عند زاوية آخر محطة
العاشرة، التففت على كومة التراب الكبيرة المنبوشة عن ماسورة مكسورة. بائع السجاير
والجرايد والتمباك يصلّّون المغرب أمام أكشاكهم المتلاصقة. نظرتُ من الخارج، عبر
قضبان كشك السجاير، أستطلع الداخل. البائع، ذاته الذي يصلّي أمام الكشك مع رفيقيه،
جالس أيضاً بالداخل على مقعده، يلهو بموبايل التحويل العتيق، وحده هذه المرة لا
كالعادة. اشتريت السجاير والرصيد، والتففت بجسدي أمام الكشك عائداً. لكن ليس هذا
الوقت مغرباً. إنه الفجر، وصوت النباه يأتي خافتاً مغتبطاً من مئذنةٍ قريبة. وليس
المكان آخر محطة العاشرة. إنها ساحة واسعة، تمتدّ أمام خلاوي فرقةٍ صوفية ما.
أتذكرها من قديم، براياتها الملونة المثلثة الأشكال، منظومة بخيوط وحبال، امتدت
ملء الفضاء حتى كادت تحجب الضوء. من شارع جانبيّ في موضع امتداد زلط العاشرة الذي
لم يعد هناك، برزت صبية في الـ15، تدفع درداقة جلس عليها صبي في السادسة، حليق
الشعر، إلا من عُرف طويل يشقّ جمجمته اللامعة من جبينه إلى رقبته، تتدلى ساقاه على
جانبي العجلة الأمامية وهو يدعك عينيه. وكل منهما يرتدي قطعة واحدة من الدمورية،
ممزقة حائلة، ملفوفة حول جسده لفة الإحرام. يقتربان مني، والصبية تئنّ وتعنّف
الصبي مهمهمةً. وأنا أنظر إليهما متخشباً، كأنّ الكون بحاله تجمّد ينظر إليهما،
وهما وحدهما يتحرّكان. وما إن عبرا أمامي، ولمحتُ أجنحتهما المغبرّة المنتوفة، إلا
قليلاً دامياً بقي منها على أكتافهما، حتى انطلقتُ وانفكّ انعقاد جسدي. سرتُ معهما
كأني لم أكن من قبل إلا أسير معهما، لمسافة قليلة. بطرف الساحة، يفتح باب جامع.
إنه الجامع الأخضر القدّام إستاد الهلال، عند الطرف الشمالي من ميدان المواصلات.
هو وليس هو. البناء هو بناء الجامع ذاته، لكن هذا ليس ذاك الجامع. ليس هذا المكانُ
جامعاً، بل ما يشبه ملجأً أو مدرسة داخلية، شيء من هذا وتلك. بامتداد الطرف
الغربي، تحت جدار الاستاد ارتصَّت بنابر الشاي والزباين والنساء والكثير من
الإثيوبيين العابرين. وصوت الفيل الأكيد من وراء حجاب. نقترب من باب الجامع،
والصبي على الدراقة يتذمّر. تنتهره الصبية. لا أذكر أنني ميزتُ كلمةً من كلمات
الصبي والصبية، ولا أتذكر حقاً أنني كنت معهما قبل ظهورهما بطرف الساحة، لكنني
أعرف الآن، كما عرفت من زمانٍ قديم، أن الصبيّ نبيٌّ ما، يجب تعليمه وتدريبه في
هذا المكان المخصص لأغراض شبيهة. الصبي يتذمّر من أنه سيُترَك هنا، وتنتهره الصبية
بأنها ستتركه على أية حال. لم يقولا أمامي كلمات واضحة تمكنني من فهم هذا، لكنني
عرفته. قبل أن نلج من باب الجامع التفتُّ عفواً إلى الجهة الغربية حيث بائعة الشاي،
وعدّتها، وشابّ إثيوبي وحيد، خالف كراعو على مقعد. وقعت نظرتي على عينيه، فإذا به
يتفرّس فينا بانتباه مريب. أوقفتُ الصبية عند الباب، وأسرعت بخطوات واسعة. لوهلةٍ
انتفض الشاب في مقعده، وأنزل فخذه عن فخذه، وبدا كمن سيهبّ هارباً، لكنه ثبت
وأطرق. اقتربت منه وغرست عيني فيه، فاضطر بعد قليل إلى رفع رأسه والنظر إليّ
متسائلاً بعينين جزعتين، قلت له: (لا تجزع، أردت فقط أن أرى وجهك جيداً). نظر إليّ
بتفهُّم، وأحسست أننا أعدنا بذلك تأكيد اتفاق قديمٍ بيننا، ثم ارتددتُ بسرعةٍ
عائداً. نزل الصبي من الدرداقة باكياً، تجرّد من دموريته الحائلة، اتجه عارياً نحو
باب الجامع الذي ليس جامعاً. وأنا أستدير عائداً، نظرتُ إلى الإثيوبي الشاب.