُ يؤنِّبُها
وبينهما تتدخَّلُ الزِّيادة.

رفعُ الجبيرةِ عن كَسْرٍ في ساعدِ المقدارِ
أشدّ وطأةً على الحقيقةِ من عاقلٍ يراها.

غيرَ حِمْضٍ متكاملٍ؛ مشرقٍ من أصولِ بُصَيْلاتِهِ القلبيَّةِ على باطنِ اللُّطفِ، لم يمكن الارتيابُ في هدفِ العناية.

أن يخجَلَ أحدٌ من مثالِه.

سَاعَةُ نَرْدِيَار
الأرضيُّ مطروحٌ على عدمِ الزِّيادة.

لذلك الأرضُ حَاضَت نقاطاً جوفاءَ في الأفقِ الأعلى.

لذلك أَعْدَمَ اللَّوحِيُّونَ على رأسِ كلِّ دقيقةٍ (واقفةٍ على لسانِ الجغرافيا؛ واقفةٍ على لسانِ الوجودِ) شيئاً من صفةِ الحاملِ ليس له سِوَاء.

لذلك النُّجُومَ نَحَرْنَا.

يَقُولُ الآسِف
حضوري كان مُسِيئاً لِيَدِي أمامَ ضيوفها.
غيابي كان مَفْخَرَةَ عيني.

أنُوبُ عن الأشياءِ في موضوعها.

الكَلْب
كلبٌ حيٌّ. كلبٌ حيٌّ في المراسلاتِ الدائمةِ بين عقلي ولحمي، يجري مع دمي وأنفاسي وينبش في ترابِ خيالي. ومنذ ولادتي لم يتوقَّف نباحُهُ الذي تسمعه حواسِّي ويسمعه جِلْدِي وتسمعه كبدي وتموتُ فيه عيني ويموتُ لساني والكلبُ يبقَى.
ما يَطْفُرُ من عيني حين أرى أو أبكي هو الكلبُ لا النَّظْرَةُ لا الدَّمْعَة.
وحين أقولُ شيئاً، يطيرُ الكلبُ من لساني كأنَّهُ الكلماتُ تَسْتَمْنِي.
ولا أتنفَّسُ ولا أُفكِّرُ ولا أحسّ.
ألكلبُ يَفْعَل.
ولا أحيا.
حياتي الكلب.
والكلبُ يَبْقَى.

نَظْرَةٌ حُمِّضَتْ في بِئْر
الكعبةُ أقْلَعَتْ طائرةً. الحجرُ الأسودُ في مُسْتَقَرِّهِ يدور.
البئرُ طارت. جوفُها في مستقرِّ القاعِ يدور.
الصَّبِيَّةُ طارت. الحليبُ من تحت الحجابِ طَمَحْ، أطفأَ الأختامَ الموْقَدةَ تحتْ. القدورُ به تدور.

الكعبةُ طارت. البئرُ طارت. الصبيَّةُ طارت. الدَّهْرُ مكتوفاً في مستقرِّ صورتِهِ يدور.

نظرةٌ حُمِّضَتْ في بئر.

يَقُولُ الآسِف
....
لأنَّكَ قُلْتَ إنَّهُ يَجِبُ علينا الرُّجوعُ، لكن هل تستطيع؟. لَمَا جادلْتُكَ في حقٍّ أنتَ أهلُهُ، إذا لم تَبِضِ القوَّةُ بينَ أيدينا كلَّ هذه الشَّفاعةِ لأهلِ الحقِّ، في أن يَنْقُضُوا أساساتِ عمرانهم العضويِّ القديمِ، تقرُّباً لحقيقةٍ بابُها الإنكارُ؛ بابُها الأوحد!.
أَتَرَى؟، ليس بالخَطْبِ الجَلَل!، وما يكلِّفُ من دموعٍ، إلاَّ بسببِ الجَمال، وبطءِ القارب، وربَّما، إلى حدٍّ ما، بسببِ اْختيارنا، أنْ لا نَقْبَلَ، في واردِ الإمكانِ، أنَّنا لسنا أهلَ تلك الشَّفاعةِ، وإن أشرَقَتْ، مِلْءَ أعضائنا، وأعَاقَتْ بصيرةَ الماءِ في لحمنا عن أن تدُلَّنا، ولو بأضعفِ الأيمانِ، على إحداثيَّاتِ أيَّة نقطةٍ خارجَ الحقيقة، خارجَ بئرها!.

كُتِبَتْ علينا الضَّفائرُ...
فالأمرُ كلُّهُ
إذاً
وَقْفٌ على جَوابِكَ...،
هل تستطيع.

شُهُودُ الْحِيلَةِ أنْكَرُوا
شُهودُ الحيلةِ أنكَروا:
(كلاَّ...، لم يُحاوِل!).
هَتَفُوا
ثمّ اْنصرفوا
ناعِمينَ
وهم يطحنون النَّدى
كما حَضَروا.

الوَاحِدُ، عِنْدَمَا يَكُوْنُ عَلاَمةَ الطَّرْح
الواحدُ، عندما يكونُ علامةَ الطرح؛ مبطوحاً بمفردِهِ على السطرِ كتمساحٍ مخدَّر،
هل ضروريٌّ أن ينحسرَ طولُهُ خجلاً لتصدِّقَ التِّكراراتُ الطِّبَاعيَّةُ الموجبةُ أنَّه مقدار؟.

طريحَ البساطةِ الرهيبة، ولا يكونُ قادراً على فهمِ الدموع؛ إذ تصيرُ الدموعُ شباكاً حرَّةً زاخرةً بالحدودِ والقِيَمِ والأعدادِ من كلِّ جنسٍ تموجُ حولَه ولا تقبَلُ اْستِخدامَه!.

لديه ألف وجهٍ للفقدان؛ ألفُ سببٍ للأجنحة؛ ليلةٌ واحدةٌ للخلود، أُخرى لتأديبِ الصِّفْرِ وثالثةٌ للبكاءِ وللرضا معاً،
كم أمْسَاً سيقطَعْ بِـ(مِنْجَلِهِــالجَّاذبِيَّة)؟.

وكلُّهُ حسرةٌ على أصابع حُفَّتْ في القسمةِ بلا ضمير.
تعودُ العنايةُ بالوَرْدِ مضروبةً، وساعدُها من الْخِزْيِ تحجبُ عينيها.

الترحابُ وعَافَ جِوَارَه!.
ليس إلاَّ فَضْلُ الحَرَج.

مع ذلك، ما الذي يُبْقِيهِ بَشَرِيَّاً قابلاً للشرح؟.

تَقُولُ النُّجُوم
ساعتُنا انكَسَرَت لأنَّ الأسَدْ.

الأسَدُ في قعرِ بئرِهِ سهرانٌ يحدِّقُ بالأعالي وبالسافلة. تتجرَّعُ عيناه رؤى السَّبْعَتَينِ عبرَ دائرةٍ ثابتةٍ يتجدَّدُ الكونٍ خلالها حياةً لا نهائيَّةً يستعرضها خالدٌ على شاشةِ طَشْتِهِ السَّماويِّ...، وليس يبالي.

الأسَدُ في قعرِ نارِهِ سهران.
يُطْهَى قلبُهُ في جهنَّم، وطليقةً تطيرُ يَدُهُ في الجَنَّة.
إبادةٌ خُلْدٌ؛ إبادةٌ إعدام.
عينٌ في العينِ وعينٌ في اللام.

أسَدٌ في قعرِ صِفْرِهِ سهران.
وخطوطُ الجَوزاءِ تمرُقُ خاطفةً أمامَ عينيهِ
ولكن
وحدها...
وحدها...
دُونَاً عن كلِّ ما يقدِّمُهُ له الكونُ من كنوزٍ كالصُّوَرِ تجري على الشَّاشة؛
دوناً عن سائرِ أوْفَاقِ الزمانِ والمكان
دوناً عن مناسباتِ الطبيعةِ المرحة
دوناً عن الممكنِ والمستحيل
دوناً عن الجنَّةِ والنَّار
دوناً عن قوانينِ الأبدِ الكُبرى
دوناً عن الحقِّ والباطل
دوناً عن الطَّيفِ والمِثْقَال،
هي مَنْ تُعَاوِدْ
وحدَها...
ودائماً خاطفةً وخضراء
تجُرُّ ضفيرَتَها على قمرِ العينِ
وتجرَحُ الدَّمعة.

مَوَالِيدٌ لا نَرَاهُم
بِهِم يخضَرُّ الجَّانبُ الآخَرُ خلفَ صُلْبِ الوجود.
تُزهِرُ في عيونهم كتبٌ إلاَّ نكتبها!...
تنقَصُّ رقابنا توقاً على المساقِطِ إلاَّ نكتبها!...
تَنْتَاقُ عيوننا إلاَّ نكتبها!...
ونسيرُ ونبكي ونغنِّي ونطيرُ ونكتبها،
فَيَنْسَلُّونَ في حذرِ الفئرانِ
إلى الخَارِجِـدَاخِلِنَا؛ إلى الدَّاخلِـخَارِجِهِم،
هنا وهناك؛ من خلف النقاطِ والأشكالِ المتلوِّية،
تُطِلُّ رؤوسٌ وأعيُنٌ صغيرةٌ تتألَّق.
هل نراهُم؟.

مواليدُ الطَّمْثِ والخيالِ والنَّظَرِ والاستمناءاتِ والنكاحاتِ الْمِثْلِيَّةِ
هل نراهم؟.

يَقُولُ الآسِف
حَجَرُ الذَّنْبِ يزهرُ في بطني.
الشِّقاقُ الذي في خَرْدَلَةِ الكونِ اشتَعَل.
المحاولة.
 الكَسْرُ الطويلُ لَمَّا القِطار.
العددُ المضاعَفُ للممكن.
النَّجوَى من حضيضِ المفرَد.
الحجُّ إلى مصرعِ السَّماحة.
السِّدْرَةُ المجوَّفة.
......
حَجَرُ الذّنْبِ بابٌ إلى التراب.
حجرُ الذنبِ فاكهةٌ من نهاية.
حجَرُ الذنبِ تحميلُ الحياةِ منجَّمَةً على الرِّحلةِ التَّالية.
حجرُ الذنبِ...
كنتُ سأبْقَى.

اليَد
الأرضُ رائعةٌ هذا الصباح!، كأنها لا تدري.
أكادُ أشعرُ بكلِّ اْنفعالٍ يعتريها؛ شعوري بفرحةِ كفِّي لمصافحةِ الحبيب.
بل هي، إنْ تَحَرَّيْتُ صَوَابي، لا شكَّ جزءٌ من جسدي؛ متَّصلةٌ به اْتِّصالاً عضويَّاً محكَماً، وإلاَّ ما وجَدْتُنِي الآنَ في عُمْقِ حِسِّها وعاطفتها، أتَلَقَّى ما تتلَقَّاه، وأستجيبُ اْستجاباتِها للحياةِ وللشمسِ وللقمرِ وللزمانِ وللمواسمِ والأطوارِ الدُّنيا وللرُّجومِ وللحبِّ وللهَوان.

أُحِبُّ الأرضَ لأنِّي مثلها صدَّقتُ الأشجار.
أُحِبُّ الأرضَ لأنِّي مثلها جرَحَتني المصافَحات.
أحبّ الأرضَ لأنِّي مثلها حِمارٌ طائرٌ داخلَ بئرٍ مُسَلْسَلَة.
أحبّ الأرضَ لأنِّي مثلها كُلِّي غُرْبَة.
أحبّ الأرضَ لأنِّي مثلها عُضْوٌ في جسدٍ: يضحكُ عنِّي ويدمعُ عنِّي ويسبِلُ عينيهِ عنِّي فلا أرى فيُبْصِرُ عنّي ويسيرُ عنِّي ويطيرْ، وحين ينامُ أبقَى ساهرةً بالبابِ أحرسه من الغيرِ فلا يَشْهَد أحلامنا سواه.
أحبّ الأرضَ لأنِّي مثلها
يَدُكَ الحزينةُ
يا محمد.