1
حول المسطبة ميدان حرب. نهض بالقرب مني الإنسان.
انزلق سلاحه من يده بين قدميّ، فانحنيت. أُطْلِقُ!. أُطْلِقُ!. أُطْلِق!. ثم، لما
لم يقع أحدٌ ممن أصبت، والواحد منهم يفقد فمه بغتةً؛ إذ تطير طلقتي لحاماً على
الشفتين، أدركتُ أنني إنما أُطلق من سلاحي الصوت لا غير. كلنا بالزي ذاته. نطلق
الصوت من الفوهات ونفقد أفواهنا. ورأيتهم ينظرون إليّ كأنني الوحيد الذي يَقْتُل
بلا توقف. يصرخون يشجعونني بأعين متوسِّلة أنْ اضربنا، اضربنا، اضربنا، ماتت،
ماتت، ماتت، أمنا ماتت، حتى رأيتُ في كل عينٍ طبقاتٍ من الشفاه والأضراس تراصفت
تتآكل، وأنا بلا فم، وما زلت أريد أن أفقد من جديدٍ فماً، وعيناي آخذتان في اتساعٍ؛
من قضيبين، بالقرْع والأصداء من جوفيهما، ينتفخان ملءهما بلا حدود.
رميتُ الحديدة الساخنة. اقترَبَ الإنسان.
ممرّ عريض محاط الجانبين بأشجار. انتهت
الحرب. الطرابيز تعبر منذ وقتٍ طويلٍ حاملةً جنوداً عراةً، تختلج رؤوسهم بالمنيّ
تحت العمائم البيضاء. «كتابي» مقبل نحوي طَرِباً يسوق بيديه الاثنتين «حَيَاتِي» و«صوابي»
يضحكان. دعاني «كتابي» إلى جولة الشطرنج النهائية في قاربٍ يبتعد. لكل لاعب رقعة
يلعب فيها وحده، وبين الرقعتين بنتٌ روحية صغيرة تحمل المجريات، ما فاض من النقش
عن راحتيها، نقشناه وظيفةً على صلعتها، وما فاض من صلعتها ابتلعه الشَّعْر؛ موظَّف
اللعبة الجالس خائفاً إلى لغة الشيفرة يقرع النجدةَ في الرأس فتنبح البنتُ مطلقةً
من طيزها قذائف الندم الملتهبة. اقترَب «كتابي» بوجهه متهدجَ الصدر غامزاً لي بعينين
متآمرتين، تهويان بي سريعاً في طبعتين منه لم آلفهما، ولا صلة بينهما، ممتدَّتان
من محجريه إلى بطنه ثعبانين لا ينتهيان، يهمس لي بصوت مبحوح كأنه نبيٌّ أوشك أن
يتوفى:
«كتابي، أحَدُنا سيقرأ الكتاب!».
يتذمَّر الكلب مغلوباً وهو يجرّ الدجاجة
الميتة على لسان «كتابي»، ناظراً إليّ تارةً، ثم إلى يده الممدودة خارج القارب
ممسكةً بالحبل. ننحدرُ سكرانَين برائحة اللعاب، و«كتابي» منطرحٌ وحده وسط الحظيرة،
متألِّقَ النفس عارياً يَبين ويخفى، والحظيرة حوله تومض كاللمبة المترددة، وهو محشور
الكعب بين ردفيه الممتلئين يصرخ ثائراً مفتَّح الأوراق يقلِّبها الهواء فتصفع
الصفحةُ الصفحةَ.
2
رأينا بيتاً يلوح كما الفريسة. تركنا الطرابيز تنغرس، فنزلنا نجرها
كأجداث الزملاء المسلمين وانكببنا بها على الأبواب. تصدى لنا الأولاد بالحيض
واستنبحوا البنت. تلفَّتَ بيضٌ في عريكتنا محرَجاً، وعلى المتاع أكب المسجد الأقصى
وبيت الرموز يرفسان الماء هاذيين من النشوة يأكلان الطرابيز. قال رب الأولاد
فائحاً وعكازه ينكح اليوم:
(عدتم؟).
قالت الربة:
(اضطربوا).
سعينا ركضاً إلى الإنسان بالساحل يخرى ويرتجّ، هتفنا نتباكى:
(الأولاد الكلاب. الربّة الكلبة. الأولاد... الربّة...).
لكنْ.
صلاةٌ نصف غرقانة في مستنقع اللبن الرايب.
وجُمادى الأولى بلا قميص، جالسة بصلبها الرخو على أغنية الحلاقة،
ذاهلةً ترنو إلى شريط البواخر الإسماعيلية الوئيد يخرج من فمها يتثاءب مرسلاً
أنفاسه السوداء في سماء السرداب.
لم يبال بنا الإنسان. هرعنا إلى البئر من ثَم نلوي على شيء، فجن
الأولاد، هبوا صارخين يسبون واصطفوا أمامنا ناظرين إلى أيدينا بأضراس النهم، ثم ما
لبثوا أن طأطأوا بكتيبةٍ من عبيد. انحسرت خصلاتهم الشقراء على وجوههم، وفي صفهم
ميلان موحَّد إلى الجهة اليمنى بأكتاف إلى الأكتاف من عرجةٍ واحدة كأنهم بالقالب.
طوال ونحاف. شعورُ الضأن مهمَلةٌ على الرؤوس، وحُمْرَات ونَمَشٌ على الخدود. وقفوا
بالمآزر الشحيحة، سوداء، شفافة، أحكمت عصمتها حول الخصور. وقفوا في التفات مستغرب
إلينا؛ نحن الأربعة الوافدين على حزبهم. وقفوا على عرجاتهم المتشابهة ممسكين
بالعصيّ العنيفة، والبنت من شجر البرنامج، ترفل أعضاؤها السميكة في دمورية وإيلاف
ورسائل استغاثة نجت من حتف طائرة الركّاب، دنت مني مشيرةً بأصبعها إلى أصوات غزاة
في الجوار قاصدين الفتك لم تكن بائنة قبل إصبع البنت. عادت بيدها فاستأذنتني في
عصاي. اضطربتُ ظناً أنها تستعيرها للحرب وليست عصاي لذلك. رفعَتْها إلى ولد منهم
بلا ميزة فانفصل عن الصف رامياً عكازه قابضاً باليدين على ردفيه بقوة يوسع بينهما
كأنما ليشقّهما في خطفة الرقص. الأولاد كافةً تبعوه، تاركين عصيَّهم بقبضات شديدة
على أصلابهم يتقافزون.
(ما هذا الجنون؟).
فرغ الإنسان من فارغه وجاء يعظ. انتهينا. ولولا أدركني «كتابي»، كنتُ لَمْ إنسان.
تحاملنا ولم أنج لأني متأخراً بلغتُ الباب، والكتاب يصدح من فمي
الخالي بلغة البرنامج الأسود؛ كل شيء على ما يرام، لم يقرأ الكتاب أحد، لم نستغث. عودوا
إلى القاعدة.