هكذا،
كلما أراد جسدي أن يعلّمني شيئاً، بالكتابة، ألفيتُني أستضيفُ تلميذاً لما أتعلّم.
ليس هو أنا. ليس نوعاً من صورةٍ تحاكي أنموذجاً عاماً أبتنيها لي لأراني فيها كأني
هي وكأنها أنا. لا. وليس هذا التلميذ صورةً حقةً من سلاسلِ صُوَرٍ أعلم أن لها
تقلّبات كثيرة في نطاقِي البيئي، وإن ثبتت لها بعض اللمحات، هنا وهناك، أُعرَف من
خلالها كياناً ثابتاً، ذا اسمٍ، وذا طرق معينة في الأمور، وذا هذا، وذا ذاك، قد
مِنّي، وقد لا مِنّي، هي "أنا" في نظر المحيطين بي. وما دمتُ هذا الذي
يتعلَّم، وجسدي هذا المعلّم، فقد راق لي أحياناً أن أتظاهر، في تساهُلٍ، بأن
تلميذي، هذا الذي أستضيفه في ما أكتب، وأعِظُهُ رقيقاً وغليظاً بما رأيت، هو أنا.
يلذُّ لي ويُكْرِبني ما أكتُبُ، تماماً كما يلتذّ ويَكْرَب تلميذٌ يُلقَّن درساً.
فضلاً عن أني قطّ لم أحلم بي واعظاً، وربما فضّلتُ التراجع يومئذٍ إلى آخر الصف،
أو المعاودة في اليوم التالي، إذا علمتُ أن دفعة هذا اليوم من أجنة الأرض سيُختَم
عليها بأن تصير كتيبةً من الأنبياء، يُلقى على عاتقهم إنقاذ البشرية من مخاطر
أفعالها واختياراتها، ربما يفلحون في إشعال حرب ماحيةٍ، وربما كالعادة يفشلون، من
فيض الحياة على الحياة، إلا في ترك أصداء ذكرياتهم القانطة ولعناتهم تتردّد في
أذهان تلاميذهم المقرّبين. وإذا راق لي أن أجسِّدني تلميذاً لجسدي، هكذا، كأني
والتلميذ وجسدي ثلاث نبضات تَتَلاحقُ إلى ما لانهاية في دورة دموية لا تفنى، فليس
ضنّاً مني على أحدٍ بعلومي، ولكنْ هكذا سيكون الأمر أوْفَى لي بحِسِّيّة الخطاب
إزائي. أن أصير الله وموسى معاً. ولا بدّ من جبلٍ شاهدٍ يمتصّ شيئاً من خشونة
اللقاء. وهو سَيَنْدَكّ سَيْنَدَكّ، ولكن سيَبقى ليَشْهَدَ الملحمةَ المتهتّكة.
ومما يلذّ لي ويُكرِبني في ما أتعلّم كتابةً، أن جسدي يُدنيني من أقاليم فيه وفي
الكون، بَتولٍ، لم يَدْنُ منها سواي، وما كنتُ أعي لها وجوداً من قبل، دَعْ دنوّي
منها. يطوف بي في ماهِدٍ وفي وَعرٍ، يعلّمني أقرأ المعجمات، فيشرق قلبي ويعجم،
وأعرف وأجهل، وأبكي وأضحك، والأعالي أمتطي، وفي الرغام أنام. وفي شهوان الكتابة
يُشرقني الإدراك حتى جسارة أن أتهتك صادحاً في المدائن والبراري، وهي تنزو بي، وهي
تنزو بك يا إلهي.
ولي
حبيبٌ، أين مني أنفاسه البلسم، قال لي: (هذا النكاحُ السّاري، في جميع
الذّرَارِي)، فتفتّحتُ للبحر أطلسَ، والأطلسُ لي تفتّح. ولي حبيبٌ، صبيّ كريم،
صبيُّ البستان، قال لي: (هذه لوامعُ البرقِ الموهن)، فأوسعتُ للبرق شرقاً، وأوسع
البرقُ غربي. ولي حبيبٌ، سهَّرَ الوَرْدَ في الوكر، وسهّرَني في السُّكر، وقال لي:
(أنت وراء هذه الأشياء)، فخُضْتُ في الرّيحانِ، وخاض فيّ الرّاح، وصرتُ شيءَ
المُتلاشي. ولي حبيبٌ، شافْنِي أبكي، مُرَّ تَركي، شَدَّ وَصْلي، من فؤادي
للسّديم. ثمّ حالاً، رَقَّ يَسقِي، أرضَ عشقِي، شَكْلُو أصْلِي، مِنْهُ زادِي
مُستدِيم، قال لي: (هذه الكائنات، أم هي حانة؟)، فأسفرَت الأشياءُ والكائناتُ
والذَّرَارِي تتبارَقُ في موكبٍ هازجٍ من نكاحيَ والصيرورة. يا له عرسٌ لا ينقضي.
وهذا
تلميذك يا جسدي، تلميذك، صديقُك المُستحِقُّ، وقلبي، ويدِي، وحبيبي الأنفاسُهُ
بلسم، وحبيبي البستان، وحبيبي السَّهَّرني، وحبيبي الشَّافْنِي أبكي، والأرض،
والكون، وأنت يا جسدي، فانْزُ بنا، كلّنا أنا، كلنا أنت، كلنا تلميذك؛ تلميذك
القارئ الأوحدُ، في رفرف البحران. أحسُّ علومَك يا جسدي، علومَك التي لم أكتب، ولم
أقرأ، سوى تجرُّدي لها ساعاتٍ وأياماً، أناجيني بها ليلي ونهاري، في البحر، في
الصحراء، في الغابة، في الجبل. أحسّ علومَك. وأثناء قراءتي كتاباً لا يشي على أي
نحوٍ بأنه أوحى لي بها، وحين أشاهد فيلماً، وحين أحاور صديقاً، وحين تشغفني لوحة
أو صورة، وحين أحدّق في حقلٍ من الخواء المُلِحّ يُشعّ من نقطةٍ أو كتلةٍ
يُشتِّتها بصري، وفي أحيانٍ أخرى كثيرة؛ كتبٌ لا حصر لها، عبرتني في صمتٍ جليل،
يشعرني شديداً بما في الجريمة من خشوعٍ، يمثِّل فيه المَجرُوم حضرةً لا يدانيها
شيء في بهاء الرؤية ووضوح الشهادة والمشاهدة. في الجريمة تجنح القواعد إلى البساطة
وحسن التقدير. خلافاً لما يعصف بي حين أنهمك في واحدٍ من تلك الكتب الغريزية التي
تنشب فيّ كنار الغابات، ولا تنجلي إلا على ريبةٍ صغيرةٍ متقدةٍ شديدة الإحكام،
تلاحقها قاعدة أشدّ منها صغراً تحاول احتواءها: ريبةٌ في الشاهد، في القارئ، في
استحقاقه، ونزوعٌ إلى ابتنائه من الصفر، استحضاره، استضافته، وإحاطته علماً؛ هذا
سديمنا، هذه حدود قبيلتنا، هذه أوتادنا. هيهات. مرحباً. وليس أسرع من أعيُن
الأفعوان تسري، بجلال الوحدة الميتافيزيائية الغامضة، ناسخةً ما عَلِمَت على لحم
الميتافيزياء الواقف (وراء هذه الأشياء) أشجاراً تتهامس. وفي المقابل، لا أقاوم،
إلا لماماً، غواية التفكير في أنّ الناس يولدون وهم يعلمون ما سأعيش حياتي بطولها
لأتعلمه، وقد لا أُفلِح، لهذا أضعني شاهداً، تلميذاً بين يدي جسدي. وفي الحال
أرتسم لي مُفتضَحاً لكل من يراني، بعد أن حُزتُ هذه الرفاهية؛ أن أراني. فمَن هو
المُفتضح لمَن؟. ومن هذا الذي قلّ مَلْمُوسِيّةً حتى ودّ، حتى تمنّى، حتى أراد، حتى
رغب، منها لو يَنسلخ، لو يَعْرَى، لو يُرَى، لو يُلْمَسُ افتضاحاً؟. عندها يلطم
المجهولُ الوجيزُ الطفلُ أسطُحَ الرقرقة الساكنة على وجه بحر المعلوم. ويناعٌ
زاهرٌ يقفُّ منتعظاً على جلدي كله قَفَّ حقل من مسامير القشعريرات، مهيباً بي من
على رؤوس جبالي الزرق نبياً لاعناً ساخطاً يستجلب البروق يُذَكِّرني، يذكِّرُ
شاهدي، تلميذي الذي منّي، الذي عَلَّمَ ما لم يَعْلَم، الذي أنت، الذي أنا، وجريمة
تتلألأ مثل حوريةٍ على وجهه المتكاثر في جسدي؛ وجه الصبيّ الزّاخر، يعلِّمني:
(لعنة
الكون عليك إذا أردت لأحدٍ أن يعلمَ كل ما يساورك، أو أن يكون على أهبة التخمين
بذي حافرٍ ينهب الجسر إلى قلبك المغرور، فقط؛ لأنه يعلم أمراً واحداً عنك أو حتى
جللاً من الأمور. كلا. لا يعلم، ولا أنت تعلم. ولن يعلم، ولن تعلم. أتدري ماذا
أيضاً؟. ستعلِّمه. ستعلِّمه ما لا تَعْلَم. وعندها ربما، ربما تتعلِّم. أترى هذه
المخاضة؟، كلها من أجلك. من أجلك أنت. عليك بالكون فتاي، لا بأوصاف خرائطه الوجيزة
المترنّحةِ عرائسَ في المجالس. عليك بالكون الذي فيك، في الناس، في الأرض، في
الكون. عليك بهذه الحقول المارجة، ولا تحمل معك إلى لقاءٍ سوى الكوثر، ومنه لا
تحمل سوى الكوثر. وإن شئتَ فالكوثرَ صِرْ. وتذكَّرْ ما ليس للأرشيف. ما ليس
للمستنَد. ما لا مقام له في الذاكرة. ما لا يُستعادُ في مرضخ الأنس الصغير. ما
يَصِير. تذكّر ما يَصِير. اِنْسَ الحقيقة. وتذكَّر ما يَصِير).
هكذا
كل يوم يا إلهي، أنطح الثمانين والتسعين ردحاً برعونة الوعل، ثم أعود طفلاً مع
اقتراب أول ألسنة الظلام. وبستانيٌّ صبيٌّ بارع، يُهامِس جلدي، في جنة الرضوان،
بما يبرع فيه رواة القصص الغنائية المتوحّدين، إذ يخاطب المُغنِّي مُغنِّيهِ:
"يا راوي"، مستعيذاً بها في مواقع الاستدلال والعتاب والشجن العنيف، حين
يختلط عليه الأمر بينه والمستمع إلى القصة على الجانب الآخر. وهي براعةٌ في إخفاء
منطقة النفوذ خارج حدودها لبعض الوقت، ثم إظهارها محتميةً بحدودها، في نوعٍ من
فرْض الأمن والاعتراف بغيابه، في حركتين كبيرتين متتاليتين، تنشران حولهما غشاءً
يتذبذب قبضاً وبسطاً، بفنّياتٍ رئويةٍ وبصريةٍ بلغت من الكمال شأواً عزّ علينا
بعده أن نُعَلِّم الحدود بين الجسد والعالم. وتشهق البراعة إجلالاً لنفسها إذ
يخاطب الراوي أعضاءه: "يا عين"، "يا لساني"، "يا
قلب"، "يا ولد"، "يا روحي"، "يا..."...؛ يا
صيرورتي. يُهَامِسُني صبيُّ البستان.
لذا
اصطحبتُك يا إلهي إلى إقليم في جسدي لم يَلِقْ به أحدٌ من صحبي، لا قبل ولا بعد،
إلى الآن. وأفكِّر، حين أنظر إليّ بعينك. أفكِّر. وأعرف، أنني تركت لديك مني
مشهداً قوياً ونادراً، ولا يهمّ أيّ موقع كان له لديك، فقد كان لوقعه أثرٌ واضحٌ،
صنيعة آلاف السنين، مثل طريقٍ فلَّقَتْها مخالبُ الهائمين وراء أمّ الكتاب،
وأنيابُ العرمرم أهل الكتيبة والقرية. ولإدراكي فرادة هذا الإقليم من أرضي، في نظر
الآخرين، لا في نظري، (فهو إقليم شهير عندي، وأعرف ما يكتنز فيه من قوة وندرة)،
أدهش حين أراه يتجلّى لي في ناظريك كذا باهراً، وأدهش حين أراني بعينيك، منظوراً
إليّ، بذات وَقْع مشهدي عليك؛ انذهالٌ غنائيٌّ بمملكة مسحورة لا يمكن الاحتفاء بها
إلا فناً. وأية حيرة تختلج في عينيك إذ أنظر بهما إليّ!، ومثل زورق شراعيّ يودّ لو
يصير شراعاً، يثبُ إليّ تساؤلك؛ كيف اقتدرتُ على ألا أضع هذا الإقليم في كتابة،
برغم دنوّي منه مرات، وعلمي بأنني قادر على أن أخلق منه صرحاً فنياً لا نظير له؟!.
وهل سأخبرك شيئاً عن المَواعِد التي دبّرتها بيني لملاقاتي داخل فَنِّي؛ ما أوفيتُ
منها، وما أخلفت، وما ليس بعد؟. سأخبرك شيئاً عن وعود هذا الإقليم الفريد، ما دمت
تعرف أنه ينطوي على خلقٍ لا نظير له. ولكن تريّث قليلاً لنرى على أية شاكلة من
الخلق هذا الخلق، أم ليس قطّ على شاكلة، قبل أن نبتّ جزافاً بأن من وعوده أن يصير
خلقاً فنياً. ربما لديه تدابير أخرى. بدءاً؛ لم يستقم هذا الإقليم الفريد
"مشهداً" قبل أن أصطحبك، لتشهده، أنت أولاً، ثم أنا متمرئياً فيك. أعني
"مشهداً" بالـﭭـولت التفاعليّ لغابةٍ مرهوبةٍ، كَدَّها الحنين، تغنّي
غناءً تصدّعت له أعين الصيادين؛ قد ادّارُوا وراء الجبال، ليشهدوا كيف تبكي بكاءً،
وحدها تعرفه سُفنُ الجبابرة السادرين سديماً في غيب الكتابة. حتى إذا التحقوا بأهل
الكتيبة والقرية حدثوا عن الغابة شِعراً من حديث الأبدِ يَسِحُّ ناراً وزفيراً من
صدوع الأعين. هذا هو الفنّ. ولعلّ هذا الإقليم من سلالة خلقٍ فنيٍّ أتممتُ عليه نعمتي
بالفعل، وقد يصيرُ بدوره خلقاً فنياً، ولكن ليس كأسلافه. ومِن هذا ترى أنه قد
يصيرُ ليس خلقاً فنياً على أية شاكلةٍ مما عهدنا، لنعرف إن كنتُ قد خلقتُ منه
صرحاً فنياً بالفعل أم لم أفعل. أهذا ممكن؟. وربما هو ليس حتى خلقاً فنياً من
الأساس، وأولى له أن يدوم شظاءً طائحاً في رفرف البحران يخفق بالتقاسيم من فعل
صيروراته لا يكفّ، أما ما شهدناه منه فهو لقاؤُكَ النهرَ اللقاءَ الواحد. فما الذي
ينقصك الآن (وقد شهدتَ) لتشهدَ صرحاً فنياً قام فيك فعلاً بما شهدتَ من خلقٍ
حسبناه في الإقليم، وهو السادر الطلق في السديم يهيم. أما وأنّ كثيراً من المشاهد
تبدو معتصمةً بالثبات، فهذه طريقة في انتهاز النظر، ولا عصمة فيها للمشهد، وهي
خدعة، هي صورة إدراكية في حوزة الزمن، سرعان ما تنجلي على الحركة. وتكفي نظرة
ثانية، إلى أين؟، والمشهد لم يعد هناك، ولا هناك هناك، ولا الشاهد.
الشاهدُ
استباقٌ مرجعيّ يُكتَب هكذا: "كمَا ترَى". لا أحد يستطيع قراءتها، كما
ترَى. وكان أجدر أن يُكتب بالرموز الصوتية للغةٍ لم تُكتب إلا لتصدير الشكّ في
العالم-الجسد مرجعاً مطعوناً في أصالته، وإن جاز اللجوء إليه جسراً، لذات السبب،
يعبر منه الواقع الإدراكي الرضيع إلى الميناء. هو الشكّ مرجعاً إذاً. وليس
العالم-الجسد، ولا صورته، ولا أبعاده الفيزيائية المعلومة، إلا نتيجة أُبرمَت
اتفاقاً، وعُدّت نطاقاً رسمياً، يقوم مقام الفصل الدراسي، حيث تُعرض، في حصّة
العلوم، قطاعات طولية، وعرضية، وأجهزة تمثيلية، وتبسيطات، أقصى طموحاتها أن تؤخذ
على محمل التعقيد الكافي لاعتبارها حقيقةً. ولا يُعرض العالم-الجسد، في مقام
الوسيلة التعليمية، إلا صورةً أو ميتاً. أما العالم-الجسد الحقّ فهو التلميذ. ولكن
من الذي يشكّ إذا لم يكن العالم-الجسد هو الذي يشكّ، أو إقليمٌ منه، أو موسمٌ من
مواسمه؟، أو صيرورة من صيروراته؟. مثلاً: للجهاز المناعي شُهرة إغريقية في كون
الجسد، شهرة طغت حتى على وجوده المكوَّن أساساً من شكوكه في وجوده، وإذاً في وجود
الجسد. سوى أن الجهاز المناعيّ يثق في صيرورته الجسد. وبدوره يثق الجسد في صيرورته
جهازاً مناعياً. وإذَن، فقط من تجاوبات الشكّ والثقة، والوجود والصيرورة،
والمقاليد والأفعال، بين العالم-الجسد وأيٍّ من أقاليمه أو مواسمه أو صيروراته،
يمكن إثبات العالم-الجسد، ونفيه، كسابقةٍ ظنّيةٍ، قياساً إلى العالم-الجسد، كمرجع
مغمور، متأهّب لإمكانه، لا لوجوده ولا لشهرته؛ إذ أجهزَ الشكُّ عليهما، وأجهزا
عليه، في عمليةٍ فدائيةٍ نالت كثيراً من التصفيق.
مثلما
يرحل الكائن الحي تاركاً جثة، ترحل الطريقة تاركةً حقيقة. وإثباتاً للحقيقة،
يُستورَد الشاهدُ من وسطٍ حضوريٍّ مُتاخمٍ مُستعد،ٍّ متى دُعي، لإرسال عين حاضرة
تَشْهَد. على أنها حين "تَشْهَد"، لا تَشْهَدُ انتهازَها تحقيقاً
للحقيقة، بل هي تحيا ما تشهد، أو لا تشهد. إنّ "ما تشهده" العينُ هو
حياتها، جديدها، وإحساسها، وكرمها، ونعاسها، وغذاؤها، وتجاهلها، وصحوها، وتكاسلها،
وانتباهها، وتشاغلها. لكنها تشهده إذا حضرت، إلا إذا حضرت ونامت. وهي حين تُنتهز
وثائقياً، سجلاً حاوياً لشهادتها، هل تقدِّمُ الحقيقةَ، إلا في إناءٍ زمنيٍّ
ذائبٍ، لا يلبث حتى يتحلّل في تيار الشهود؟. وحين يُظنّ أنها حضرت، وشهدت، وربما
انقدّت ذهولاً...، يا إلهي، أي برودٍ هذا الذي يملأ عينك التي لا تأخذها سِنَة ولا
نوم؟. كأن الأمر انتهى قبل أن يدرك جسدٌ سوى جسدي أن لدينا ما نريدك أن تَشْهَد.
يا إلهي، ستقضي علينا وساوس الشكّ في كل شيء، وأنت علاجنا الوحيد منها، تعال. انظر
إلينا، ودعنا نعرف أنك تنظر إلينا، لئلا نظن بك الظنون، لئلا نظن أن هذه العين
المعروقة الكبيرة التي تحدّق فينا من هناك ليست عينك. قل لنا، يا إلهي، أنت وعينك
الحمراء الناعسة النابضة العروق ملء السديم، ما الذي شهدتَ حتى تجاسرتَ على تركنا
هكذا؟. يا إلهي، أشهدتَ شيئاً أصلاً؟، أهذه عينك؟، قل سريعاً، وإلا فدعني أخبرك بأن
أمورك لا تمضي على ما يرام. هذه أقاليم جسدي كلها تعقد مجلسي في القمر، وقد أوفى
بنا الأمر إلى صيرورة انشطارية. بعضي النزّاعُ إلى الحروب، وهو الأشدّ تأثراً بك،
لا يعرف، يقول إن العلاج الوحيد لهذه الوساوس أن نرسل الفرسان بالمنجنيق قريباً من
العين الكبيرة هذي ليفقأوها بنت الكلب، جازمين بأنها ليست عينك، ما دامت تنام.
وبعضي الآخر ثوريّ، شغوف بالاختراع والإبداع، نزّاع إلى استكناه الأمور والنبش في
جسد السديم بحنكة المستكشف لا المحارب، يريد منا تجنيد الوساوس في آلة البحث، ويرى
أنها أدوات استكشاف لا تُضاهَى في سبر أوصال المعرفة. ما رأيك؟. ولدى هؤلاء قناعة
قاطعة بأننا نستطيع أن نتقن تصنيع الوساوس، بعد أن حصلوا على نماذج لا بأس بها قطّ
في هذا الشأن، ولا تنقصهم إلا موافقة المجلس الموقّر. وهُم يحاولون رشوة بعضي
العنيف بأننا يمكن حتى أن ننتج نوعاً من الوساوس بمواصفات عسكرية، وعندها نستطيع
أن نعدي بها العين الكبيرة دون أن تدري ما أصابها. (الآن، فقط دعوا العين نائمة.
خير لنا أن نراها وأن ندرسها من أن ترانا، ومن يدري ما الذي ستفعله بنا إذا أخفق فرسان المنجنيق فاستيقظت ورأتنا). بل ويزعمون أنهم يعملون على تطوير نوعٍ نادرٍ من
الوساوس إلى ذوائب حسية قابلة للتزريع في الجسد، حتى إذا ازدهرت أثمرت أعضاء حِسٍّ
خفية تنفصل مكانياً عن كون الجسد، لكنها تبقى متصلة به إدارياً عبر نهر السرّة
الساري معطلاً في جميع الذَّرَارِي، وقد آن الأوان لإيقاظه وإعطائه شغلاً بدل
العطالة هذه التي ألقمته المسمار. ويجزمون بأن هذه الأعضاء المضافة سوف تعمل في
خدمة الجسد، تماماً كما تعمل أعضاء الحسّ المألوفة. هذا قليل مما يُدَبَّر لك في
جسدي. وعلى أية حال، لا تسير الأمور في مصلحتك. ها أنا أخبرك لئلاً تبكي وتقول ما
أخبرني أحد. إلهي، أجِب سريعاً.