Charcoal jar

Thursday, August 17, 2017

القمر المجنون

إلى التجاني يوسف بشير

أمس، أمس البعيد، كانت السماء خلاءً، ولا «يُوشَع» فيها ولا أيّ شيء. وكان «الممكن» مُولعاً بالسير عبر جسر السراط ذهاباً وإياباً بلا تعب فإن هذا يُنشّط دورته الدموية التي يحبّها كثيراً، وكاد أن لا يفعل شيئاً سوى ذلك. حتى أهمّ الاجتماعات كان يَعقِدها هنالك تاركاً بلاط العرش خواءً تصفّر فيه الرياح اللعوب وتلهو بما حملت من الأكياس والأوراق والقشّ وربما بعض مكايد الملأ الأعلى. كانت الأمور على حالها فضفاصة في تلكم الأيام ولا غرو، فإنه قد كان شديد التسامح، وما زال كثير من المواطنين يبكون أيامه أسفاً بدموع الدم. وكم شُوهد في كوكبة من أعضاء روحه الكرام وشركائه في مُلك هذا الأبد يهرولون عبر الجسر، طوراً يضحكون ضحكاتهم اليابسة وطوراً يتقاذفون بما حملوا من الأوراق والدبّاسات والأختام والدوسيهات الفارغة وحتى بالدسبوزابل من أطباق الطعام وقوارير المياه الغازية.
وفي زمنه الخاصّ كان «الممكن» يُطلق العنانَ لمهاراته الاستعراضية راقصاً على إصبع واحدة أو متقافزاً على درابزين السراط مثيراً حسد العابرين المرتجفين من أصحاب النار الذين سرعان ما يتساقطون مثل فَراش محترق إلى أعماق اللّظى تلاحقهم ضحكاته المجلجلة العابثة يُطلقها وراءهم وهو ينظر إليهم منحنياً على ذلك الدرابزين المطّاطيّ المخادع. كان يستمتع حقاً بذلك كله، وكانت الأمور على ما يرام؛ ليس سعيداً حقاً وليس بائساً تماماً، إلى أن رفع رأسه ذات يوم ورأى لوح السماء الخالي.
نظرة واحدة إلى لوح السماء: بعدها ما عاد «الممكن» قادراً بالفعل على أن يفعل أيّ شيء، ولا حتى عبور السراط، دعك من أن يحبّ دورته الدموية. صار ما إن يخطو أول خطوة على جسر السراط حتى تصطكّ رُكبتاه ويرتدّ مرتعداً وعيناه تتابعان نصل السيف اللانهائيّ ممتداً أمامه حيث كان الجسر العريض الممهّد المضياف، الجسر الذي كم كان فارس الفرسان في ساحاته وكم جلجلت ضحكاته وكم جذبت رقصاته قدراً من المشاهدين اللطفاء. صار ما يدنو من جسر السراط إلا وترتعد فرائصه ويوشك أن يخبط الأرض صريعاً، فيُلقي ببعض المعاذير إلى رفاقه بنبرة مهزوزة وينكفئ عائداً ليحبس نفسه في قاعة المرحاض وينتحب. وفي أيام الانفراجات كان يفضّل أن يستقبل ضيوفه واجتماعات الحكومة حول العرش المعاد إليه ماء وجهه أخيراً في قصر النعيم، أو في قاعة من قاعات الملاعب الواسعة حيث يجدّد العناية بدورته الدموية ومرة واحدة يراعي أمور الأبد. وحينما يتذكر بعض رفاقه من الملأ الأعلى مباهج الأيام الخوالي ويقترحون على حضرته أن يذهبوا للتنافس على مَن يكون أسرع في عبور الجسر كان ما أسرع صاحبهم في إلقاء المعاذير يختلقها حالاً، وفي الغالب لا يخبرهم بأنه سيصعد إلى التلال.
نعم، كان يكره الذهاب إلى التلال لكنه تعلّم أن يحبّ ذلك. وصار النظر إلى لوح السماء الباهت هوايته المفضّلة، يستلقِي على تلّة عالية ويظلّ يحدّق فيها متفكراً. شيئاً فشيئاً طوّر بعضاً من مهارات التأمّل. كانت السماء تعجبه هكذا، بحلكتها المسطّحة الخالية، ظلمة ميتة على الدوام ولا شيء على الإطلاق. كان يحسّ بأنها تشبهه وأنها تتجاوب مع محنته. أحبّ السماء على ذلك النحو لبعض الوقت ريثما نقهت جراحه وبارحته لذعة الإحساس بالفشل، الفشل الذي كُلّلت جهوده في إخفائه عن أعضاء روحه الكرام بنجاح أخرس، ولم يتنبّه أحدٌ منهم إلى أنه عازف عن وطء السراط رعباً، طبعاً هذا أمرٌ لا يصدق!، من سيخطر له أن يفكّر في بهتان كهذا!. اغرورقت عيناه تأثّراً حينما انتبه إلى أن هذا أول شيء ينجح فيه من دون أن يتحوّل إلى مهرجان عارم. وكانت السماء مظلمة وخاوية وجميلة أيضاً، «إذَن أنا جميل أيضاً»، هكذا بات أخيراً يردّد في سرّه كلما نظر إليها. تذكّر أنه كان يحبّ في صباه أغنية الفنان الكبير سيد خليفة «يوم، في يوم غريب» فأيقظها من رُفاتها وصار يستمع إليها كأنما طول الأبد.
مع تطوّر مهاراته التأملية واستعادته شيئاً من الإحساس بأنه قادر على أن يفعل شيئاً ما لكنه لا يعرف ما هو بعد؛ لم يعد معجباً بحال السماء كثيراً فأحسّ بالخجل وأنّب نفسه المتوانية قائلاً: «أيّ أنانيّ أنا!، كلّ هذا الظلام!، كلّ هذا اللاشيء!، ما جدوى دمي الكثير إذا لم أصنع منه شيئاً يسرّ الناظرين ويجبر كَسْر الخاطرين؟». فكّر في الأمر قليلاً ثم استعان ببعض الأصدقاء من الحادبين على الصالح العام، وأخيراً قرّ قراره على أمر مصيريّ سوف يغير مسار الكون. إنه لا يمزح في مثل هذه الأمور.
بعون حاشيته المخلصة، أعضاء روحه الكرام والتجّار والسماسرة والموظّفين وأفراد الإدارات الأمنية والعلماء وأهل الحلّ والعَقد على وجه الخصوص وغيرهم من خيرة رجالات الأبد الذين يحسنون المكايد، مضى في تنفيذ خطته إلى أن اكتملت عملياً وبقيت الخطوة الإجرائية الأخيرة وهي الإعلان والحصول حتماً على موافقة الملأ الأعلى. ولما كانت حاشيته تمثل نسبة ضئيلة من مجمل أفراد الملأ الأعلى فإنه قد اتخذ احتياطاته الأمنية كافةً تحسّباً لأيّ عصيان لمشيئته أو التصويت خصماً عليها أو شيء من هذا القبيل. نعم، هنا أيضاً يفاجئونك بالعفانات!.
دعا جميع أعضاء الملأ الأعلى إلى جلسة برلمانية مصيرية لا تحتمل الغياب والأعذار، فاجتمعوا إليه مُمنّين أنفسهم بعشاء جيد على الأقل، وربما مُغلّف مكافآت حسن التعبئة. وبكلّ ثبات أعلن التفاصيل عليهم في خطاب شديد اللهجة؛ نستمع إليه من تسجيلات إذاعة إسرافيل ثم نعود إلى سرد بقية الأحداث:
«أيها الملأ الأعلى، هذا يومٌ جميل، وبعد: قد هدَاني تدبيري أخيراً إلى خطة أبدية ستريحكم من جميع مهماتكم العليا، نعم. لكن قبل أن أسعدكم بها دعوني أقول لكم أولاً حذار ثم حذار من إنفاق الأبد في الفارغة!. ليجد كلّ منكم أمراً مفيداً يفعله بنفسه إلى أن نخلص من هذا الأبد ونشوف غيره. تعلّموا الرقص مثلاً، تعلّموا المسرح، تعلّموا الفلسفة، تعلّموا القراءة والكتابة، تعلّموا الرسم، تعلّموا التصوير، تعلّموا الموسيقى، تعلّموا ما استطعتم من اللغات، تعلّموا الكيمياء والفيزياء والأحياء. يمكن عمل كثير من الأمور اللذيذة في نصف أبدٍ صغيرٍ كهذا بلا عناء. كل شيء إلا الفارغة. المهم، الخطة كالآتي: النكاح السّاري في جميع الذّراري... هههه شكراً شكراً، شعار جميل مش؟، هههه، كلّكم ذوق، كل إبداعاتي من أجلكم أيها الملأ الجميل، شكراً شكراً، طيّب بطِّلوا التصفيق وخَلّونا نقول المهم!. الحقيقة... أهلاً أهلاً أيها السفير... طيب، اقتراح جميل... يا ناس اللوح المحفوظ، السفير «جبريل» يقترح أن نطبع الشعار على الفنايل والكراسات والكتب والبوسترات إلى آخره، يُنفّذ حالاً، طيب. الحقيقة... نعم؟، جميل... كل الاقتراحات تُسلّم إلى إدارة اللوح المحفوظ يا جماعة، سننظر فيها بعد الجلسة، هدوء، هدوء، حسناً. الحقيقة إني لم أكن راضياً عن حال السماء، بكل أمانة يعني، يعني من زمان شديد. وياما قلت لنفسي يا ولد يا تفتيحة!، إنت محترم وخطير وكل شيء لكن تنقصك أهم حاجة: الذرّية الصالحة!. لا تعرفون ما هي الذرّية الصالحة؟، حسناً سأخبركم. بكل صراحة... كفى ضجيجاً أيها الملأ الأعلى، سأخبركم، احفظوا النظام لو سمحتم، كفا... يااا... يا ناس النظام العام!، ياااا «ربّنا» إنت!، يا محترم!، يا سبحانه وتعالى، كمّلت الفول المدمّس كله، ياخ قوم شوف شغلك سَكّت الأمة دي عشان نعرف نتكلّم...، طيب، شكراً ليك يا أصلي. بكل صراحة أنا لا أعرف شيئاً كثيراً عن الذرّية الصالحة، لكن أعرف كيف نحصل عليها، وكيف نجعلها تعمل من أجلنا جميعاً من دون أن تُكلّف أحداً منكم ولا مليم، تمام؟. في سبيل الصالح العام، أعلن أمامكم الآن، بكل تواضع، أيها الملأ الأعلى، إني قد نذرتُ دمي تبرّعاً لهذه المهمة التي سترفع عن كاهلنا سائر الأعباء، نعم. شكراً شكراً، هذا أقل مما تستحقون، أنتم الخير كله. حسناً، دعوني أقول لكم لماذا دمي أنا على وجه الخصوص: بعد إجراء كثير من الفحوصات على عيّنات مختلفة من فصائل دمي العديدة، في «معامل الأعراف» بالمناسبة لئلا نسمع تشكيكاً في النتائج وهي معامل مشهود لها بالحياد والسمعة الطيبة كما تعلمون، تبيّن أن دمي يتفرّد بخاصية انتشار قادرة على اختراق أعتى أجهزة المناعة بمعدلات جرثومية فائقة السرعة والكفاءة، وحرام أن لا نستفيد من هذه النعمة بما يعود علينا جميعاً بالخير ويُعتقنا من أعباء الوظيفة!. كان المرحوم أبي يحب دائماً أن يقول: «إذا كان لا بدّ لنا من الكدح، فلنكدح من أجل تحقيق أحلامنا الحقيقية». اليوم سنثبت معاً أن هذه المقولة صحيحة مية في المية. وأحلامنا يا سادتي بسيطة ومشروعة، منا من يريد أن يقرأ رواية الخيميائي ثم يكتب روايات، منا من يريد أن يزرع حديقة ورد، منا من يريد أن يربي نحلاً، منا من يريد أن يكسر الحصار المعنوي على ساحل النار ويتزوّج إحدى جميلات العصور خصوصاً من مدينة الدرك الأسفل، منا من يريد رعاية البراعم والناشئين، منا من يريد أن يزور السودان. كل هذه الأحلام الثورية العظيمة، أحلام النخبة الفاضلة، تتبدّد على مذبح الشغل وواجبات الضيافة في المكاتب. وكلنا نعلم إننا الآن في منتصف الأبد، أي «ذوَى من زهرة العمر نصفها» كما جاء في لوح الأناشيد، فهل يسرّكم أيها الملأ الأعلى أن نُنفق النصف الباقي، وهو الأجمل للمعلومية، أقول هل يسرّكم أن ننفق النصف الباقي في مطاردة الأرزاق، والسيدة ميكاييل اليوم نائمة، وغداً مسافرة، وبعده عرس ابنتها، وثلاثة أشهر خزائنها فارغة؟. إن هذا ضَيمٌ أيها السادة الكرام، ضَيمٌ ما بعده ضَيم!. وعلى هذه الحال سينتهي بكم الأبد إذا لم نفعل شيئاً، فهل هذا ما تريدون؟، هل هذا ما تريدون؟. كما قلت لكم، كما قلت لكم، الأمر بأيدينا، والنكاح السّاري في جميع الذراري هو الحل، فهل أنتم موافقون؟... هل أنتم موافقون؟... هل أنتم موافقون؟. عظيم عظيم عظيم، الآن أنتم تنظرون إلى مستقبلكم بعين مشرقة، أتعرفون ما هي هذه العين المشرقة؟، أتريدون أن تعرفوا ما هي هذه العين المشرقة؟، من دمي أنا، «الممكن»، من دمي صنعتها في سبيل رفاهيتكم أيها الملأ الأعلى، أقدم لكم... «يُوووشَع»: مفففخرة علوم الإشراق، جوووهرة الأبد، عين الضياء المشرقة، التي ستعيش من دمي، وتمزجه بدماء الفجر، كي تنجب كل شهر ولداً صالحاً يأخذ عن عاتقنا عبء العمل، هذه هي الذرّية الصالحة!، اننننطلقوا أيها السادة الأحرار إلى أحلامكم الثورية!».
ليس هذا هو ما جرى بالضبط للأسف، أعني لحسن الحظ. نعم نُصِبَت «يُوشَع» في قلب السماء المتجانسة المظلمة فأشعلت فيها حياةً لا حدود لآلائها بل مضت أبعد مما ظن أي أحد. وبالطبع أنجزت أيضاً ما صنعها «الممكن» من أجله وظلت تلد كل شهر ولداً من دماء الفجر الخالصة. لبعض الوقت لم نعلم كيف استطاعت أن تخلّص أولادها من دماء «الممكن»، لكنها قد فعلتها يقيناً، وربما لهذا السبب لم ينتهضوا بأي عمل من أعمال الملأ الأعلى. نعم، هذا بعض ما جرى. لم يفعل أبناء «يُوشَع» شيئاً وإنما ظلوا يتبخترون بأنوارهم في بستان السماء الذي فاض بهجة ونشاطاً وصوراً وكلاماً بفضل أمّهم، منذا سيجرؤ على زجرهم؟. وفي المقابل ما عاد الملأ الأعلى يفعلون ولا شيئاً واحداً من أعمالهم التي تنصَبّ في خدمة الصالح العام وإنما صار التنافس على السلطة شغلهم الشاغل. وتفشّت البطَالة في عالم الأبد كأسوأ ما يكون، واستشرَت الجريمة والفساد، وتفرّغت أعداد غفيرة من عبيد الشغل المتذمّرين لتلك الأحلام الثورية من دون طائل. وقيل إن ضغائن الإخفاق قد أودت ببعضهم إلى حدّ الضياع في صحراء الحشرات آكلة المداد.
أما «الممكن» فإنه قد اكتسب شعبية كبيرة بفضل كل ما جرى، وسرعان ما اعتزل العمل السياسي تاركاً العرش نهباً بين أيدي شراذم الملأ الطامعة فيه من زمان. قال إنه يريد أن يلتفت إلى مواهبه الفنّية الدفينة بعد أن تم له التوفيق وحقّق كل طموحاته السياسية، «أنا أصلاً فنّان!»، هكذا صار يردّد كلما وجد الفرصة. بالفعل، بعد أسبوعين من العمل التلفوني الدؤوب والزيارات المفاجئة إلى أستوديوهات الإنتاج الإعلامي بسوق الصّوَر، صار نجماً شهيراً في عالم الفنّ، أشهر مما كان في معترك العمل السياسي، وبات يُنفق جُلّ وقته في أداء الدعايات التلفزيونية ذات الطابع الرياضي لقاء أموال باهظة. ووسط شواغله يطلّ كلّ كمْ يوم على مصنعه الصغير لطباعة ماركته المسجّلة «النكاح الساري في جميع الذّراري» على كل شيء. طبعاً لن يتوانى إذا استطاع أن يطبعها على جميع الذّراري، وبأسعار مخفّضة لهدايا عيد الميلاد.
وكم بدا مغتبطاً بانبعاث مواهبه الدفينة وازدهار صفحته على جريدة الأحكام الرقمية، دون أن يفكر لحظةً على الأرجح في أن الأمور قد جرت بعيداً جداً عن توقّعاته، حتى أفضت إلى رفع الحصار المعنويّ تماماً عن ساحل النار، وعربدت مهرجانات الهجائن، وانطلقت الألعاب النارية في سماء الجنة، وأُقيمت عشرات الجسور بين الساحلين اللذَين اختصما نصف أبدٍ كامل، وهُجر جسر السراط الغدّار ونُهبَت معادنه ولدائنه النادرة النظير وبيعت بالأوقية في سوق التلسكوب، واختلطت دماء الجانبين منعشةً علوم الوراثة بالأعاجيب من سلالات ما خال أحدٌ أنها ممكنة.
وبدا أن انعقاد أواصر السلام بين الساحلين كان يقتضي أقل كثيراً مما توقّع الجميع: أن يكفّ الملأ الأعلى عن ما يفعلون، فقط!، ليجيء السلام ذليلاً يقول خذوني: أنا آسف، لم أسمع بكم من قبل. كان سلاماً باطلاً على أية حال كما لو كان يهزأ من مزاعم «الممكن»، والأحرى أن نسمّيه وئاماً، لكنه جلب إلينا كثيراً من الخيرات وسط غثاء النزاعات السياسية. ولم تقتصر خيراته على سواحلنا وإنما تخطى عالمنا بصَمّته إلى أقصى مما تصوّرنا. وصارت خطوط الشروع الحرّ تجلب من بوابات هوجرين الحدودية كائنات أشدّ غرابة من كل ما شطحت به أخيلة القصّاصين وأهل الرؤى والوساوس.
كان أغرب ما رأينا جنساً هجيناً من كتاب وطائر. كل ما نراه الآن من أجناس الكتب الطيور ما كان موجوداً ههنا قبل تلك الأحداث وإنما منذها بدأت بوادره تتوافد شيئاً فشيئاً وراحت تتزاوج في ما بينها، وما زالت خطوط الشروع الحر تجلب كل يوم مزيداً. كانت الكتب الأولى شديدة التوحّش مرتابة وضارية في بدء مجيئها كما لو إنها قد فوجئت بوصولها إلى مكان غير الذي خالت إنها ذاهبة إليه. وكانت تحلّق دائبة في سماء عالمنا متحيّنة سوانح الغفلات لتنقضّ على من يكون في متناولها وتنكحه أو تفترسه بصَمّته أو تمتصّ دمه وتتركه يابساً كاللحاء. دام هذا شأنها إلى أن أصبح البعض يفضّلون نكاحها على كل نكاح ويُفيضون في مدحه، وكانوا هم ذاتهم يُؤكلون ويُشربون أحياناً. ونتاجاً لتكاثرها مع أهل أقاليمنا فضلاً عن تكاثرها مع بعضها البعض لم يمض وقت طويل حتى عجّت بها طرقات الأبد، ولا تسَل عن المدارس والأسواق والسواحل بل والمنازل، وصارت سلالاتها فرعاً أصيلاً في أقاليم هذا الأبد. يجزم البعض أنها أفضل ما جرى لعالمنا منذ نموّ سدرة المنتهى في بادية هوجرين.
بعد دهر داهر من التناحرات الداخلية والفساد وأعمال النهب المسلح، داخل الجنة منها وفيها، اعتزلت السيدة «ميكاييل» العمل في خزانة الأرزاق ورحلت بحاشيتها العظيمة إلى أين لا أحد يدري. غريب حقاً أن تختفي «ميكاييل» هكذا بعد أن ملأت عالم الأبد لغطاً وانتحاراتٍ من مظالمها ونحيباً أمام شبابيك المحاسبين وعند أفواه الطرقات بعد نفاد الرزق خلال أقل من يوم. أما وأنها قد نُسيت بسرعة قياسية فلا غرابة في ذلك. الحقّ إن الناس قد شُغلوا أيامها بالنجم العسكريّ الصاعد الذي كان مدفوناً خلال عهد «الممكن» في إدارة النظام العام المحاطة بالشّبُهات والكآبة والظلام وأشباح المقتولين صبراً. كانوا يسمّونه «ربّنا» لكنه اختار لنفسه اسماً برّاقاً بعد أن سطع نجمه بفضل سيطرته على مجموعة كبيرة من سفهاء الكتائب المسلّحة المنتشرين على كل ناصية في عالم الأبد، سَمّى نفسه «الميحاد». وصار أتباعه لا يبدأون حديثاً إلا بعد أن يقولوا متهدّجين: «بسم الواحد الميحاد الوحيد...»، أما هم فإنهم قد اتخذوا لأنفسهم اسماً بدَورهم «عِبَاد الميحاد». وكلما صاح بهم صاحبهم يستثيرهم في المخاطبات الميدانية قبل كل غارَة: «عباد الميحاد لا خوف عليهم ولا هم يحزنون»، كنت تراهم يهلّلون ويبكون ويضحكون ويسجدون حتى تنزلق الكلاشات زاعقةً من على أكتافهم، ثم ينهضون بنشوة عارمة مندفعين كسيل من الجواميس الهائجة يَسحلون ويَنكحون ويَذبحون ويُحرقون ويُغرقون ويَسرقون ويَرحلون عاراً باقياً على وجه هذا الأبد. لا وصف يوفي تلكم الأيام حقّ شقائها. على هذه الوتيرة لم يَطل الأمر بالميحاد حتى قضى على أغلب طوائف الملأ الأعلى المتناحرة في تصفيات جماعية علنية، واستوى على العرش.
آآه العرش! وما أدراك ما العرش!. كان «الميحاد» شديد الاهتمام بعرشه ويخشى عليه من لمسة النسيم الحانية، فما بالك أن يهتزّ مرةً في ليلة 14 من كل شهر؟. نعم، هذا هو اللغز العظيم الذي أعجز أرتالاً من العلماء عهداً طويلاً ووقف أمامه أساطين السحر والأوفاق والتنجيم والفلكيون وأهل الصناعات الخفية يضربون أخماساً في أسداس دون أن يعرفوا ما العلة. ولو إنها كانت اهتزازة يسيرة يستقرّ العرش بعدها لمَا كان الأمر مُقلقاً بهذا القدر، لكنّ ذاك العرش المتين يهتزّ اهتزازةً تنشقّ من بأسها أطواد القصور الشامخة وتذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى. لا بدّ إنه شيء قديرٌ وعظيم الشأن هذا الذي استطاع أن يزلزل عرش الميحاد. وليتها كانت مرة واحدة وخلاص، إنها مرة كل شهر، ونصف أبدٍ ليس بالوقت القصير إذا كان لهذا الشيء أن يستمرّ. باستثناء هذا لم يكن ثمة ما يُقلق «الميحاد» وعباده خلال قرون طويلة تالية مُذ دالت له دولة الأبد بساحليها، دونما أحداث تستحقّ الذكر، سوى أن العرش قد ظلّ يهتزّ ويتشقّق، ليلة 14 بالضبط من كل شهر، ويعاد ترميمه بتكاليف أقلها عسراً مواد البناء.
مضت القرون، وحالياً تغيّرت أسماء كثيرة وتغيّرت الخرائط وتغيّرت المقامات، وإذا سمعتَ اليوم مَن يَذكر الملأ الأعلى، بإجلال طبعاً، فاعلم أنه يعني «يُوشَع» وأولادها لا غيرهم. كذلك ما عاد الأبد هو الأبد، وما عاد أحدٌ يعرف إن كانت له حقاً بداية ونهاية، بعد أن اندثرت أعمال المؤرّخين القدماء في إطار حملة «الميحاد» الشعواء طويلة الأمد لمحو آثار سابقيه. وصارت تتردّد أحياناً نبوءة شعبية فضفاضة عن عصر إبادة جماعية شاملة يسمّونه «يوم القيامة»، وبين بشير ونذير يُثير البُخلاء مرةً فالأخرى أمر النهاية هذا بتنويعاتٍ لا حصر لها ولا يَجمع بينها سوى غليظ التشديد على أن تلك الإبادة الجماعية الشاملة سوف تكون من تدبيرِ مجرمٍ واحد لم يتفق اثنان على اسم واحد له. حقاً تغيّرت الأمور كثيراً. وظللنا، نحن أهل الأعراف، حتى وقت قريب نسمع بين حين وآخر أنباء متفرّقة عن نشوب الأعمال المسلّحة بين النار والجنة من جديد دون أن تفسد حالة الوئام العامة.
أخيراً حملت إلينا رياح الأنباء ما حضّ الجميع على شراء كميات كبيرة من التموينات ومَلء الصهاريج والبراميل والحِلَل وحتى الكبابي بالماء تحسّباً لما سيأتي؛ قد أكدت تقارير المراسلين مذعورةً أن «الميحاد» يستعدّ تحت تحت لتنفيذ خطة القيامة النبوئية تحت اسم «عملية اليوم الآخر»، نعم، سرّي للغاية. ونقل المراسلون عن مجهولين من «عباد الميحاد» قولهم إنّ لدى «الميحاد» كتاباً يرصد تاريخ هذا الأبد منذ بدايته إلى نهايته، وإن الكتاب يحوي شواهد واضحة وعلامات كبرى وصغرى على إننا نعيش في آخر الزمان وإن هذه الأيام هي بالضبط ميقات النهاية.
لكن هذا كلّه لم يُفزع الناس بقدر شائعةٍ قوية سرَت من أقاصي شغاف النار هذه المرّة، وأن تسري شائعة من ساحل النار فإن هذا أمر ذو مغزى كبير يؤكد مصداقية الشائعة. وإن لم نَدرِ يوماً مَن الذين يُشِيعونها على وجه التحديد؛ إلا أن شائعات النار ما سرَت من قبل إلا وكانت حقاً. تزعم الشائعة إن للميحاد جنوداً جواسيس يعملون في عوالم الأبد التالي ولا أحد يراهم. نعم، في عوالم الأبد التالي، كما قالت الشائعة، ولا أحد يراهم. إنهم يعملون في توائم يُدعى كلّ توأمين منهم «رقيب وعتيد»، ويعيشون مُتخَفّين على أكتاف الناس. وقالت الشائعة إن توأماً من جواسيس الأبد الطّفيليين أولئك هو الذي أتحف «الميحاد» بـ«كتاب يوم الساعة»، هذا هو اسم الكتاب النبوئيّ، وهو على حدّ قول الشائعة يحقق أعلى مبيعات الكتب في الأبد التالي بلا منازع. على أية حال ما زلنا ننتظر وقلوبنا في أيدينا إلى أن تبيّنَت لنا وللميحاد أمور أخرى جعلتنا نلتفت مرةً أخرى إلى «يُوشَع» وأولادها في غيوب الأعالي، باهتمام أكبر هذه المرة.
هنا أيضاً تغيّرت بعض الأمور أخيراً. علمنا سلفاً أن «أولاد يُوشَع» قد أبطلوا في الماضي أفاعيل الملأ الهالكين، وعلمنا أيضاً أن انصراف أولئك الأولاد عن فعل ما كان متوقعاً منهم قد أفضى إلى كل ما جرى بعد ذلك في عالم الأبد بخيره وبشرّه. ما لم نعلمه ولم يعلمه «الميحاد» إلا أخيراً أنهم منذ مولد أوّلهم كانوا يفعلون شيئاً آخر بدلاً عن الذي أبطلوه.
إلى غاية أمس القريب هذا ظلت «يُوشَع» تلد ولداً جديداً كل شهر من دماء الفجر النقية مثلما اعتدنا. ثم هل تطلع «يُوشَع» الصبورة إلا لترى ولدها؟، إنها في الواقع لا تراه أبداً!. وكم عصفت بها شهوتها إليه وأن تُفعم وجهها في شذى شَعره وأن تملّي عينيها في دم الفجر النقيّ إذ يسري ملء طلعته، لكنّ الصبيّ شديد الخَفر، إنه ما إن يراها تطلّ يسوقها عنفوان الشهوة حتى يتوارى سريعاً خلف الستائر، وربما أبصرت طرفاً مرتجفاً من قوس ردفه الأزرق أو كعب قدمه ينحسر سريعاً، ثم لا يطلع إلا إذ تغيب. وهكذا يتعاقبان. لا هي ينبغي لها أن تدركه ولا الليل سابق النهار. بل ولا يطلع الصبيّ الزاهي ناثراً شَعره الفضيّ النضير على لوح السماء الحالك إلا وينسى أمَّه. وهي أيضاً كلما طلعت ضحىً مرسلةً آلاء نورها لا تعود تذكر شيئاً عن الولد الذي توارى خفراً خلف الستائر.
مُولعاً بوعود جسده ووعود الحياة الجديدة يرمق اليافع آفاق السماء المتجدّدة البهيجة حتى إذا شبّ عن الطوق عَلا ممتطياً أواصر الشهر يبحث. الجميع يبحثون ويبحثون عن أشياء كثيرة، لكن «فتى يُوشَع» لا يبحث إلا عن العاشق. نعم، إنه يبحث عن عاشق تجاهره كلّ خلية في كيانه وفي جسده الحيّ المنير بأنه ينتظر مجيئه هناك في مقام البدر ليلة 14. وكان «فتى يُوشَع» دائماً يجدُ العاشق ينتظر، تماماً كما جاهرته خلاياه، في ليلة 14. وهناك، يا لهول هناك من هول اللقاء، يندفع العاشقان فيضاً تلقاء فيض، بَحران يلتقيان ليس بينهما بينٌ فيمتزجان، وعندها قيل ماذا؟: يهتزّ عرش «الميحاد»!.
قيل إن العرش يهتزّ طرباً ونشوةً ويهبّ يرقص حتى يخرّ صريعاً وليس يبالي إذا ما هو استحال تراباً فإنه قد رأى وكفى. وقيل إنما هو ينصعق!. ينصعقُ العرش غيرةً فيهتزّ فينصدع وهو يرى ملوكاً لا يبالون به، عرشهم الحياة وتاجهم الكوثر. لكن، طرباً كان اهتزازه أم غيرةً، فإن الأمرين سواء: إنه العشق!. إن العشق لا غيره هو الذي يهزّ عرش «الميحاد». والعاشقان يمضيان هَوَادَى فيقضيان معاً نصف شهرٍ من عسلٍ لا ينقضي ثم يصطحبان ومن جسد الوصال يرتشفان بلا منتهى.
أما «يُوشَع» الكريمة مِن دون مَنّ فإنها مشغولة، إنها تلد الولد الجديد من دماء الفجر ولا تعرف أنها قد وَلدت من قبل أولاداً بلا حصر يهزّون في مزاج العشق عرش «الميحاد» ويمتطون مع عشّاقهم جياد الحياة الحقّ إلى وصال الكوثر. على هذه الحال دام أمر المنوال، لكلّ ولد من أولاد يُوشَع مقدارُ عاشقٍ في صدر المنازل وقلب الحيّ بقلب الحيّ عالِم.
وكذا، حتى بعد أن علم «الميحاد» السبب، لم يستطع أن يفعل شيئاً لتحصين عرشه من الاهتزاز. نشَر الجنود في كل مكانٍ بحثاً عن عاشق الولد الجديد، ففاضت بالعشّاق سجونه ومحارقه ومشانقه وصلبانه ومقاصله ومقابره الجماعية. قَتل منهم من استطاع، شرّد منهم من استطاع وما استطاع، أخرَس منهم من استطاع جنوناً، أنطَق منهم من استطاع جنوناً، أرغم منهم من استطاع إرغامهم على فعل ما هو متوقّع منهم، وأبكاهم جميعاً. حتى إذا ظنّ أنه قد أبادهم عن آخرهم آنَت إلى كتاب الحياة ليلة 14 وامتزج العاشقان وماذا؟: اهتزّ عرش «الميحاد»!. ليلة 14 وراء ليلة 14. لم يستطع «الميحاد» أن يفعل شيئاً. أرسل الجنود إلى «يُوشَع» كي يطفئوها فانطفأوا في نورها وجمالها قبل أن يصلوا إلى حرماتها بألف برزخ وولدت ولداً جديداً يفوز بعاشقه.
بحثوا عن «الممكن» في كل مكان. بعد عناء وجدوه في سديم الفاشر، كهلاً متصابياً لا يزال، متأبطاً ذراع صبيّ مرح من صبيان الكُوانْتيب يحاول أن يشرح له بعض مبادئ الاحتمالات، و«الممكن» يصغي بأذنيه المتعبتين ويحاول صادقاً أن يطرد من ذهنه مجلّدات الجبر التي ربضت عليه دهوراً لعله يفهم. وحينما قالوا له لاهثين: «حسبك أيها العربيد!، إنّ يُوشَع تتغذّى من دمك!، يجب أن تقفل البَلِف حالاً!»، نظر إليهم مُقطّباً حاجبيه يريد أن يتذكّر مَن هؤلاء الهوان وماذا يقولون ثم أطلق ضحكته العابثة القديمة ذاتها وأخذ يتقافز راقصاً بخفة ورشاقة كما كان يفعل على جسر السراط، و«عباد الميحاد» يتلفّتون يخشون أن تتخطّفهم عُقبان الحرير الطائفة فوقهم مترقبة. أخيراً توقف «الممكن» لاهثاً واستند إلى ركبتيه، وإذ أدرك أنفاسه استوى يرمقهم بإشفاق قائلاً: «صَدِئ البَلِف أيّها الحمقى وسَرق أجدادكم الأنابيب!، قد أقفلَته الفتاة بنفسها منذ قرون، قال تتغذّى من دمك!، ما كانت يُوشَع في حاجة إلى دمي قَطّ!، ولعلها تقيّأت البراميل التي عبّأناها بها من قبل حتى أن تُنجب طفلها الأول!». لم يستطع «الميحاد» أن يفعل شيئاً. أرغى وأزبد محترقاً من الغضب، بكى حرقةً واندحاراً وهو يعلم أن عرشه سيهتزّ الليلة أيضاً وهو يعلم من سيهزّه وهو يعلم أنه لا يطيق له مساساً.
ظلّ لقاء العاشقين يحدث كل ليلة 14 ويمتزجان ويهتزّ عرش «الميحاد» ويمضيان إلى الكوثر، إلى أن جرى ما ليس في حسبان أيّ أحد، لا في نبوءة لا في تحليل استباقيّ: وَلدت «يُوشَع» في شهر من ذات الشهور ولداً مثل كل ولد، وأدرك أيضاً منذ اليفاع أن له عاشقاً في ذاك المقام، فما هي إلا منازل حتى شبّ مشتاقاً وأرسل نوره بدراً من دم الفجر يضيء السماء لعلّ عاشقه يجيب. نعم نعم، هو ذا يجيب، إن العاشق يدنو، إنه يدنو، لكن!، يا ويلتاه!، إنه يتخبّط واهناً في الطريق!. ومذ رمى صوب عاشقه أول خصلة من شعره السهران اختلج فؤاد الفتى وهو يرى أن عاشقه قد صار جَبلاً، وأغلالٌ وأصفادٌ من الذّهب الأفعوان تعضّ على قدميه الحبيبتين وتعتقل اليدين إلى تقاسيم القامة الغضّة فتروح اليدان تغنّيان له من هناك صليل العاشق الحيّ ولا تملكان حراكاً.
تمّ ما ليس له نقصان: إنّ أهل العاشق قومٌ من «عباد الميحاد» جنّ جنونهم لمّا علموا إن ولدهم يعشق ولداً لا بنتاً، هدّدوه بالذبح فقال إني أعشقه. قيل ظنّوا أن قلبه الخافق يُشرَى ويُباع فقال إني أعشقه، قيل في بئر السُّدى حبسوه فقال إني أعشقه، صبّوا عليه قدوراً من الذهب الذائب علّهم يخرسون جوارحه فقال إني أعشقه، أعشقه، أعشقه، ثم قام بالأرض جبلاً، والذهبُ المجَلّد في لحمه يوغل في عروقه، ناهداً صوب الأعالي إلى وصال العاشق.
ترنّحت المنازل في قوس السماء لهاثاً وهي تنتظر وصال العاشقَين نافدة الصبر. وبينما هو في وسط الطريق يُغنّي راقصاً على صليل الأغلال دانياً من هلال الفتى إذ هطل على ذلك الجبل الحيّ مطر النصال، مطر خائن من سهام ضاغنة، حَلّ أزْرَ النور الرهيف منهمراً من أقواس الجنود. وناح الكون يا ويلاه، ناح نواح الحمام، إذ انحدرت خيول النار بشهر العسل بعيداً إلى خواتيمه، و«فتى يُوشَع» يَنحُل واهناً لا يكفّ يرسل أنوار الرحيق يُبلسِم ذاك الحرير المتهادي بعيداً من حياة عاشقه وحياته إلى غاية الوصال الخالية؛ حيث انطفأت خيول النار وراء منحدرات الأبد.
ثُمّ ماذا بعد؟. على رأسه إكليل الظلال عاد الفتى مفتوناً إلى ناشئة المنازل يطلب أمّاً لا يسعه أن يراها ولا يسعها أن تراه. منذئذ و«يُوشَع» لا تلد، إنما ترسل أسراباً من السلال ملأى بدماء الفجر إلى ولدها الواحد المترنّح مذهولاً في طريق السماء. وكل شهرٍ يطلع القمر المجنون، الفتى ذاته، الفتى مجنون الأمل، يطلع مرة أخرى مطلع البدر ويحه، وبين يديه تروح كواكب العشاق وتغدو نجوم العشاق، لكنه لا يرى، إنه لا يرى إلا ذلك الجبل، ذلك العاشق الصنديد المطل عليه من تحت تلال الغيوم، ذلك العاشق الذي يرنو إليه بعين الفؤاد الذِّئب ويشدو بلوعات الصخور يناديه بلا ونى إلى فجر الحياة الحقّ.
كذا جُنّ فتى «يُوشَع» الأخير، وكذا «يُوشَع» جُنَّت، من فرط الحياة على جسديهما النيّرين، والحياة كذا من فرطها جُنّت: واهتزّ عرش «الميحاد». وقيل كذا ما عاد في كنانة «الميحاد» سوى أن يشمّر أستار المداد عن القيامة، قيامة الإيلاف، «مش كدا يا التجاني؟».

Sunday, March 5, 2017

Miasma: غَمَام

رندا محجوب

في لحظةِ كلنا يدور، في لحظة ذلك النور، في تلك الغيبوبة الأم لأول مرة من رأسها ينقط الخجل والحبور، في ذلك التعضّي السريع الملتاث ب...

Thursday, December 1, 2016

سوف

إني أهيم على وجهه كل يوم،
قواعد بيته قائمة حيثما بتّ.

كلما حضرتُ أحسّ بي وحاول أن يراني،
وكلما حاول ما رأى.
تعبتُ من هذا.

غداً: لن أكون هنا،
وسوف يراني من دون أن أحضر، 
أو حتى يحاول.
تعبتُ من هذا.

حضوري هنا في هذه اللحظة: جدوى أكيدة.
غداً: كلانا نحاول أن أحضر.

Tuesday, June 14, 2016

آخِر الأطياف السّعيدة

في ساعة التّجوال، يتأمّل.

لن تطلب الرُّكبة العاشقة أن يُوضع خاطفها في أي حسبان،
وهي من دونه لا تذهب،
وهُما يعلمان.
لذا دفنَا يدَ التطوير في مسردٍ هارب.

الخوف آوَته موسيقى مجاورة،
ليس بما فيه طمأنينته الكافية؛
لأنّ أوّل ذاك الجمال قد كان يدنو سريعاً،
وحالَما أوسَعَها ركلاً أفاقت مُقهقهةً،
وفتّحت نفسَها.

البئر ضيفة الإعصار اليوم،
يأكلان بصَلةً حمراء،
على الهواء مباشرة،
لرَفْع الكُلفة.

بأمر الجنون،
تبيع الياقةُ هذا اليومَ إلى بعض الرّعاة ناقصاً كتفاً وأصيلاً.
من عطفٍ على غنيمتها تعود إلى حالة البيت باكرة،
تعتزلها طير الباب،
تحرَد الياقة زادها.
في حرج شديد تتلفّت
بينما هي تحزم بعض المتاع.

آخِر الأطياف السّعيدة في ساعة التجوال؛
يده أخفقت في بلوغ الإشراق مرّتين فظنّها فرحانة.
عبيده في مغرب هالك،
على أبواب مغرب هالك،
يعرجون،
ومعهم أصنامه.
الجميع أمام عينيه يعرجون.
يُسمِّي ظلَّه قُوتاً ممكناً ليَدَين جائعتين توارَتا في حلقة مطويّة،
تَغرَق التعاليم في كَسْر الواقع.

إنّه مُستعدّ لقتل الزّيادة،
فهل عنده مقياس؟
أم جزافاً يُخمّن أنّ الباقي سوف يفي بالضّرورة؟.


لولا صدوره الموسميّ.

Saturday, April 30, 2016

غريزة

يا للطّيور الطّيور!
يا للسّماء المُعْدِيَة!
تَطّايَرُ الأشياءُ فيها
خاليةَ البالِ كالهرِّ
وما عندها مانع!.

نتعالى، نقول لها:
يا معادنُ هبّي!
فيرقص في أعناقنا موتٌ صقيلٌ
كأنّما هو عيد العقوق.

نتعالى، نقول:
كتبناكِ إذاً يا صورةَ الممكن،
هيّا إلى حفلة العين!
هيّا نَسْقيكِ لوحَ التّراب
غسَلناه لأجلكِ بالزّوايا مباركةً
وملأنا بمِحَايَته جِرَارَ النّظر!
فإذا ما شَربَتْ رِزْقَنا كلَّه
ما برحَتْ تظنّ كلامَنا قُبَلاً
حُبسَت في مناقير.

أيّة عين ممزَّقة أنتِ
يا هذه العين الممزَّقة؟

نقول لها:
أيّتها الأشياء!
هل إنّك أنتِ السرُّ في أنّ جوارحَنا لا تطير؟
هل عُذرُ الطّبيعةِ هذي أنها عُذرُ الكمال؟.

(وليس بنا غير خوفٍ
على طير السّماء
من طيرانها،
وليس بنا غير ظنٍّ
بأنّا
لا نُمانع أن لا نطيرَ،
وأنّا
لاكواكبُ واقفةٌ عند بابٍ مُصَفَّدٍ
في الفراغ
يحاول أن لا يطير)؛
نتعالى، نقول:
السّماء غريبة هذه اللّيلة!
السّماء قريبة!

والحمامة،
في طوْقها طائرةٌ وسْطَ المجرّات،
ومن رعبها تُمزِّقُ أعمدةَ الشّوق،
تَطوي وتَفضُّ ملاياتها:
نتعالى،
وليس بنا غير ظنٍّ مقيمٍ
بأنّ الطّيورَ جميلةٌ
                   وحمقاء.

Monday, August 25, 2014

أنتَ لي

"أنتَ لي
أقفلتُ عليك الخزائن".

هه!
ألِلذي لي أقول؟
ألِمَن يعلم أنه لي أقول؟
ألِمَن أقفلتُ عليه الخزائن؟
ألِمَن كل مكان في جسده يُعِدّ لي العرين؟
ألَه ونباتاتنا تتلاثم سكرانةً كل صباح؟
ألَه وتقاسيمه تُقسّم قلبي كل يوم عليّ؟
ألَه وهو يثأر لي من جمالي؟
ألَه وهو يطعمني قمحة الليل؟
ألَه وأنا أعلم أن الخزائن ليست حصينة؟
ألَه وجنود الملك؟.

له:
"لك
ها خرَقتُ الخزائن
لن يَلمسَك". 

Wednesday, March 26, 2014

أسـلـوب الغـلـطـة


هل ينشأ أسلوبٌ إلا بتنظيم مجموعة من الغلطات معاً ضمن نسق واحدٍ يصيرُ في حضنه أسلوباً وتصير الغلطات خصائصه التي تَسِمُه بالجدّة والفرادة؟. هذا لأنّه لا يَستوي أسلوباً إلا بفعل خصائصه، فإذا لـم تكن خصائصه غلطات في بدء أمرها، كانت محض انتقالاتٍ صغرى تحتذي نسقاً قائماً سلفاً داخل أسلوبٍ قارّ، فهي حينئذٍ من خصائصه القارَّة وليست من خصائص أسلوب جديد. لتصير حركةٌ ما خاصيةً منبثقة؛ نواةً تسهم في إنشاء أسلوب جديد، يجب أولاً أن تكون غلطة. وإنما بغلطاته، بلعثماته، برطاناته، يخترق أيّ أسلوبٍ حُدُودَ النسق ليستوي جديداً.
أسلوب الغلطة أسلوب الأساليب، سديم الأساليب. إنه أسلوب بلا نسق. أسلوب لا يستقرّ قَطّ، فهو لا يَنـِي يولِّد الغلطات واللعثمات والرّطانات والخصائص المنبثقة. ومن عرينه تنمو جميع الأساليب. منها ما يبقى طليقَ العنان، مُستمسِكاً بجموحه، يُولِّد الغلطات والأساليب. ومنها ما يَستقرّ ويَكبح انبثاق الغلطات والأساليب منه، وإنما وفقاً لنسقه تصدر حركاته خصائصَ قارّة مُستنسخةً لا تشذّ عن النهج، فهذا هو الذي يُسمّى "الأسلوب" على وجه العموم.
أسلوب الغلطة هو الوجه الخفيّ لكلّ أسلوب، يُداريه ما استطاع، يُهيل عليه تدابير الوقاية عاداتٍ وانضباطاً وتربيةً وهويّةَ وأصالةً وحدوداً واصطلاحاتٍ وطبائع. وخلف ستار ملامحه القاسية الحازمة، تكحّ آلاتُ التدابير وتلهث وهي تحاول درء فيضان الغلطات المائر في صُلب أسلوبها كنزاً يريد.

Monday, January 13, 2014

حَـديـث الـمِحَـايَة

رأيتُ اليومَ فماً محطّماً في الطريق إلى عَرَفات. أما وأنه مات فربما ساعدته قليلاً. لم يكن يعرف ما جرى له. وكانت وظائفه تتراجف أشلاءً في كل مكان. ودولةٌ صغيرةٌ من فلول الناجين تحاول أن تتكوّن جانباً على الرصيف، وتجهد أن تنعزل عن الحطام إنقاذاً لحصتها من الفم. والظاهر أنه كان فماً كبيراً مهذاراً كثير الطلبات يُستثار بسرعة. وقبل أن أعرف أنني مُيَسَّر لليُسرى هذا اليوم رأيتُ كلمةً غليظةً، قلتُها لحبيبي أمس، تنسلّ من وسط الحطام مكسورة الفكّ تجرّ جناحها المرضوض زاحفةً نحو كلمةٍ صريعةٍ من مقاسها، أعرفها جيداً، أنفقتُ ليلة الأمس بحالها أحاول إبعادها عن فم حبيبي، وهي كالرضيعة لا تطيق له فراقاً، فما إن أُقفِل البرطمان عليها خارجاً، ملتفتاً لأطمئن على فم حبيبي قمراً نقياً من فرط الصلاة والحب يتهادى في سديم الكلوروفورم، حتى أراها هناك ثانيةً مثل آيةٍ لا تكلّ. وأخيراً رأيتها تنمو من بين شفتيه العريضتين ثُقباً شقياً أسودَ شرهاً يَتمطّق، وسمعتُ من جوف البرطمان المظلم همسَ المحاية الفاحش يلتهم جميع الكلمات عداها، ثم الطنين، سمعتُ الطنين المخنوق؛ إنشاد اللامكان الأسود، إنشاد الحروف اليتيمة يعلو من هناك، وأطيافها، نعم أطياف الحروف، هائمةٌ بأقواسٍ كالنمور، تطفو إلى غطاء البرطمان، ثم تحثل ميتانةً إلى القاع بأفواهها تبحث عن مَلاثِم في هياكل الكلمات الخاويةِ، وأمشاطها محلولة. قريب الساعة خمسطاشر ثَقُلَت عيناي، ساقتا قطعان الضياء أمامهما وأدْغَلَتا في كهوف حلقي، فماتت قدماي تحت وطأتي، وسعى قلبي نخاعاً على عظامي، ثم أسرع ينطوى غارقاً في الظهيرة ساطعَ الجنون لا تغيب عنه الشمس. وأنا انطرحتُ على رصيف المحراب، وخدّي على التراب، وعيني على الحطام. تَنازَعَ الضحكُ والبكاءُ على سلطاني هنيهةً، ثم تكاملا في إحساسٍ إمبراطوريّ مؤيّدٍ بكلِّ صراحةٍ عنّت لهما، فالتفتا إليّ بعد البرق وأخبراني حازمين بأنّ عليّ وضع حدٍّ لدولةٍ صغيرةٍ تنمو في حلقي من فلول الناجين. نعم. في غياهب حلقك، وراء مجرة العينين. هكذا إذاً وجد الناجون حاميةً صغيرةً نجت بدورها مما جرى بفضل معجزة غامضة لم يشاءا إخباري بها. ولكن أيّ درويشٍ يخبران؟. أنا، ما إن نظرتُ إلى خُزَع الكلمات الرضيعة في أدغال حلقي تتخلّق من محاية الفم، حتى طفقت ألهث منتشياً. وتملّكتني رغبةٌ مؤكَّدةٌ في مدّ يدي لمساعدة الدولة الوليدة في حلقي، والسعي بها إلى شراذم قلبي، شطّ بها البحرانُ بعيداً في برهان الظهيرة، فانطلقتُ أغني. اليوم يا خيل أناديك. اليوم. اليوم يا خيل من أجل مُشَاتي أناديك. اليوم. اليوم يا خيل يا قوّتي. أنتِ أنتِ نعم قوّتي أناديك. اليوم. جنودي عازمون على المسير إلى عَرَفات. وفي عارم نشوتي شلَّتني أختامُ الرحيق، وسار بي العنفوان شهاباً إلى تلال الصيد العظيم؛ حيث ترامت فطايس الإحساس والرغبة ما امتدّ البصر. ورأيتني. رأيتني أتقطّر في سائلٍ خالدٍ مُهلك. أتقطّر في نقابةٍ محميّة. أتقطّر في خيانةٍ ناجزة. أتقطر في تكرار الاحتمالات والجهل. أتقطر في إمكاني. أتقطّر في العالم ربّما حبيبي. أتقطّر في أعجبني النوم وليتني أموت. هناك رأيتُ بسمة. فتاة من قريب الساعة خمسطاشر، تدعو إلى الحياة على درّاجة. اسمها اسم النار. لا تنخدع باسمها أيها الفجر، فهي هنا. إنها هنا، وهي تناديك. نعم. وأنت تناديها. هي بسمة. الفيلق الأخير المنصور من فمي وفم حبيبي معاً في غزوةٍ وعدت بإلحاق الضرر. نعم. هي بسمة. طيتان من اللحم تحملان شحنةً فادحةً من المنبع هل تصلان إلى المصب؟. لهذا سنقاتل. صاح فم حبيبي. نعم سنقاتل يا حبيبي. صاح فمي. ثم لئلاً تظنّ أنّا خدعناك أيها الفجر، ها نحن. وهذه كلمتي وسط الحطام على الطريق تزحف نحو كلمة حبيبي فتنكبّ عليها بأحضانها لاثمةً وتلفظ أنفاسها فوقها. وأنت أيضاً، إذا صمدتَ إلى أن تحضر الشمس ظهراً على رأسك؛ سوف يَحضُر بَحْر، وتَرَى حُطامَ فَمَيْن يُبحر مُنشداً كلمات اللامكان.

Friday, November 8, 2013

شيءٌ هاملت


هاملت يُشرَب.
شيءٌ في أحدهم يَنضَحُ هاملت.
شيءٌ هاملت، لا أرضيّ ولا زمنيّ، يغوص مَليّاً في لحمي.
شيءٌ نهاريٌّ دامسٌ يُدير شمساً في فمه
يتكلّم الجُنون.
شيءٌ يَشربُ الحياةَ من على جسرٍ مُنهار ويُلقِمُني الشَّمس.

شيئان عادا أخيراً من جرعة المرّيخ على ناقةٍ حمراء.
شيئان مضيعة الكون
يلتهمان لوحاً دامياً من الثلج أَزهَر وسط أغنية لو رحل في الغيمة طيفك.

وأنتِ يا ناقة الأرض
حمراء تنحدرين من كثيبٍ أبيض.

Tuesday, October 29, 2013

وعلى يدِي أيها المجهولُ أيضاً تَقطَّر


(1)
الحِمَارُ المجنونُ الضَّالُّ ما زالَ يطوفُ أعلى الوديانِ، وحَمْلُهُ الرَّجْراجُ يَدْفُقُ من ثقوبٍ كثيرةٍ على الكونِ المُوسَوِيِّ هذا. الحمارُ المجنونُ الضَّالُّ في الصُّورةِ الصَّدِئة؛ صورةِ الانسجامِ الوطيدِ لعقلٍ مُدَوِّنٍ، يسافرُ باكياً داخلَ المادَّة، ولا شيء يُلْهِيهِ عن أشِعَّتِهِ وهي تَنْحَلُّ وتتفسَّخ، فيبقَى حاضراً بحواسِّه كلِّها؛ شاعراً بإيقاعِ الهندسةِ الكليِّ في لحمِهِ يتقوَّضُ من طولِهِ وينقَضُّ على ليلِ التراكمِ والملاحظة.

كأنَّ العَطَبَ الخالدَ الذي أصابَ المهدَ الجلدِيَّ الحيَّ؛ مَهْدَ الرضيعِ، كان سبباً في تسرُّبِ كلِّ هذه الأسرارِ من داخل التلميذِ في طريقِهِ إلى اليومِ التَّالي.

آلةُ العَمَاءِ الواحدة؛ فريدةُ جنسها، محبوسةً داخلَ جِلدِها المُطَلْسَمِ بالحياةِ تنثرُ ـ من خُرُومِ صغيرةٍ بهيكلها ـ حروفاً من اللَّحم النَّابض المُتفَتِّقِ طَيَّاتٍ طيَّاتٍ، أثناءَ تَطْوافِها الأعمى فوقَ المغاربِ الحائرةِ والحقولِ المستحيلة. يسيلُ لُطفها الملْغِزُ في فَلقَ المكانِ، يُنَقِّطُ:
«تَفْ
تَفْ
تَفْ»...
على الأسْطُحِ الصَّمَّاءِ لحاسَّةِ المرعى
ويتمزَّق.

(2)
إذَنْ أضَعْتُك.
أمْطَرَتْ أوَّلاً ـ قبلَ رحيلي ـ مُزَقَاً من بَهَاءٍ داخليٍّ منْظورٍ له شُعْلَةٌ سَقَطَت على شَعْرِكِ الأْغَرِّ مِنْ أيْنٍ فاصلٍ أشْرَقَتْ في أعالي فُيُوضِه.
أمْطَرَتْ بعدَها أطواراً من سالبٍ شمسيٍّ خَمِيرٍ، وزُمَرَاً من سادة الينابيعِ الصُّفْيَا، دَمِعَتْ جُرُوحُهم أمكنةً، أقْعَوْا منهكينَ، وأنَّوا، فمالت من خلفهم المحاريثُ وأمْسَكَتْ عن تَقْلِيبِ هذا العقلِ بأسنانها الحادَّة.
أمْطَرتَ تالياً أدْوِيةً هبائيَّةً شَتَّى؛ جُملاً اسْمِيَّة برائحةِ الكَرَاوْيَا والثلاثاء وزهر الذُّهول، أخلاطاً من مُجَرَّباتِ عَطَّاري جَنَّةِ المسعى، والمصنَّفاتِ الأزلِيةِ الخالدة، فجَرعْتُ الزِّراعاتِ كلِّها مغسولةً بمياهِ التباديلِ عن لوحِ الحجابِ المكتوبِ في غفلةٍ من الواقع، وسَرَتْ مِحَايَةُ القابلِيَّاتِ الرَّقميةِ في لَحْمي زهوراً من عُوَاءِ التكوينِ والقَصْدِ المُمكنِ والآبارِ الطَّائرة.
أمْطَرَت يَدُكِ الحَبْلَ واحداً، كالسِّراطِ المستقيمِ؛ السِّراطِ الذَّيلِ، السراطِ الأفعى. كالسِّراطِ الرَّابطِ الشرِّيرِ المهتاجِ دوماً بين لحمي وميثاقٍ قديمٍ خَتَمْتُ عليه في مَبْدَأ الذَّرِّ، وكان للحبلِ وجهٌ مَطِيرٌ يتقدَّمُهُ، حَطَّ على وجهي سريعاً وطار. تَهَدَّل شيءٌ في الهواء كبرْزَخٍ أخطأ وِجْهتهُ وأبْطَأ بيننا وتعطَّل.
آآآ... ثِمَاً، آثِمَاً...، مزجتُ القطارَ بالممكنِ في كأسٍ مشقوقة، لَعلِّي أُجَبِّرُ كَسْراً في قيامةِ قِسْمَتِنا المطوَّلة. سَمِعْتُهُ واضحاً:
«تَفْ
تَفْ
تَفْ»...
صوت الحقيقة.

(3)
شيطانُ الأشياءِ المحطَّمة؛
شاهداً على حَيْضِ الضَّمِيرِ في المعبد:
(نَهَضْتُ فَوْرَ انحسارِ القَتْلِ أُحْصِي رِزْقِي:
«الكُسُورُ الحُلْوَةُ مِلْءَ قبضةِ الزَّهرة. طَوَائِفُ الطَّرْحِ الحبيبةُ تَغْلِي كالأفاعي بِبَطْنِ الكِتَابِ الغَرِيزِيِّ. حُفَرٌ في مِيَاهِ المياهِ اكْتُظَّتْ بأطوارِ اليَرِقَاتِ من ضفادعِ الأنْفُسِ الجبَّارَةِ انْصَفَقَتْ عليها سماواتُ الصَّاج. جماعاتٌ من حُفَاةِ الأكْبَادِ الفَارِّينَ تَيَبَّسَتْ أوْصَالُهم على السِّيَاجِ المعدنيِّ المشْحُونِ بالموسيقَى..........».
كلُّ الحُطَامِ كانَ طَيَّ شِبَاكِي. بَعْدَ حِسَابِ مَا لِي وما عَلَيَّ، ثمَّ طَرْحِ حصَّةِ المعبدِ من مَجْمُوعِه، قَيَّدْتُ في سِجِلِّ القَدْرِ ما رُزِقْتُهُ صَافِيَاً لهذا الموسِمِ الباقي مُصَنَّفَاً فِئَاتٍ اعتباريةً بِمِقْيَاسِ التَّفَاوُتِ الظَّاهِرِيِّ في الضَّرَر. اتَّجَهْتُ إلى المعبدِ خَاشِعَاً لتَوْرِيدِ المعْلُوم. تَحَفَّيْتُ عندَ البَابِ من كُلِّ الزِّيَادَاتِ الفَارِغَة، دَخَلْتُ مُسْتَأْمِنَاً في سِرِّي سَادَةَ النُّورِ العَاصِفِ تحتَ الطِّينِ أنْ يَشْمَلُوا بَدَنِي بِحِصْنٍ يَقِيهِ أهوالَ البابِ وتَنْكِيلَ الجَمِيل. لم يكنْ هُنَاكَ مِنَ الأَهَلِ أَحَد. انْبَسَطَتْ أمامي صَقِيعَةٌ شاسعةٌ لا يَحِدُّها جَامِد. كَأَنَّ قَوِيَّاً عَمَدَ إلى بَاطِنِ المعبدِ الضَّيِّقِ المحصورِ فَمَدَّ مِنْهُ أَلْفَ طَيَّةٍ مَكَانِيَّةٍ على مَادَّةِ الأَفْوَاهِ الجَانِبِيَّةِ الكثيرةِ المجاوِرَةِ، ثُمَّ ألْقَى بِحُدُودِهِ إلى خَلاءِ الصِّفْرِ يَبْتَدِرُ الكَوْنَ بِمَوْسِمٍ لانِهَائِيٍّ من الحَصَادِ الضَّارِي في الإبَادَةِ المحْصُولِ الإبَادَة. وَحْدَهُ الضَّمِيرُ مَنْ كَانَ ثَمَّةَ؛ مُقْعِيَاً في قِمَاطِ النُّبَاحِ الطَّاهِر.
الدَّجَاجَةُ في الإبَاضَة.
يَئِنُّ في وَجَعٍ بَاهِتٍ، وخُثَارَةُ المجهولِ العَفْنَةُ تَجْرِي هَوْنَاً على سَاقَيْه.
الحُمَمُ البُرْكَانِيَّةُ المتَّئِدَة.
قَبْلَ أن تُمْطِرَ:
«تَفْ
تَفْ
تَفْ».
دُونَ بَاطِنِ رُكِبَتِهِ على الحَرَم.
والبَابُ على مَا أَقُولُ شَهِيد).

لِحِكْمَةٍ ما؛
يَتَجَاهَلُ المُحِبُّ شَهَادَةَ شَيْطَانِ الأَشْيَاءِ المُحَطَّمة.

Thursday, August 29, 2013

النور المُطَلْسَم مالْ على بعضُو هَـزَّ


هكذا، كلما أراد جسدي أن يعلّمني شيئاً، بالكتابة، ألفيتُني أستضيفُ تلميذاً لما أتعلّم. ليس هو أنا. ليس نوعاً من صورةٍ تحاكي أنموذجاً عاماً أبتنيها لي لأراني فيها كأني هي وكأنها أنا. لا. وليس هذا التلميذ صورةً حقةً من سلاسلِ صُوَرٍ أعلم أن لها تقلّبات كثيرة في نطاقِي البيئي، وإن ثبتت لها بعض اللمحات، هنا وهناك، أُعرَف من خلالها كياناً ثابتاً، ذا اسمٍ، وذا طرق معينة في الأمور، وذا هذا، وذا ذاك، قد مِنّي، وقد لا مِنّي، هي "أنا" في نظر المحيطين بي. وما دمتُ هذا الذي يتعلَّم، وجسدي هذا المعلّم، فقد راق لي أحياناً أن أتظاهر، في تساهُلٍ، بأن تلميذي، هذا الذي أستضيفه في ما أكتب، وأعِظُهُ رقيقاً وغليظاً بما رأيت، هو أنا. يلذُّ لي ويُكْرِبني ما أكتُبُ، تماماً كما يلتذّ ويَكْرَب تلميذٌ يُلقَّن درساً. فضلاً عن أني قطّ لم أحلم بي واعظاً، وربما فضّلتُ التراجع يومئذٍ إلى آخر الصف، أو المعاودة في اليوم التالي، إذا علمتُ أن دفعة هذا اليوم من أجنة الأرض سيُختَم عليها بأن تصير كتيبةً من الأنبياء، يُلقى على عاتقهم إنقاذ البشرية من مخاطر أفعالها واختياراتها، ربما يفلحون في إشعال حرب ماحيةٍ، وربما كالعادة يفشلون، من فيض الحياة على الحياة، إلا في ترك أصداء ذكرياتهم القانطة ولعناتهم تتردّد في أذهان تلاميذهم المقرّبين. وإذا راق لي أن أجسِّدني تلميذاً لجسدي، هكذا، كأني والتلميذ وجسدي ثلاث نبضات تَتَلاحقُ إلى ما لانهاية في دورة دموية لا تفنى، فليس ضنّاً مني على أحدٍ بعلومي، ولكنْ هكذا سيكون الأمر أوْفَى لي بحِسِّيّة الخطاب إزائي. أن أصير الله وموسى معاً. ولا بدّ من جبلٍ شاهدٍ يمتصّ شيئاً من خشونة اللقاء. وهو سَيَنْدَكّ سَيْنَدَكّ، ولكن سيَبقى ليَشْهَدَ الملحمةَ المتهتّكة. ومما يلذّ لي ويُكرِبني في ما أتعلّم كتابةً، أن جسدي يُدنيني من أقاليم فيه وفي الكون، بَتولٍ، لم يَدْنُ منها سواي، وما كنتُ أعي لها وجوداً من قبل، دَعْ دنوّي منها. يطوف بي في ماهِدٍ وفي وَعرٍ، يعلّمني أقرأ المعجمات، فيشرق قلبي ويعجم، وأعرف وأجهل، وأبكي وأضحك، والأعالي أمتطي، وفي الرغام أنام. وفي شهوان الكتابة يُشرقني الإدراك حتى جسارة أن أتهتك صادحاً في المدائن والبراري، وهي تنزو بي، وهي تنزو بك يا إلهي.
ولي حبيبٌ، أين مني أنفاسه البلسم، قال لي: (هذا النكاحُ السّاري، في جميع الذّرَارِي)، فتفتّحتُ للبحر أطلسَ، والأطلسُ لي تفتّح. ولي حبيبٌ، صبيّ كريم، صبيُّ البستان، قال لي: (هذه لوامعُ البرقِ الموهن)، فأوسعتُ للبرق شرقاً، وأوسع البرقُ غربي. ولي حبيبٌ، سهَّرَ الوَرْدَ في الوكر، وسهّرَني في السُّكر، وقال لي: (أنت وراء هذه الأشياء)، فخُضْتُ في الرّيحانِ، وخاض فيّ الرّاح، وصرتُ شيءَ المُتلاشي. ولي حبيبٌ، شافْنِي أبكي، مُرَّ تَركي، شَدَّ وَصْلي، من فؤادي للسّديم. ثمّ حالاً، رَقَّ يَسقِي، أرضَ عشقِي، شَكْلُو أصْلِي، مِنْهُ زادِي مُستدِيم، قال لي: (هذه الكائنات، أم هي حانة؟)، فأسفرَت الأشياءُ والكائناتُ والذَّرَارِي تتبارَقُ في موكبٍ هازجٍ من نكاحيَ والصيرورة. يا له عرسٌ لا ينقضي.
وهذا تلميذك يا جسدي، تلميذك، صديقُك المُستحِقُّ، وقلبي، ويدِي، وحبيبي الأنفاسُهُ بلسم، وحبيبي البستان، وحبيبي السَّهَّرني، وحبيبي الشَّافْنِي أبكي، والأرض، والكون، وأنت يا جسدي، فانْزُ بنا، كلّنا أنا، كلنا أنت، كلنا تلميذك؛ تلميذك القارئ الأوحدُ، في رفرف البحران. أحسُّ علومَك يا جسدي، علومَك التي لم أكتب، ولم أقرأ، سوى تجرُّدي لها ساعاتٍ وأياماً، أناجيني بها ليلي ونهاري، في البحر، في الصحراء، في الغابة، في الجبل. أحسّ علومَك. وأثناء قراءتي كتاباً لا يشي على أي نحوٍ بأنه أوحى لي بها، وحين أشاهد فيلماً، وحين أحاور صديقاً، وحين تشغفني لوحة أو صورة، وحين أحدّق في حقلٍ من الخواء المُلِحّ يُشعّ من نقطةٍ أو كتلةٍ يُشتِّتها بصري، وفي أحيانٍ أخرى كثيرة؛ كتبٌ لا حصر لها، عبرتني في صمتٍ جليل، يشعرني شديداً بما في الجريمة من خشوعٍ، يمثِّل فيه المَجرُوم حضرةً لا يدانيها شيء في بهاء الرؤية ووضوح الشهادة والمشاهدة. في الجريمة تجنح القواعد إلى البساطة وحسن التقدير. خلافاً لما يعصف بي حين أنهمك في واحدٍ من تلك الكتب الغريزية التي تنشب فيّ كنار الغابات، ولا تنجلي إلا على ريبةٍ صغيرةٍ متقدةٍ شديدة الإحكام، تلاحقها قاعدة أشدّ منها صغراً تحاول احتواءها: ريبةٌ في الشاهد، في القارئ، في استحقاقه، ونزوعٌ إلى ابتنائه من الصفر، استحضاره، استضافته، وإحاطته علماً؛ هذا سديمنا، هذه حدود قبيلتنا، هذه أوتادنا. هيهات. مرحباً. وليس أسرع من أعيُن الأفعوان تسري، بجلال الوحدة الميتافيزيائية الغامضة، ناسخةً ما عَلِمَت على لحم الميتافيزياء الواقف (وراء هذه الأشياء) أشجاراً تتهامس. وفي المقابل، لا أقاوم، إلا لماماً، غواية التفكير في أنّ الناس يولدون وهم يعلمون ما سأعيش حياتي بطولها لأتعلمه، وقد لا أُفلِح، لهذا أضعني شاهداً، تلميذاً بين يدي جسدي. وفي الحال أرتسم لي مُفتضَحاً لكل من يراني، بعد أن حُزتُ هذه الرفاهية؛ أن أراني. فمَن هو المُفتضح لمَن؟. ومن هذا الذي قلّ مَلْمُوسِيّةً حتى ودّ، حتى تمنّى، حتى أراد، حتى رغب، منها لو يَنسلخ، لو يَعْرَى، لو يُرَى، لو يُلْمَسُ افتضاحاً؟. عندها يلطم المجهولُ الوجيزُ الطفلُ أسطُحَ الرقرقة الساكنة على وجه بحر المعلوم. ويناعٌ زاهرٌ يقفُّ منتعظاً على جلدي كله قَفَّ حقل من مسامير القشعريرات، مهيباً بي من على رؤوس جبالي الزرق نبياً لاعناً ساخطاً يستجلب البروق يُذَكِّرني، يذكِّرُ شاهدي، تلميذي الذي منّي، الذي عَلَّمَ ما لم يَعْلَم، الذي أنت، الذي أنا، وجريمة تتلألأ مثل حوريةٍ على وجهه المتكاثر في جسدي؛ وجه الصبيّ الزّاخر، يعلِّمني:
(لعنة الكون عليك إذا أردت لأحدٍ أن يعلمَ كل ما يساورك، أو أن يكون على أهبة التخمين بذي حافرٍ ينهب الجسر إلى قلبك المغرور، فقط؛ لأنه يعلم أمراً واحداً عنك أو حتى جللاً من الأمور. كلا. لا يعلم، ولا أنت تعلم. ولن يعلم، ولن تعلم. أتدري ماذا أيضاً؟. ستعلِّمه. ستعلِّمه ما لا تَعْلَم. وعندها ربما، ربما تتعلِّم. أترى هذه المخاضة؟، كلها من أجلك. من أجلك أنت. عليك بالكون فتاي، لا بأوصاف خرائطه الوجيزة المترنّحةِ عرائسَ في المجالس. عليك بالكون الذي فيك، في الناس، في الأرض، في الكون. عليك بهذه الحقول المارجة، ولا تحمل معك إلى لقاءٍ سوى الكوثر، ومنه لا تحمل سوى الكوثر. وإن شئتَ فالكوثرَ صِرْ. وتذكَّرْ ما ليس للأرشيف. ما ليس للمستنَد. ما لا مقام له في الذاكرة. ما لا يُستعادُ في مرضخ الأنس الصغير. ما يَصِير. تذكّر ما يَصِير. اِنْسَ الحقيقة. وتذكَّر ما يَصِير).
هكذا كل يوم يا إلهي، أنطح الثمانين والتسعين ردحاً برعونة الوعل، ثم أعود طفلاً مع اقتراب أول ألسنة الظلام. وبستانيٌّ صبيٌّ بارع، يُهامِس جلدي، في جنة الرضوان، بما يبرع فيه رواة القصص الغنائية المتوحّدين، إذ يخاطب المُغنِّي مُغنِّيهِ: "يا راوي"، مستعيذاً بها في مواقع الاستدلال والعتاب والشجن العنيف، حين يختلط عليه الأمر بينه والمستمع إلى القصة على الجانب الآخر. وهي براعةٌ في إخفاء منطقة النفوذ خارج حدودها لبعض الوقت، ثم إظهارها محتميةً بحدودها، في نوعٍ من فرْض الأمن والاعتراف بغيابه، في حركتين كبيرتين متتاليتين، تنشران حولهما غشاءً يتذبذب قبضاً وبسطاً، بفنّياتٍ رئويةٍ وبصريةٍ بلغت من الكمال شأواً عزّ علينا بعده أن نُعَلِّم الحدود بين الجسد والعالم. وتشهق البراعة إجلالاً لنفسها إذ يخاطب الراوي أعضاءه: "يا عين"، "يا لساني"، "يا قلب"، "يا ولد"، "يا روحي"، "يا..."...؛ يا صيرورتي. يُهَامِسُني صبيُّ البستان.
لذا اصطحبتُك يا إلهي إلى إقليم في جسدي لم يَلِقْ به أحدٌ من صحبي، لا قبل ولا بعد، إلى الآن. وأفكِّر، حين أنظر إليّ بعينك. أفكِّر. وأعرف، أنني تركت لديك مني مشهداً قوياً ونادراً، ولا يهمّ أيّ موقع كان له لديك، فقد كان لوقعه أثرٌ واضحٌ، صنيعة آلاف السنين، مثل طريقٍ فلَّقَتْها مخالبُ الهائمين وراء أمّ الكتاب، وأنيابُ العرمرم أهل الكتيبة والقرية. ولإدراكي فرادة هذا الإقليم من أرضي، في نظر الآخرين، لا في نظري، (فهو إقليم شهير عندي، وأعرف ما يكتنز فيه من قوة وندرة)، أدهش حين أراه يتجلّى لي في ناظريك كذا باهراً، وأدهش حين أراني بعينيك، منظوراً إليّ، بذات وَقْع مشهدي عليك؛ انذهالٌ غنائيٌّ بمملكة مسحورة لا يمكن الاحتفاء بها إلا فناً. وأية حيرة تختلج في عينيك إذ أنظر بهما إليّ!، ومثل زورق شراعيّ يودّ لو يصير شراعاً، يثبُ إليّ تساؤلك؛ كيف اقتدرتُ على ألا أضع هذا الإقليم في كتابة، برغم دنوّي منه مرات، وعلمي بأنني قادر على أن أخلق منه صرحاً فنياً لا نظير له؟!. وهل سأخبرك شيئاً عن المَواعِد التي دبّرتها بيني لملاقاتي داخل فَنِّي؛ ما أوفيتُ منها، وما أخلفت، وما ليس بعد؟. سأخبرك شيئاً عن وعود هذا الإقليم الفريد، ما دمت تعرف أنه ينطوي على خلقٍ لا نظير له. ولكن تريّث قليلاً لنرى على أية شاكلة من الخلق هذا الخلق، أم ليس قطّ على شاكلة، قبل أن نبتّ جزافاً بأن من وعوده أن يصير خلقاً فنياً. ربما لديه تدابير أخرى. بدءاً؛ لم يستقم هذا الإقليم الفريد "مشهداً" قبل أن أصطحبك، لتشهده، أنت أولاً، ثم أنا متمرئياً فيك. أعني "مشهداً" بالـﭭـولت التفاعليّ لغابةٍ مرهوبةٍ، كَدَّها الحنين، تغنّي غناءً تصدّعت له أعين الصيادين؛ قد ادّارُوا وراء الجبال، ليشهدوا كيف تبكي بكاءً، وحدها تعرفه سُفنُ الجبابرة السادرين سديماً في غيب الكتابة. حتى إذا التحقوا بأهل الكتيبة والقرية حدثوا عن الغابة شِعراً من حديث الأبدِ يَسِحُّ ناراً وزفيراً من صدوع الأعين. هذا هو الفنّ. ولعلّ هذا الإقليم من سلالة خلقٍ فنيٍّ أتممتُ عليه نعمتي بالفعل، وقد يصيرُ بدوره خلقاً فنياً، ولكن ليس كأسلافه. ومِن هذا ترى أنه قد يصيرُ ليس خلقاً فنياً على أية شاكلةٍ مما عهدنا، لنعرف إن كنتُ قد خلقتُ منه صرحاً فنياً بالفعل أم لم أفعل. أهذا ممكن؟. وربما هو ليس حتى خلقاً فنياً من الأساس، وأولى له أن يدوم شظاءً طائحاً في رفرف البحران يخفق بالتقاسيم من فعل صيروراته لا يكفّ، أما ما شهدناه منه فهو لقاؤُكَ النهرَ اللقاءَ الواحد. فما الذي ينقصك الآن (وقد شهدتَ) لتشهدَ صرحاً فنياً قام فيك فعلاً بما شهدتَ من خلقٍ حسبناه في الإقليم، وهو السادر الطلق في السديم يهيم. أما وأنّ كثيراً من المشاهد تبدو معتصمةً بالثبات، فهذه طريقة في انتهاز النظر، ولا عصمة فيها للمشهد، وهي خدعة، هي صورة إدراكية في حوزة الزمن، سرعان ما تنجلي على الحركة. وتكفي نظرة ثانية، إلى أين؟، والمشهد لم يعد هناك، ولا هناك هناك، ولا الشاهد.
الشاهدُ استباقٌ مرجعيّ يُكتَب هكذا: "كمَا ترَى". لا أحد يستطيع قراءتها، كما ترَى. وكان أجدر أن يُكتب بالرموز الصوتية للغةٍ لم تُكتب إلا لتصدير الشكّ في العالم-الجسد مرجعاً مطعوناً في أصالته، وإن جاز اللجوء إليه جسراً، لذات السبب، يعبر منه الواقع الإدراكي الرضيع إلى الميناء. هو الشكّ مرجعاً إذاً. وليس العالم-الجسد، ولا صورته، ولا أبعاده الفيزيائية المعلومة، إلا نتيجة أُبرمَت اتفاقاً، وعُدّت نطاقاً رسمياً، يقوم مقام الفصل الدراسي، حيث تُعرض، في حصّة العلوم، قطاعات طولية، وعرضية، وأجهزة تمثيلية، وتبسيطات، أقصى طموحاتها أن تؤخذ على محمل التعقيد الكافي لاعتبارها حقيقةً. ولا يُعرض العالم-الجسد، في مقام الوسيلة التعليمية، إلا صورةً أو ميتاً. أما العالم-الجسد الحقّ فهو التلميذ. ولكن من الذي يشكّ إذا لم يكن العالم-الجسد هو الذي يشكّ، أو إقليمٌ منه، أو موسمٌ من مواسمه؟، أو صيرورة من صيروراته؟. مثلاً: للجهاز المناعي شُهرة إغريقية في كون الجسد، شهرة طغت حتى على وجوده المكوَّن أساساً من شكوكه في وجوده، وإذاً في وجود الجسد. سوى أن الجهاز المناعيّ يثق في صيرورته الجسد. وبدوره يثق الجسد في صيرورته جهازاً مناعياً. وإذَن، فقط من تجاوبات الشكّ والثقة، والوجود والصيرورة، والمقاليد والأفعال، بين العالم-الجسد وأيٍّ من أقاليمه أو مواسمه أو صيروراته، يمكن إثبات العالم-الجسد، ونفيه، كسابقةٍ ظنّيةٍ، قياساً إلى العالم-الجسد، كمرجع مغمور، متأهّب لإمكانه، لا لوجوده ولا لشهرته؛ إذ أجهزَ الشكُّ عليهما، وأجهزا عليه، في عمليةٍ فدائيةٍ نالت كثيراً من التصفيق.
مثلما يرحل الكائن الحي تاركاً جثة، ترحل الطريقة تاركةً حقيقة. وإثباتاً للحقيقة، يُستورَد الشاهدُ من وسطٍ حضوريٍّ مُتاخمٍ مُستعد،ٍّ متى دُعي، لإرسال عين حاضرة تَشْهَد. على أنها حين "تَشْهَد"، لا تَشْهَدُ انتهازَها تحقيقاً للحقيقة، بل هي تحيا ما تشهد، أو لا تشهد. إنّ "ما تشهده" العينُ هو حياتها، جديدها، وإحساسها، وكرمها، ونعاسها، وغذاؤها، وتجاهلها، وصحوها، وتكاسلها، وانتباهها، وتشاغلها. لكنها تشهده إذا حضرت، إلا إذا حضرت ونامت. وهي حين تُنتهز وثائقياً، سجلاً حاوياً لشهادتها، هل تقدِّمُ الحقيقةَ، إلا في إناءٍ زمنيٍّ ذائبٍ، لا يلبث حتى يتحلّل في تيار الشهود؟. وحين يُظنّ أنها حضرت، وشهدت، وربما انقدّت ذهولاً...، يا إلهي، أي برودٍ هذا الذي يملأ عينك التي لا تأخذها سِنَة ولا نوم؟. كأن الأمر انتهى قبل أن يدرك جسدٌ سوى جسدي أن لدينا ما نريدك أن تَشْهَد. يا إلهي، ستقضي علينا وساوس الشكّ في كل شيء، وأنت علاجنا الوحيد منها، تعال. انظر إلينا، ودعنا نعرف أنك تنظر إلينا، لئلا نظن بك الظنون، لئلا نظن أن هذه العين المعروقة الكبيرة التي تحدّق فينا من هناك ليست عينك. قل لنا، يا إلهي، أنت وعينك الحمراء الناعسة النابضة العروق ملء السديم، ما الذي شهدتَ حتى تجاسرتَ على تركنا هكذا؟. يا إلهي، أشهدتَ شيئاً أصلاً؟، أهذه عينك؟، قل سريعاً، وإلا فدعني أخبرك بأن أمورك لا تمضي على ما يرام. هذه أقاليم جسدي كلها تعقد مجلسي في القمر، وقد أوفى بنا الأمر إلى صيرورة انشطارية. بعضي النزّاعُ إلى الحروب، وهو الأشدّ تأثراً بك، لا يعرف، يقول إن العلاج الوحيد لهذه الوساوس أن نرسل الفرسان بالمنجنيق قريباً من العين الكبيرة هذي ليفقأوها بنت الكلب، جازمين بأنها ليست عينك، ما دامت تنام. وبعضي الآخر ثوريّ، شغوف بالاختراع والإبداع، نزّاع إلى استكناه الأمور والنبش في جسد السديم بحنكة المستكشف لا المحارب، يريد منا تجنيد الوساوس في آلة البحث، ويرى أنها أدوات استكشاف لا تُضاهَى في سبر أوصال المعرفة. ما رأيك؟. ولدى هؤلاء قناعة قاطعة بأننا نستطيع أن نتقن تصنيع الوساوس، بعد أن حصلوا على نماذج لا بأس بها قطّ في هذا الشأن، ولا تنقصهم إلا موافقة المجلس الموقّر. وهُم يحاولون رشوة بعضي العنيف بأننا يمكن حتى أن ننتج نوعاً من الوساوس بمواصفات عسكرية، وعندها نستطيع أن نعدي بها العين الكبيرة دون أن تدري ما أصابها. (الآن، فقط دعوا العين نائمة. خير لنا أن نراها وأن ندرسها من أن ترانا، ومن يدري ما الذي ستفعله بنا إذا أخفق فرسان المنجنيق فاستيقظت ورأتنا). بل ويزعمون أنهم يعملون على تطوير نوعٍ نادرٍ من الوساوس إلى ذوائب حسية قابلة للتزريع في الجسد، حتى إذا ازدهرت أثمرت أعضاء حِسٍّ خفية تنفصل مكانياً عن كون الجسد، لكنها تبقى متصلة به إدارياً عبر نهر السرّة الساري معطلاً في جميع الذَّرَارِي، وقد آن الأوان لإيقاظه وإعطائه شغلاً بدل العطالة هذه التي ألقمته المسمار. ويجزمون بأن هذه الأعضاء المضافة سوف تعمل في خدمة الجسد، تماماً كما تعمل أعضاء الحسّ المألوفة. هذا قليل مما يُدَبَّر لك في جسدي. وعلى أية حال، لا تسير الأمور في مصلحتك. ها أنا أخبرك لئلاً تبكي وتقول ما أخبرني أحد. إلهي، أجِب سريعاً.

Friday, August 16, 2013

كل شيء يتلاثم، قلبٌ متواصل


جروح كثيرة تتشاحن في الحقل كأنها أنجبت مستشفى، وها هي الآن فخورة بنفسها ترسل إيماضاتها المتواترة إلى الكون في ثقةٍ أطربت (أبادَماك) حتى هبّ من كوخه يتفقّد الكوثر، وحينها رأى (منزوع الكواكب) غارساً أفواهه في الأرض يريد التهامها بفكوكٍ أقلعت أضراسها طائرةً تومض فوقه كالجروح، وترسل صرخات الاستغاثة في تنويعة من الألحان الجماعية لا تتكرر.
ولما كان (أبادَماك) فتىً جديداً، وقد وُلد الآن مكتمل الحنان، وليس عليه بعد إلا أن يُبرز نار المرور من نهديه القويين كي يصدّق العالَم أنه جاهز للمستقبل، فقد رأى، ومعه حق، ألا يُقحِم العالَم في مستقبله. ثم رأى، ومعه ألف حق، ألا يقحم العالَم، ولا المستقبل، في كوثره. ومنصاعاً لقلبه، أيقن أنه سيحبّ (منزوع الكواكب) حباً كالنار حتى يتفحّما وتكَرْبِن أوصال السديم، ثم يَصيره، ناظراً في فخرٍ إلى الكتيبتين المضيئتين في سماء الكوثر تنبضان كقلب متواصل.
(إظلام).
قلب متواصل في ضفيرة لاهثة من النكاح المتواصل.
(إظلام).
على أنّ (منزوع الكواكب) ذاهلٌ في صفوف أفواهه تلتهم الأرض والسماء، يستجدي عصائب النحل الشقية في جوفه أن تجد الرحيق بسرعةٍ، وإلا فالرحيق يَستنزف يَستنزف، حتى لم يعد الجرح يدري أين يضع الضرس. ولأنه وليد ألف فكرةٍ ملدوغةٍ تناكحت في جسدي (وهو يدرك ذلك، لكنه بعدُ لا يراه)، يظنّ الآن أنه أدرك أقصاه، وأنّ الأرض ثدي النهاية: أن يُكِبّ هكذا على فضاء الطين المستحيل يلتهم الهواء بلا أضراس. سيرى أنه ينطوي على مكنون لا نهاية له.
ها هو (أبادَماك) قادمٌ ترفرف حوله ممكنات الفتنة. ويبدو أنّ الحقل، مستشعراً ما سيحدث بينهما في حمى الكوثر، يبارك قلبي بدفقةٍ راضيةٍ من الأطوار تعكس العالَم في عينيّ صوراً تتقاطر من سُرَّةٍ ما تئنّ منشدةً، يمور في أحشائها شجر البرنامج الأسود. ولم أدرِ مَن أسرف منّا في التمادي مع ما سيحدث، لا، ولا مَن منّا يبارك الآخر. وخلتُ للحظةٍ أن الحقل هو الذي سيحدث من شدّة ما تكهرب، ثم رأيتُ الكرم المنساب الهوينى من سُرة الكوثر مسترسلاً ضفيرتين فاق إحكامهما دقّة التصويب حتى صار كلّ شيء يتلاثم.
(إظلام).
كل شيء يتلاثَم: حرب قبَلية في طنين النون.
(إظلام).

Friday, August 2, 2013

لي حبيبٌ

لي حبيبٌ
        شافْنِي أبكي
        مُرَّ تَركي
               شَدَّ وَصْلي
                من فؤادي للسّديم.
ثمّ حالاً،
        رَقَّ يَسقِي
        أرضَ عشقِي
               شَكْلُو أصْلِي
                مِنْهُ زادِي مُستدِيم.