رأيتُ اليومَ فماً محطّماً في الطريق إلى عَرَفات.
أما وأنه مات فربما ساعدته قليلاً. لم يكن يعرف ما جرى له. وكانت وظائفه تتراجف
أشلاءً في كل مكان. ودولةٌ صغيرةٌ من فلول الناجين تحاول أن تتكوّن جانباً على
الرصيف، وتجهد أن تنعزل عن الحطام إنقاذاً لحصتها من الفم. والظاهر أنه كان فماً كبيراً
مهذاراً كثير الطلبات يُستثار بسرعة. وقبل أن أعرف أنني مُيَسَّر لليُسرى هذا
اليوم رأيتُ كلمةً غليظةً، قلتُها لحبيبي أمس، تنسلّ من وسط الحطام مكسورة الفكّ تجرّ
جناحها المرضوض زاحفةً نحو كلمةٍ صريعةٍ من مقاسها، أعرفها جيداً، أنفقتُ ليلة الأمس
بحالها أحاول إبعادها عن فم حبيبي، وهي كالرضيعة لا تطيق له فراقاً، فما إن أُقفِل
البرطمان عليها خارجاً، ملتفتاً لأطمئن على فم حبيبي قمراً نقياً من فرط الصلاة
والحب يتهادى في سديم الكلوروفورم، حتى أراها هناك ثانيةً مثل آيةٍ لا تكلّ.
وأخيراً رأيتها تنمو من بين شفتيه العريضتين ثُقباً شقياً أسودَ شرهاً يَتمطّق، وسمعتُ
من جوف البرطمان المظلم همسَ المحاية الفاحش يلتهم جميع الكلمات عداها، ثم الطنين،
سمعتُ الطنين المخنوق؛ إنشاد اللامكان الأسود، إنشاد الحروف اليتيمة يعلو من هناك،
وأطيافها، نعم أطياف الحروف، هائمةٌ بأقواسٍ كالنمور، تطفو إلى غطاء البرطمان، ثم
تحثل ميتانةً إلى القاع بأفواهها تبحث عن مَلاثِم في هياكل الكلمات الخاويةِ، وأمشاطها
محلولة. قريب الساعة خمسطاشر ثَقُلَت عيناي، ساقتا قطعان الضياء أمامهما وأدْغَلَتا
في كهوف حلقي، فماتت قدماي تحت وطأتي، وسعى قلبي نخاعاً على عظامي، ثم أسرع ينطوى
غارقاً في الظهيرة ساطعَ الجنون لا تغيب عنه الشمس. وأنا انطرحتُ على رصيف المحراب،
وخدّي على التراب، وعيني على الحطام. تَنازَعَ الضحكُ والبكاءُ على سلطاني هنيهةً،
ثم تكاملا في إحساسٍ إمبراطوريّ مؤيّدٍ بكلِّ صراحةٍ عنّت لهما، فالتفتا إليّ بعد
البرق وأخبراني حازمين بأنّ عليّ وضع حدٍّ لدولةٍ صغيرةٍ تنمو في حلقي من فلول
الناجين. نعم. في غياهب حلقك، وراء مجرة العينين. هكذا إذاً وجد الناجون حاميةً صغيرةً
نجت بدورها مما جرى بفضل معجزة غامضة لم يشاءا إخباري بها. ولكن أيّ درويشٍ
يخبران؟. أنا، ما إن نظرتُ إلى خُزَع الكلمات الرضيعة في أدغال حلقي تتخلّق من
محاية الفم، حتى طفقت ألهث منتشياً. وتملّكتني رغبةٌ مؤكَّدةٌ في مدّ يدي لمساعدة
الدولة الوليدة في حلقي، والسعي بها إلى شراذم قلبي، شطّ بها البحرانُ بعيداً في
برهان الظهيرة، فانطلقتُ أغني. اليوم يا خيل أناديك. اليوم. اليوم يا خيل من أجل مُشَاتي
أناديك. اليوم. اليوم يا خيل يا قوّتي. أنتِ أنتِ نعم قوّتي أناديك. اليوم. جنودي
عازمون على المسير إلى عَرَفات. وفي عارم نشوتي شلَّتني أختامُ الرحيق، وسار بي
العنفوان شهاباً إلى تلال الصيد العظيم؛ حيث ترامت فطايس الإحساس والرغبة ما امتدّ
البصر. ورأيتني. رأيتني أتقطّر في سائلٍ خالدٍ مُهلك. أتقطّر في نقابةٍ محميّة.
أتقطّر في خيانةٍ ناجزة. أتقطر في تكرار الاحتمالات والجهل. أتقطر في إمكاني.
أتقطّر في العالم ربّما حبيبي. أتقطّر في أعجبني النوم وليتني أموت. هناك رأيتُ
بسمة. فتاة من قريب الساعة خمسطاشر، تدعو إلى الحياة على درّاجة. اسمها اسم النار.
لا تنخدع باسمها أيها الفجر، فهي هنا. إنها هنا، وهي تناديك. نعم. وأنت تناديها.
هي بسمة. الفيلق الأخير المنصور من فمي وفم حبيبي معاً في غزوةٍ وعدت بإلحاق
الضرر. نعم. هي بسمة. طيتان من اللحم تحملان شحنةً فادحةً من المنبع هل تصلان إلى
المصب؟. لهذا سنقاتل. صاح فم حبيبي. نعم سنقاتل يا حبيبي. صاح فمي. ثم لئلاً تظنّ
أنّا خدعناك أيها الفجر، ها نحن. وهذه كلمتي وسط الحطام على الطريق تزحف نحو كلمة
حبيبي فتنكبّ عليها بأحضانها لاثمةً وتلفظ أنفاسها فوقها. وأنت أيضاً، إذا صمدتَ
إلى أن تحضر الشمس ظهراً على رأسك؛ سوف يَحضُر بَحْر، وتَرَى حُطامَ فَمَيْن يُبحر مُنشداً كلمات
اللامكان.