Charcoal jar

Saturday, April 30, 2016

غريزة

يا للطّيور الطّيور!
يا للسّماء المُعْدِيَة!
تَطّايَرُ الأشياءُ فيها
خاليةَ البالِ كالهرِّ
وما عندها مانع!.

نتعالى، نقول لها:
يا معادنُ هبّي!
فيرقص في أعناقنا موتٌ صقيلٌ
كأنّما هو عيد العقوق.

نتعالى، نقول:
كتبناكِ إذاً يا صورةَ الممكن،
هيّا إلى حفلة العين!
هيّا نَسْقيكِ لوحَ التّراب
غسَلناه لأجلكِ بالزّوايا مباركةً
وملأنا بمِحَايَته جِرَارَ النّظر!
فإذا ما شَربَتْ رِزْقَنا كلَّه
ما برحَتْ تظنّ كلامَنا قُبَلاً
حُبسَت في مناقير.

أيّة عين ممزَّقة أنتِ
يا هذه العين الممزَّقة؟

نقول لها:
أيّتها الأشياء!
هل إنّك أنتِ السرُّ في أنّ جوارحَنا لا تطير؟
هل عُذرُ الطّبيعةِ هذي أنها عُذرُ الكمال؟.

(وليس بنا غير خوفٍ
على طير السّماء
من طيرانها،
وليس بنا غير ظنٍّ
بأنّا
لا نُمانع أن لا نطيرَ،
وأنّا
لاكواكبُ واقفةٌ عند بابٍ مُصَفَّدٍ
في الفراغ
يحاول أن لا يطير)؛
نتعالى، نقول:
السّماء غريبة هذه اللّيلة!
السّماء قريبة!

والحمامة،
في طوْقها طائرةٌ وسْطَ المجرّات،
ومن رعبها تُمزِّقُ أعمدةَ الشّوق،
تَطوي وتَفضُّ ملاياتها:
نتعالى،
وليس بنا غير ظنٍّ مقيمٍ
بأنّ الطّيورَ جميلةٌ
                   وحمقاء.

Monday, August 25, 2014

أنتَ لي

"أنتَ لي
أقفلتُ عليك الخزائن".

هه!
ألِلذي لي أقول؟
ألِمَن يعلم أنه لي أقول؟
ألِمَن أقفلتُ عليه الخزائن؟
ألِمَن كل مكان في جسده يُعِدّ لي العرين؟
ألَه ونباتاتنا تتلاثم سكرانةً كل صباح؟
ألَه وتقاسيمه تُقسّم قلبي كل يوم عليّ؟
ألَه وهو يثأر لي من جمالي؟
ألَه وهو يطعمني قمحة الليل؟
ألَه وأنا أعلم أن الخزائن ليست حصينة؟
ألَه وجنود الملك؟.

له:
"لك
ها خرَقتُ الخزائن
لن يَلمسَك". 

Wednesday, March 26, 2014

أسـلـوب الغـلـطـة


هل ينشأ أسلوبٌ إلا بتنظيم مجموعة من الغلطات معاً ضمن نسق واحدٍ يصيرُ في حضنه أسلوباً وتصير الغلطات خصائصه التي تَسِمُه بالجدّة والفرادة؟. هذا لأنّه لا يَستوي أسلوباً إلا بفعل خصائصه، فإذا لـم تكن خصائصه غلطات في بدء أمرها، كانت محض انتقالاتٍ صغرى تحتذي نسقاً قائماً سلفاً داخل أسلوبٍ قارّ، فهي حينئذٍ من خصائصه القارَّة وليست من خصائص أسلوب جديد. لتصير حركةٌ ما خاصيةً منبثقة؛ نواةً تسهم في إنشاء أسلوب جديد، يجب أولاً أن تكون غلطة. وإنما بغلطاته، بلعثماته، برطاناته، يخترق أيّ أسلوبٍ حُدُودَ النسق ليستوي جديداً.
أسلوب الغلطة أسلوب الأساليب، سديم الأساليب. إنه أسلوب بلا نسق. أسلوب لا يستقرّ قَطّ، فهو لا يَنـِي يولِّد الغلطات واللعثمات والرّطانات والخصائص المنبثقة. ومن عرينه تنمو جميع الأساليب. منها ما يبقى طليقَ العنان، مُستمسِكاً بجموحه، يُولِّد الغلطات والأساليب. ومنها ما يَستقرّ ويَكبح انبثاق الغلطات والأساليب منه، وإنما وفقاً لنسقه تصدر حركاته خصائصَ قارّة مُستنسخةً لا تشذّ عن النهج، فهذا هو الذي يُسمّى "الأسلوب" على وجه العموم.
أسلوب الغلطة هو الوجه الخفيّ لكلّ أسلوب، يُداريه ما استطاع، يُهيل عليه تدابير الوقاية عاداتٍ وانضباطاً وتربيةً وهويّةَ وأصالةً وحدوداً واصطلاحاتٍ وطبائع. وخلف ستار ملامحه القاسية الحازمة، تكحّ آلاتُ التدابير وتلهث وهي تحاول درء فيضان الغلطات المائر في صُلب أسلوبها كنزاً يريد.

Monday, January 13, 2014

حَـديـث الـمِحَـايَة

رأيتُ اليومَ فماً محطّماً في الطريق إلى عَرَفات. أما وأنه مات فربما ساعدته قليلاً. لم يكن يعرف ما جرى له. وكانت وظائفه تتراجف أشلاءً في كل مكان. ودولةٌ صغيرةٌ من فلول الناجين تحاول أن تتكوّن جانباً على الرصيف، وتجهد أن تنعزل عن الحطام إنقاذاً لحصتها من الفم. والظاهر أنه كان فماً كبيراً مهذاراً كثير الطلبات يُستثار بسرعة. وقبل أن أعرف أنني مُيَسَّر لليُسرى هذا اليوم رأيتُ كلمةً غليظةً، قلتُها لحبيبي أمس، تنسلّ من وسط الحطام مكسورة الفكّ تجرّ جناحها المرضوض زاحفةً نحو كلمةٍ صريعةٍ من مقاسها، أعرفها جيداً، أنفقتُ ليلة الأمس بحالها أحاول إبعادها عن فم حبيبي، وهي كالرضيعة لا تطيق له فراقاً، فما إن أُقفِل البرطمان عليها خارجاً، ملتفتاً لأطمئن على فم حبيبي قمراً نقياً من فرط الصلاة والحب يتهادى في سديم الكلوروفورم، حتى أراها هناك ثانيةً مثل آيةٍ لا تكلّ. وأخيراً رأيتها تنمو من بين شفتيه العريضتين ثُقباً شقياً أسودَ شرهاً يَتمطّق، وسمعتُ من جوف البرطمان المظلم همسَ المحاية الفاحش يلتهم جميع الكلمات عداها، ثم الطنين، سمعتُ الطنين المخنوق؛ إنشاد اللامكان الأسود، إنشاد الحروف اليتيمة يعلو من هناك، وأطيافها، نعم أطياف الحروف، هائمةٌ بأقواسٍ كالنمور، تطفو إلى غطاء البرطمان، ثم تحثل ميتانةً إلى القاع بأفواهها تبحث عن مَلاثِم في هياكل الكلمات الخاويةِ، وأمشاطها محلولة. قريب الساعة خمسطاشر ثَقُلَت عيناي، ساقتا قطعان الضياء أمامهما وأدْغَلَتا في كهوف حلقي، فماتت قدماي تحت وطأتي، وسعى قلبي نخاعاً على عظامي، ثم أسرع ينطوى غارقاً في الظهيرة ساطعَ الجنون لا تغيب عنه الشمس. وأنا انطرحتُ على رصيف المحراب، وخدّي على التراب، وعيني على الحطام. تَنازَعَ الضحكُ والبكاءُ على سلطاني هنيهةً، ثم تكاملا في إحساسٍ إمبراطوريّ مؤيّدٍ بكلِّ صراحةٍ عنّت لهما، فالتفتا إليّ بعد البرق وأخبراني حازمين بأنّ عليّ وضع حدٍّ لدولةٍ صغيرةٍ تنمو في حلقي من فلول الناجين. نعم. في غياهب حلقك، وراء مجرة العينين. هكذا إذاً وجد الناجون حاميةً صغيرةً نجت بدورها مما جرى بفضل معجزة غامضة لم يشاءا إخباري بها. ولكن أيّ درويشٍ يخبران؟. أنا، ما إن نظرتُ إلى خُزَع الكلمات الرضيعة في أدغال حلقي تتخلّق من محاية الفم، حتى طفقت ألهث منتشياً. وتملّكتني رغبةٌ مؤكَّدةٌ في مدّ يدي لمساعدة الدولة الوليدة في حلقي، والسعي بها إلى شراذم قلبي، شطّ بها البحرانُ بعيداً في برهان الظهيرة، فانطلقتُ أغني. اليوم يا خيل أناديك. اليوم. اليوم يا خيل من أجل مُشَاتي أناديك. اليوم. اليوم يا خيل يا قوّتي. أنتِ أنتِ نعم قوّتي أناديك. اليوم. جنودي عازمون على المسير إلى عَرَفات. وفي عارم نشوتي شلَّتني أختامُ الرحيق، وسار بي العنفوان شهاباً إلى تلال الصيد العظيم؛ حيث ترامت فطايس الإحساس والرغبة ما امتدّ البصر. ورأيتني. رأيتني أتقطّر في سائلٍ خالدٍ مُهلك. أتقطّر في نقابةٍ محميّة. أتقطّر في خيانةٍ ناجزة. أتقطر في تكرار الاحتمالات والجهل. أتقطر في إمكاني. أتقطّر في العالم ربّما حبيبي. أتقطّر في أعجبني النوم وليتني أموت. هناك رأيتُ بسمة. فتاة من قريب الساعة خمسطاشر، تدعو إلى الحياة على درّاجة. اسمها اسم النار. لا تنخدع باسمها أيها الفجر، فهي هنا. إنها هنا، وهي تناديك. نعم. وأنت تناديها. هي بسمة. الفيلق الأخير المنصور من فمي وفم حبيبي معاً في غزوةٍ وعدت بإلحاق الضرر. نعم. هي بسمة. طيتان من اللحم تحملان شحنةً فادحةً من المنبع هل تصلان إلى المصب؟. لهذا سنقاتل. صاح فم حبيبي. نعم سنقاتل يا حبيبي. صاح فمي. ثم لئلاً تظنّ أنّا خدعناك أيها الفجر، ها نحن. وهذه كلمتي وسط الحطام على الطريق تزحف نحو كلمة حبيبي فتنكبّ عليها بأحضانها لاثمةً وتلفظ أنفاسها فوقها. وأنت أيضاً، إذا صمدتَ إلى أن تحضر الشمس ظهراً على رأسك؛ سوف يَحضُر بَحْر، وتَرَى حُطامَ فَمَيْن يُبحر مُنشداً كلمات اللامكان.

Friday, November 8, 2013

شيءٌ هاملت


هاملت يُشرَب.
شيءٌ في أحدهم يَنضَحُ هاملت.
شيءٌ هاملت، لا أرضيّ ولا زمنيّ، يغوص مَليّاً في لحمي.
شيءٌ نهاريٌّ دامسٌ يُدير شمساً في فمه
يتكلّم الجُنون.
شيءٌ يَشربُ الحياةَ من على جسرٍ مُنهار ويُلقِمُني الشَّمس.

شيئان عادا أخيراً من جرعة المرّيخ على ناقةٍ حمراء.
شيئان مضيعة الكون
يلتهمان لوحاً دامياً من الثلج أَزهَر وسط أغنية لو رحل في الغيمة طيفك.

وأنتِ يا ناقة الأرض
حمراء تنحدرين من كثيبٍ أبيض.

Tuesday, October 29, 2013

وعلى يدِي أيها المجهولُ أيضاً تَقطَّر


(1)
الحِمَارُ المجنونُ الضَّالُّ ما زالَ يطوفُ أعلى الوديانِ، وحَمْلُهُ الرَّجْراجُ يَدْفُقُ من ثقوبٍ كثيرةٍ على الكونِ المُوسَوِيِّ هذا. الحمارُ المجنونُ الضَّالُّ في الصُّورةِ الصَّدِئة؛ صورةِ الانسجامِ الوطيدِ لعقلٍ مُدَوِّنٍ، يسافرُ باكياً داخلَ المادَّة، ولا شيء يُلْهِيهِ عن أشِعَّتِهِ وهي تَنْحَلُّ وتتفسَّخ، فيبقَى حاضراً بحواسِّه كلِّها؛ شاعراً بإيقاعِ الهندسةِ الكليِّ في لحمِهِ يتقوَّضُ من طولِهِ وينقَضُّ على ليلِ التراكمِ والملاحظة.

كأنَّ العَطَبَ الخالدَ الذي أصابَ المهدَ الجلدِيَّ الحيَّ؛ مَهْدَ الرضيعِ، كان سبباً في تسرُّبِ كلِّ هذه الأسرارِ من داخل التلميذِ في طريقِهِ إلى اليومِ التَّالي.

آلةُ العَمَاءِ الواحدة؛ فريدةُ جنسها، محبوسةً داخلَ جِلدِها المُطَلْسَمِ بالحياةِ تنثرُ ـ من خُرُومِ صغيرةٍ بهيكلها ـ حروفاً من اللَّحم النَّابض المُتفَتِّقِ طَيَّاتٍ طيَّاتٍ، أثناءَ تَطْوافِها الأعمى فوقَ المغاربِ الحائرةِ والحقولِ المستحيلة. يسيلُ لُطفها الملْغِزُ في فَلقَ المكانِ، يُنَقِّطُ:
«تَفْ
تَفْ
تَفْ»...
على الأسْطُحِ الصَّمَّاءِ لحاسَّةِ المرعى
ويتمزَّق.

(2)
إذَنْ أضَعْتُك.
أمْطَرَتْ أوَّلاً ـ قبلَ رحيلي ـ مُزَقَاً من بَهَاءٍ داخليٍّ منْظورٍ له شُعْلَةٌ سَقَطَت على شَعْرِكِ الأْغَرِّ مِنْ أيْنٍ فاصلٍ أشْرَقَتْ في أعالي فُيُوضِه.
أمْطَرَتْ بعدَها أطواراً من سالبٍ شمسيٍّ خَمِيرٍ، وزُمَرَاً من سادة الينابيعِ الصُّفْيَا، دَمِعَتْ جُرُوحُهم أمكنةً، أقْعَوْا منهكينَ، وأنَّوا، فمالت من خلفهم المحاريثُ وأمْسَكَتْ عن تَقْلِيبِ هذا العقلِ بأسنانها الحادَّة.
أمْطَرتَ تالياً أدْوِيةً هبائيَّةً شَتَّى؛ جُملاً اسْمِيَّة برائحةِ الكَرَاوْيَا والثلاثاء وزهر الذُّهول، أخلاطاً من مُجَرَّباتِ عَطَّاري جَنَّةِ المسعى، والمصنَّفاتِ الأزلِيةِ الخالدة، فجَرعْتُ الزِّراعاتِ كلِّها مغسولةً بمياهِ التباديلِ عن لوحِ الحجابِ المكتوبِ في غفلةٍ من الواقع، وسَرَتْ مِحَايَةُ القابلِيَّاتِ الرَّقميةِ في لَحْمي زهوراً من عُوَاءِ التكوينِ والقَصْدِ المُمكنِ والآبارِ الطَّائرة.
أمْطَرَت يَدُكِ الحَبْلَ واحداً، كالسِّراطِ المستقيمِ؛ السِّراطِ الذَّيلِ، السراطِ الأفعى. كالسِّراطِ الرَّابطِ الشرِّيرِ المهتاجِ دوماً بين لحمي وميثاقٍ قديمٍ خَتَمْتُ عليه في مَبْدَأ الذَّرِّ، وكان للحبلِ وجهٌ مَطِيرٌ يتقدَّمُهُ، حَطَّ على وجهي سريعاً وطار. تَهَدَّل شيءٌ في الهواء كبرْزَخٍ أخطأ وِجْهتهُ وأبْطَأ بيننا وتعطَّل.
آآآ... ثِمَاً، آثِمَاً...، مزجتُ القطارَ بالممكنِ في كأسٍ مشقوقة، لَعلِّي أُجَبِّرُ كَسْراً في قيامةِ قِسْمَتِنا المطوَّلة. سَمِعْتُهُ واضحاً:
«تَفْ
تَفْ
تَفْ»...
صوت الحقيقة.

(3)
شيطانُ الأشياءِ المحطَّمة؛
شاهداً على حَيْضِ الضَّمِيرِ في المعبد:
(نَهَضْتُ فَوْرَ انحسارِ القَتْلِ أُحْصِي رِزْقِي:
«الكُسُورُ الحُلْوَةُ مِلْءَ قبضةِ الزَّهرة. طَوَائِفُ الطَّرْحِ الحبيبةُ تَغْلِي كالأفاعي بِبَطْنِ الكِتَابِ الغَرِيزِيِّ. حُفَرٌ في مِيَاهِ المياهِ اكْتُظَّتْ بأطوارِ اليَرِقَاتِ من ضفادعِ الأنْفُسِ الجبَّارَةِ انْصَفَقَتْ عليها سماواتُ الصَّاج. جماعاتٌ من حُفَاةِ الأكْبَادِ الفَارِّينَ تَيَبَّسَتْ أوْصَالُهم على السِّيَاجِ المعدنيِّ المشْحُونِ بالموسيقَى..........».
كلُّ الحُطَامِ كانَ طَيَّ شِبَاكِي. بَعْدَ حِسَابِ مَا لِي وما عَلَيَّ، ثمَّ طَرْحِ حصَّةِ المعبدِ من مَجْمُوعِه، قَيَّدْتُ في سِجِلِّ القَدْرِ ما رُزِقْتُهُ صَافِيَاً لهذا الموسِمِ الباقي مُصَنَّفَاً فِئَاتٍ اعتباريةً بِمِقْيَاسِ التَّفَاوُتِ الظَّاهِرِيِّ في الضَّرَر. اتَّجَهْتُ إلى المعبدِ خَاشِعَاً لتَوْرِيدِ المعْلُوم. تَحَفَّيْتُ عندَ البَابِ من كُلِّ الزِّيَادَاتِ الفَارِغَة، دَخَلْتُ مُسْتَأْمِنَاً في سِرِّي سَادَةَ النُّورِ العَاصِفِ تحتَ الطِّينِ أنْ يَشْمَلُوا بَدَنِي بِحِصْنٍ يَقِيهِ أهوالَ البابِ وتَنْكِيلَ الجَمِيل. لم يكنْ هُنَاكَ مِنَ الأَهَلِ أَحَد. انْبَسَطَتْ أمامي صَقِيعَةٌ شاسعةٌ لا يَحِدُّها جَامِد. كَأَنَّ قَوِيَّاً عَمَدَ إلى بَاطِنِ المعبدِ الضَّيِّقِ المحصورِ فَمَدَّ مِنْهُ أَلْفَ طَيَّةٍ مَكَانِيَّةٍ على مَادَّةِ الأَفْوَاهِ الجَانِبِيَّةِ الكثيرةِ المجاوِرَةِ، ثُمَّ ألْقَى بِحُدُودِهِ إلى خَلاءِ الصِّفْرِ يَبْتَدِرُ الكَوْنَ بِمَوْسِمٍ لانِهَائِيٍّ من الحَصَادِ الضَّارِي في الإبَادَةِ المحْصُولِ الإبَادَة. وَحْدَهُ الضَّمِيرُ مَنْ كَانَ ثَمَّةَ؛ مُقْعِيَاً في قِمَاطِ النُّبَاحِ الطَّاهِر.
الدَّجَاجَةُ في الإبَاضَة.
يَئِنُّ في وَجَعٍ بَاهِتٍ، وخُثَارَةُ المجهولِ العَفْنَةُ تَجْرِي هَوْنَاً على سَاقَيْه.
الحُمَمُ البُرْكَانِيَّةُ المتَّئِدَة.
قَبْلَ أن تُمْطِرَ:
«تَفْ
تَفْ
تَفْ».
دُونَ بَاطِنِ رُكِبَتِهِ على الحَرَم.
والبَابُ على مَا أَقُولُ شَهِيد).

لِحِكْمَةٍ ما؛
يَتَجَاهَلُ المُحِبُّ شَهَادَةَ شَيْطَانِ الأَشْيَاءِ المُحَطَّمة.

Thursday, August 29, 2013

النور المُطَلْسَم مالْ على بعضُو هَـزَّ


هكذا، كلما أراد جسدي أن يعلّمني شيئاً، بالكتابة، ألفيتُني أستضيفُ تلميذاً لما أتعلّم. ليس هو أنا. ليس نوعاً من صورةٍ تحاكي أنموذجاً عاماً أبتنيها لي لأراني فيها كأني هي وكأنها أنا. لا. وليس هذا التلميذ صورةً حقةً من سلاسلِ صُوَرٍ أعلم أن لها تقلّبات كثيرة في نطاقِي البيئي، وإن ثبتت لها بعض اللمحات، هنا وهناك، أُعرَف من خلالها كياناً ثابتاً، ذا اسمٍ، وذا طرق معينة في الأمور، وذا هذا، وذا ذاك، قد مِنّي، وقد لا مِنّي، هي "أنا" في نظر المحيطين بي. وما دمتُ هذا الذي يتعلَّم، وجسدي هذا المعلّم، فقد راق لي أحياناً أن أتظاهر، في تساهُلٍ، بأن تلميذي، هذا الذي أستضيفه في ما أكتب، وأعِظُهُ رقيقاً وغليظاً بما رأيت، هو أنا. يلذُّ لي ويُكْرِبني ما أكتُبُ، تماماً كما يلتذّ ويَكْرَب تلميذٌ يُلقَّن درساً. فضلاً عن أني قطّ لم أحلم بي واعظاً، وربما فضّلتُ التراجع يومئذٍ إلى آخر الصف، أو المعاودة في اليوم التالي، إذا علمتُ أن دفعة هذا اليوم من أجنة الأرض سيُختَم عليها بأن تصير كتيبةً من الأنبياء، يُلقى على عاتقهم إنقاذ البشرية من مخاطر أفعالها واختياراتها، ربما يفلحون في إشعال حرب ماحيةٍ، وربما كالعادة يفشلون، من فيض الحياة على الحياة، إلا في ترك أصداء ذكرياتهم القانطة ولعناتهم تتردّد في أذهان تلاميذهم المقرّبين. وإذا راق لي أن أجسِّدني تلميذاً لجسدي، هكذا، كأني والتلميذ وجسدي ثلاث نبضات تَتَلاحقُ إلى ما لانهاية في دورة دموية لا تفنى، فليس ضنّاً مني على أحدٍ بعلومي، ولكنْ هكذا سيكون الأمر أوْفَى لي بحِسِّيّة الخطاب إزائي. أن أصير الله وموسى معاً. ولا بدّ من جبلٍ شاهدٍ يمتصّ شيئاً من خشونة اللقاء. وهو سَيَنْدَكّ سَيْنَدَكّ، ولكن سيَبقى ليَشْهَدَ الملحمةَ المتهتّكة. ومما يلذّ لي ويُكرِبني في ما أتعلّم كتابةً، أن جسدي يُدنيني من أقاليم فيه وفي الكون، بَتولٍ، لم يَدْنُ منها سواي، وما كنتُ أعي لها وجوداً من قبل، دَعْ دنوّي منها. يطوف بي في ماهِدٍ وفي وَعرٍ، يعلّمني أقرأ المعجمات، فيشرق قلبي ويعجم، وأعرف وأجهل، وأبكي وأضحك، والأعالي أمتطي، وفي الرغام أنام. وفي شهوان الكتابة يُشرقني الإدراك حتى جسارة أن أتهتك صادحاً في المدائن والبراري، وهي تنزو بي، وهي تنزو بك يا إلهي.
ولي حبيبٌ، أين مني أنفاسه البلسم، قال لي: (هذا النكاحُ السّاري، في جميع الذّرَارِي)، فتفتّحتُ للبحر أطلسَ، والأطلسُ لي تفتّح. ولي حبيبٌ، صبيّ كريم، صبيُّ البستان، قال لي: (هذه لوامعُ البرقِ الموهن)، فأوسعتُ للبرق شرقاً، وأوسع البرقُ غربي. ولي حبيبٌ، سهَّرَ الوَرْدَ في الوكر، وسهّرَني في السُّكر، وقال لي: (أنت وراء هذه الأشياء)، فخُضْتُ في الرّيحانِ، وخاض فيّ الرّاح، وصرتُ شيءَ المُتلاشي. ولي حبيبٌ، شافْنِي أبكي، مُرَّ تَركي، شَدَّ وَصْلي، من فؤادي للسّديم. ثمّ حالاً، رَقَّ يَسقِي، أرضَ عشقِي، شَكْلُو أصْلِي، مِنْهُ زادِي مُستدِيم، قال لي: (هذه الكائنات، أم هي حانة؟)، فأسفرَت الأشياءُ والكائناتُ والذَّرَارِي تتبارَقُ في موكبٍ هازجٍ من نكاحيَ والصيرورة. يا له عرسٌ لا ينقضي.
وهذا تلميذك يا جسدي، تلميذك، صديقُك المُستحِقُّ، وقلبي، ويدِي، وحبيبي الأنفاسُهُ بلسم، وحبيبي البستان، وحبيبي السَّهَّرني، وحبيبي الشَّافْنِي أبكي، والأرض، والكون، وأنت يا جسدي، فانْزُ بنا، كلّنا أنا، كلنا أنت، كلنا تلميذك؛ تلميذك القارئ الأوحدُ، في رفرف البحران. أحسُّ علومَك يا جسدي، علومَك التي لم أكتب، ولم أقرأ، سوى تجرُّدي لها ساعاتٍ وأياماً، أناجيني بها ليلي ونهاري، في البحر، في الصحراء، في الغابة، في الجبل. أحسّ علومَك. وأثناء قراءتي كتاباً لا يشي على أي نحوٍ بأنه أوحى لي بها، وحين أشاهد فيلماً، وحين أحاور صديقاً، وحين تشغفني لوحة أو صورة، وحين أحدّق في حقلٍ من الخواء المُلِحّ يُشعّ من نقطةٍ أو كتلةٍ يُشتِّتها بصري، وفي أحيانٍ أخرى كثيرة؛ كتبٌ لا حصر لها، عبرتني في صمتٍ جليل، يشعرني شديداً بما في الجريمة من خشوعٍ، يمثِّل فيه المَجرُوم حضرةً لا يدانيها شيء في بهاء الرؤية ووضوح الشهادة والمشاهدة. في الجريمة تجنح القواعد إلى البساطة وحسن التقدير. خلافاً لما يعصف بي حين أنهمك في واحدٍ من تلك الكتب الغريزية التي تنشب فيّ كنار الغابات، ولا تنجلي إلا على ريبةٍ صغيرةٍ متقدةٍ شديدة الإحكام، تلاحقها قاعدة أشدّ منها صغراً تحاول احتواءها: ريبةٌ في الشاهد، في القارئ، في استحقاقه، ونزوعٌ إلى ابتنائه من الصفر، استحضاره، استضافته، وإحاطته علماً؛ هذا سديمنا، هذه حدود قبيلتنا، هذه أوتادنا. هيهات. مرحباً. وليس أسرع من أعيُن الأفعوان تسري، بجلال الوحدة الميتافيزيائية الغامضة، ناسخةً ما عَلِمَت على لحم الميتافيزياء الواقف (وراء هذه الأشياء) أشجاراً تتهامس. وفي المقابل، لا أقاوم، إلا لماماً، غواية التفكير في أنّ الناس يولدون وهم يعلمون ما سأعيش حياتي بطولها لأتعلمه، وقد لا أُفلِح، لهذا أضعني شاهداً، تلميذاً بين يدي جسدي. وفي الحال أرتسم لي مُفتضَحاً لكل من يراني، بعد أن حُزتُ هذه الرفاهية؛ أن أراني. فمَن هو المُفتضح لمَن؟. ومن هذا الذي قلّ مَلْمُوسِيّةً حتى ودّ، حتى تمنّى، حتى أراد، حتى رغب، منها لو يَنسلخ، لو يَعْرَى، لو يُرَى، لو يُلْمَسُ افتضاحاً؟. عندها يلطم المجهولُ الوجيزُ الطفلُ أسطُحَ الرقرقة الساكنة على وجه بحر المعلوم. ويناعٌ زاهرٌ يقفُّ منتعظاً على جلدي كله قَفَّ حقل من مسامير القشعريرات، مهيباً بي من على رؤوس جبالي الزرق نبياً لاعناً ساخطاً يستجلب البروق يُذَكِّرني، يذكِّرُ شاهدي، تلميذي الذي منّي، الذي عَلَّمَ ما لم يَعْلَم، الذي أنت، الذي أنا، وجريمة تتلألأ مثل حوريةٍ على وجهه المتكاثر في جسدي؛ وجه الصبيّ الزّاخر، يعلِّمني:
(لعنة الكون عليك إذا أردت لأحدٍ أن يعلمَ كل ما يساورك، أو أن يكون على أهبة التخمين بذي حافرٍ ينهب الجسر إلى قلبك المغرور، فقط؛ لأنه يعلم أمراً واحداً عنك أو حتى جللاً من الأمور. كلا. لا يعلم، ولا أنت تعلم. ولن يعلم، ولن تعلم. أتدري ماذا أيضاً؟. ستعلِّمه. ستعلِّمه ما لا تَعْلَم. وعندها ربما، ربما تتعلِّم. أترى هذه المخاضة؟، كلها من أجلك. من أجلك أنت. عليك بالكون فتاي، لا بأوصاف خرائطه الوجيزة المترنّحةِ عرائسَ في المجالس. عليك بالكون الذي فيك، في الناس، في الأرض، في الكون. عليك بهذه الحقول المارجة، ولا تحمل معك إلى لقاءٍ سوى الكوثر، ومنه لا تحمل سوى الكوثر. وإن شئتَ فالكوثرَ صِرْ. وتذكَّرْ ما ليس للأرشيف. ما ليس للمستنَد. ما لا مقام له في الذاكرة. ما لا يُستعادُ في مرضخ الأنس الصغير. ما يَصِير. تذكّر ما يَصِير. اِنْسَ الحقيقة. وتذكَّر ما يَصِير).
هكذا كل يوم يا إلهي، أنطح الثمانين والتسعين ردحاً برعونة الوعل، ثم أعود طفلاً مع اقتراب أول ألسنة الظلام. وبستانيٌّ صبيٌّ بارع، يُهامِس جلدي، في جنة الرضوان، بما يبرع فيه رواة القصص الغنائية المتوحّدين، إذ يخاطب المُغنِّي مُغنِّيهِ: "يا راوي"، مستعيذاً بها في مواقع الاستدلال والعتاب والشجن العنيف، حين يختلط عليه الأمر بينه والمستمع إلى القصة على الجانب الآخر. وهي براعةٌ في إخفاء منطقة النفوذ خارج حدودها لبعض الوقت، ثم إظهارها محتميةً بحدودها، في نوعٍ من فرْض الأمن والاعتراف بغيابه، في حركتين كبيرتين متتاليتين، تنشران حولهما غشاءً يتذبذب قبضاً وبسطاً، بفنّياتٍ رئويةٍ وبصريةٍ بلغت من الكمال شأواً عزّ علينا بعده أن نُعَلِّم الحدود بين الجسد والعالم. وتشهق البراعة إجلالاً لنفسها إذ يخاطب الراوي أعضاءه: "يا عين"، "يا لساني"، "يا قلب"، "يا ولد"، "يا روحي"، "يا..."...؛ يا صيرورتي. يُهَامِسُني صبيُّ البستان.
لذا اصطحبتُك يا إلهي إلى إقليم في جسدي لم يَلِقْ به أحدٌ من صحبي، لا قبل ولا بعد، إلى الآن. وأفكِّر، حين أنظر إليّ بعينك. أفكِّر. وأعرف، أنني تركت لديك مني مشهداً قوياً ونادراً، ولا يهمّ أيّ موقع كان له لديك، فقد كان لوقعه أثرٌ واضحٌ، صنيعة آلاف السنين، مثل طريقٍ فلَّقَتْها مخالبُ الهائمين وراء أمّ الكتاب، وأنيابُ العرمرم أهل الكتيبة والقرية. ولإدراكي فرادة هذا الإقليم من أرضي، في نظر الآخرين، لا في نظري، (فهو إقليم شهير عندي، وأعرف ما يكتنز فيه من قوة وندرة)، أدهش حين أراه يتجلّى لي في ناظريك كذا باهراً، وأدهش حين أراني بعينيك، منظوراً إليّ، بذات وَقْع مشهدي عليك؛ انذهالٌ غنائيٌّ بمملكة مسحورة لا يمكن الاحتفاء بها إلا فناً. وأية حيرة تختلج في عينيك إذ أنظر بهما إليّ!، ومثل زورق شراعيّ يودّ لو يصير شراعاً، يثبُ إليّ تساؤلك؛ كيف اقتدرتُ على ألا أضع هذا الإقليم في كتابة، برغم دنوّي منه مرات، وعلمي بأنني قادر على أن أخلق منه صرحاً فنياً لا نظير له؟!. وهل سأخبرك شيئاً عن المَواعِد التي دبّرتها بيني لملاقاتي داخل فَنِّي؛ ما أوفيتُ منها، وما أخلفت، وما ليس بعد؟. سأخبرك شيئاً عن وعود هذا الإقليم الفريد، ما دمت تعرف أنه ينطوي على خلقٍ لا نظير له. ولكن تريّث قليلاً لنرى على أية شاكلة من الخلق هذا الخلق، أم ليس قطّ على شاكلة، قبل أن نبتّ جزافاً بأن من وعوده أن يصير خلقاً فنياً. ربما لديه تدابير أخرى. بدءاً؛ لم يستقم هذا الإقليم الفريد "مشهداً" قبل أن أصطحبك، لتشهده، أنت أولاً، ثم أنا متمرئياً فيك. أعني "مشهداً" بالـﭭـولت التفاعليّ لغابةٍ مرهوبةٍ، كَدَّها الحنين، تغنّي غناءً تصدّعت له أعين الصيادين؛ قد ادّارُوا وراء الجبال، ليشهدوا كيف تبكي بكاءً، وحدها تعرفه سُفنُ الجبابرة السادرين سديماً في غيب الكتابة. حتى إذا التحقوا بأهل الكتيبة والقرية حدثوا عن الغابة شِعراً من حديث الأبدِ يَسِحُّ ناراً وزفيراً من صدوع الأعين. هذا هو الفنّ. ولعلّ هذا الإقليم من سلالة خلقٍ فنيٍّ أتممتُ عليه نعمتي بالفعل، وقد يصيرُ بدوره خلقاً فنياً، ولكن ليس كأسلافه. ومِن هذا ترى أنه قد يصيرُ ليس خلقاً فنياً على أية شاكلةٍ مما عهدنا، لنعرف إن كنتُ قد خلقتُ منه صرحاً فنياً بالفعل أم لم أفعل. أهذا ممكن؟. وربما هو ليس حتى خلقاً فنياً من الأساس، وأولى له أن يدوم شظاءً طائحاً في رفرف البحران يخفق بالتقاسيم من فعل صيروراته لا يكفّ، أما ما شهدناه منه فهو لقاؤُكَ النهرَ اللقاءَ الواحد. فما الذي ينقصك الآن (وقد شهدتَ) لتشهدَ صرحاً فنياً قام فيك فعلاً بما شهدتَ من خلقٍ حسبناه في الإقليم، وهو السادر الطلق في السديم يهيم. أما وأنّ كثيراً من المشاهد تبدو معتصمةً بالثبات، فهذه طريقة في انتهاز النظر، ولا عصمة فيها للمشهد، وهي خدعة، هي صورة إدراكية في حوزة الزمن، سرعان ما تنجلي على الحركة. وتكفي نظرة ثانية، إلى أين؟، والمشهد لم يعد هناك، ولا هناك هناك، ولا الشاهد.
الشاهدُ استباقٌ مرجعيّ يُكتَب هكذا: "كمَا ترَى". لا أحد يستطيع قراءتها، كما ترَى. وكان أجدر أن يُكتب بالرموز الصوتية للغةٍ لم تُكتب إلا لتصدير الشكّ في العالم-الجسد مرجعاً مطعوناً في أصالته، وإن جاز اللجوء إليه جسراً، لذات السبب، يعبر منه الواقع الإدراكي الرضيع إلى الميناء. هو الشكّ مرجعاً إذاً. وليس العالم-الجسد، ولا صورته، ولا أبعاده الفيزيائية المعلومة، إلا نتيجة أُبرمَت اتفاقاً، وعُدّت نطاقاً رسمياً، يقوم مقام الفصل الدراسي، حيث تُعرض، في حصّة العلوم، قطاعات طولية، وعرضية، وأجهزة تمثيلية، وتبسيطات، أقصى طموحاتها أن تؤخذ على محمل التعقيد الكافي لاعتبارها حقيقةً. ولا يُعرض العالم-الجسد، في مقام الوسيلة التعليمية، إلا صورةً أو ميتاً. أما العالم-الجسد الحقّ فهو التلميذ. ولكن من الذي يشكّ إذا لم يكن العالم-الجسد هو الذي يشكّ، أو إقليمٌ منه، أو موسمٌ من مواسمه؟، أو صيرورة من صيروراته؟. مثلاً: للجهاز المناعي شُهرة إغريقية في كون الجسد، شهرة طغت حتى على وجوده المكوَّن أساساً من شكوكه في وجوده، وإذاً في وجود الجسد. سوى أن الجهاز المناعيّ يثق في صيرورته الجسد. وبدوره يثق الجسد في صيرورته جهازاً مناعياً. وإذَن، فقط من تجاوبات الشكّ والثقة، والوجود والصيرورة، والمقاليد والأفعال، بين العالم-الجسد وأيٍّ من أقاليمه أو مواسمه أو صيروراته، يمكن إثبات العالم-الجسد، ونفيه، كسابقةٍ ظنّيةٍ، قياساً إلى العالم-الجسد، كمرجع مغمور، متأهّب لإمكانه، لا لوجوده ولا لشهرته؛ إذ أجهزَ الشكُّ عليهما، وأجهزا عليه، في عمليةٍ فدائيةٍ نالت كثيراً من التصفيق.
مثلما يرحل الكائن الحي تاركاً جثة، ترحل الطريقة تاركةً حقيقة. وإثباتاً للحقيقة، يُستورَد الشاهدُ من وسطٍ حضوريٍّ مُتاخمٍ مُستعد،ٍّ متى دُعي، لإرسال عين حاضرة تَشْهَد. على أنها حين "تَشْهَد"، لا تَشْهَدُ انتهازَها تحقيقاً للحقيقة، بل هي تحيا ما تشهد، أو لا تشهد. إنّ "ما تشهده" العينُ هو حياتها، جديدها، وإحساسها، وكرمها، ونعاسها، وغذاؤها، وتجاهلها، وصحوها، وتكاسلها، وانتباهها، وتشاغلها. لكنها تشهده إذا حضرت، إلا إذا حضرت ونامت. وهي حين تُنتهز وثائقياً، سجلاً حاوياً لشهادتها، هل تقدِّمُ الحقيقةَ، إلا في إناءٍ زمنيٍّ ذائبٍ، لا يلبث حتى يتحلّل في تيار الشهود؟. وحين يُظنّ أنها حضرت، وشهدت، وربما انقدّت ذهولاً...، يا إلهي، أي برودٍ هذا الذي يملأ عينك التي لا تأخذها سِنَة ولا نوم؟. كأن الأمر انتهى قبل أن يدرك جسدٌ سوى جسدي أن لدينا ما نريدك أن تَشْهَد. يا إلهي، ستقضي علينا وساوس الشكّ في كل شيء، وأنت علاجنا الوحيد منها، تعال. انظر إلينا، ودعنا نعرف أنك تنظر إلينا، لئلا نظن بك الظنون، لئلا نظن أن هذه العين المعروقة الكبيرة التي تحدّق فينا من هناك ليست عينك. قل لنا، يا إلهي، أنت وعينك الحمراء الناعسة النابضة العروق ملء السديم، ما الذي شهدتَ حتى تجاسرتَ على تركنا هكذا؟. يا إلهي، أشهدتَ شيئاً أصلاً؟، أهذه عينك؟، قل سريعاً، وإلا فدعني أخبرك بأن أمورك لا تمضي على ما يرام. هذه أقاليم جسدي كلها تعقد مجلسي في القمر، وقد أوفى بنا الأمر إلى صيرورة انشطارية. بعضي النزّاعُ إلى الحروب، وهو الأشدّ تأثراً بك، لا يعرف، يقول إن العلاج الوحيد لهذه الوساوس أن نرسل الفرسان بالمنجنيق قريباً من العين الكبيرة هذي ليفقأوها بنت الكلب، جازمين بأنها ليست عينك، ما دامت تنام. وبعضي الآخر ثوريّ، شغوف بالاختراع والإبداع، نزّاع إلى استكناه الأمور والنبش في جسد السديم بحنكة المستكشف لا المحارب، يريد منا تجنيد الوساوس في آلة البحث، ويرى أنها أدوات استكشاف لا تُضاهَى في سبر أوصال المعرفة. ما رأيك؟. ولدى هؤلاء قناعة قاطعة بأننا نستطيع أن نتقن تصنيع الوساوس، بعد أن حصلوا على نماذج لا بأس بها قطّ في هذا الشأن، ولا تنقصهم إلا موافقة المجلس الموقّر. وهُم يحاولون رشوة بعضي العنيف بأننا يمكن حتى أن ننتج نوعاً من الوساوس بمواصفات عسكرية، وعندها نستطيع أن نعدي بها العين الكبيرة دون أن تدري ما أصابها. (الآن، فقط دعوا العين نائمة. خير لنا أن نراها وأن ندرسها من أن ترانا، ومن يدري ما الذي ستفعله بنا إذا أخفق فرسان المنجنيق فاستيقظت ورأتنا). بل ويزعمون أنهم يعملون على تطوير نوعٍ نادرٍ من الوساوس إلى ذوائب حسية قابلة للتزريع في الجسد، حتى إذا ازدهرت أثمرت أعضاء حِسٍّ خفية تنفصل مكانياً عن كون الجسد، لكنها تبقى متصلة به إدارياً عبر نهر السرّة الساري معطلاً في جميع الذَّرَارِي، وقد آن الأوان لإيقاظه وإعطائه شغلاً بدل العطالة هذه التي ألقمته المسمار. ويجزمون بأن هذه الأعضاء المضافة سوف تعمل في خدمة الجسد، تماماً كما تعمل أعضاء الحسّ المألوفة. هذا قليل مما يُدَبَّر لك في جسدي. وعلى أية حال، لا تسير الأمور في مصلحتك. ها أنا أخبرك لئلاً تبكي وتقول ما أخبرني أحد. إلهي، أجِب سريعاً.

Friday, August 16, 2013

كل شيء يتلاثم، قلبٌ متواصل


جروح كثيرة تتشاحن في الحقل كأنها أنجبت مستشفى، وها هي الآن فخورة بنفسها ترسل إيماضاتها المتواترة إلى الكون في ثقةٍ أطربت (أبادَماك) حتى هبّ من كوخه يتفقّد الكوثر، وحينها رأى (منزوع الكواكب) غارساً أفواهه في الأرض يريد التهامها بفكوكٍ أقلعت أضراسها طائرةً تومض فوقه كالجروح، وترسل صرخات الاستغاثة في تنويعة من الألحان الجماعية لا تتكرر.
ولما كان (أبادَماك) فتىً جديداً، وقد وُلد الآن مكتمل الحنان، وليس عليه بعد إلا أن يُبرز نار المرور من نهديه القويين كي يصدّق العالَم أنه جاهز للمستقبل، فقد رأى، ومعه حق، ألا يُقحِم العالَم في مستقبله. ثم رأى، ومعه ألف حق، ألا يقحم العالَم، ولا المستقبل، في كوثره. ومنصاعاً لقلبه، أيقن أنه سيحبّ (منزوع الكواكب) حباً كالنار حتى يتفحّما وتكَرْبِن أوصال السديم، ثم يَصيره، ناظراً في فخرٍ إلى الكتيبتين المضيئتين في سماء الكوثر تنبضان كقلب متواصل.
(إظلام).
قلب متواصل في ضفيرة لاهثة من النكاح المتواصل.
(إظلام).
على أنّ (منزوع الكواكب) ذاهلٌ في صفوف أفواهه تلتهم الأرض والسماء، يستجدي عصائب النحل الشقية في جوفه أن تجد الرحيق بسرعةٍ، وإلا فالرحيق يَستنزف يَستنزف، حتى لم يعد الجرح يدري أين يضع الضرس. ولأنه وليد ألف فكرةٍ ملدوغةٍ تناكحت في جسدي (وهو يدرك ذلك، لكنه بعدُ لا يراه)، يظنّ الآن أنه أدرك أقصاه، وأنّ الأرض ثدي النهاية: أن يُكِبّ هكذا على فضاء الطين المستحيل يلتهم الهواء بلا أضراس. سيرى أنه ينطوي على مكنون لا نهاية له.
ها هو (أبادَماك) قادمٌ ترفرف حوله ممكنات الفتنة. ويبدو أنّ الحقل، مستشعراً ما سيحدث بينهما في حمى الكوثر، يبارك قلبي بدفقةٍ راضيةٍ من الأطوار تعكس العالَم في عينيّ صوراً تتقاطر من سُرَّةٍ ما تئنّ منشدةً، يمور في أحشائها شجر البرنامج الأسود. ولم أدرِ مَن أسرف منّا في التمادي مع ما سيحدث، لا، ولا مَن منّا يبارك الآخر. وخلتُ للحظةٍ أن الحقل هو الذي سيحدث من شدّة ما تكهرب، ثم رأيتُ الكرم المنساب الهوينى من سُرة الكوثر مسترسلاً ضفيرتين فاق إحكامهما دقّة التصويب حتى صار كلّ شيء يتلاثم.
(إظلام).
كل شيء يتلاثَم: حرب قبَلية في طنين النون.
(إظلام).

Friday, August 2, 2013

لي حبيبٌ

لي حبيبٌ
        شافْنِي أبكي
        مُرَّ تَركي
               شَدَّ وَصْلي
                من فؤادي للسّديم.
ثمّ حالاً،
        رَقَّ يَسقِي
        أرضَ عشقِي
               شَكْلُو أصْلِي
                مِنْهُ زادِي مُستدِيم.

Wednesday, February 27, 2013

مَغِيب

تحت هذا الشفق الغريب المحايد للروحِ، وهي تصبغ ألوان الحدود بلونها الملوَّن، تاركةً على الشغاف أثراً غامضاً يلهجُ باهتزازات ليل الصيرورة شرنقةً على أغصان الزمن، رأيتُ جسدي يدعوني، قريباً، هنا، وراء السودان، وإفريقيا، والأرض، والكون، وروحي.

أتصفَّح ألوان المغيب، وليس في رأسي، بَعْدُ، أيّ تفسير. ما حاجتي إلى التفسير، والكلمات أراها تراني، تراني، وتصير. أراها تراني، تراني، وأصير. حسبي هذه الوثبات النقية في مادّتي.

عبر أطوارها كلّها أخذتني هذه الرقّة.
وبين صفائح الرّفق والشدّة المتقلِّبة ورائي على تربة الروح، يتفلّق الفجر، مُرْسِلاً براعمه إلى جسد الصيرورة الداعي دعاني، فأنا الطيّ والنشر، والفيضُ والحشر، و، بَعْدُ، هذه اللثمة.

بين امتناني ولعنتي أنتِ مخيَّرة؛
يا أهواءَ الصلاة،
إذ جعلتِ اقترابي من حافَة الحياة الدنيا صاخباً هكذا
حتى تدفّقَت القيامةُ من لمستي لحم المغيب.

Thursday, January 24, 2013

مسائل آدم


آدم قرمزيٌّ، إلا جسدُه.
آدم سَيَنوح.
آدم المخطوط مفتوحُه الرَّونق.
آدم الحَيض سليل الحَيض.
آدم النّرد بركانُه يُطوَى.
آدم الناي.
آدم إبريقٌ الرحيقُ فمه.
آدم الرِّقاع في سماء القاع.
آدم الوِصَال بأية حال.
آدم يكاد.
آدم حَلوبٌ، أتاك يَرضع.
آدم حَرْفُـه العذراء.
آدم عن الليالي.
آدم يَهَا.
آدم المجيء ذو الأخرى.
آدم الرِّيحُ تومئ.
آدم في إمكان الجناح.
آدم هنا، بأين هناك.

Sunday, January 6, 2013

سَليل

حفاظاً على الموتِ يا معاركُ
ألتهِمُك.

وها أنتِ
وأنتَ
يا سليلَ الترابِ
تُريقان حبرَ الحياةِ على أسطحِ الضَّلالةِ لوَّايةً
وفي أيّ بطنٍ من اللحمِ تَرْتَتِقان:
اُخرُجْ منها،
ويخرجُ الكافرُ، يخرجُ الكافرُ، يخرجُ الكافر:
أبعِدي عني
يا ذي الحبالُ
أبعِدي الأوتاد.
ويا ذا اللثام
أنتَ لي.

كلِّم الموتَ
قل له محمّد
هذا محمّد
أعدّ لك الرّكلة.

قل له بئراً.

وبئراً لك
أيها الموتُ
إنْ شئتَ
سأحفر،
وبئراً
أيها الموتُ
أصيرُ لك
خُذني.

سرابٌ وأحمرُ
ينحَتُّ عن عموده المتبرّج
داعياً
كلَّ أرجوحةٍ ولاّدةٍ
بنعوتِ الأسارير
وبِرَسْمِ الطريقِ يريقُ سُلاَّنَه
يُشرقُ للرّأسِ موضعٌ في التراب.

وعلّمتُ حرفاً على حدودكَ يا ابنَ النوازع
أتَراها؟
تراها تتمزّقُ أفواهُ المراعي،
وفي فمكَ السديمُ سيثغو إذا ثَغَت،
سيبحثُ اللهُ عنك ولن يجدك،
سيجدكَ اللهُ صدفةً وسيعرفُ أنه لم يَعُد الوحيد،
وسيَسمعُ الرعاةُ هديرَ المَواسمِ تُظلم عند حافةِ اللمعان.

أم خيالٌ فادحُ الطِّينةِ
هذا
أنا
بين طيّاتِ أرضي
أتقلَّب؟.
ولي في طيَّةِ الرعدِ رحّالةٌ من نبات.

تناديني الأجسادُ ناقصةً
من أعالي منصَّاتها الفصليّة،
وعيونٌ فيها دِنانٌ
تتدحرجُ مَلأى بالليلِ والنهار
ينخرُ مرآها الزّمن.
لا تَرَى سوايَ على وجهِ التمام.

ونبضُ يَرَاعةِ النّبراسِ
المضلَّعةِ الصغيرةِ
يقرعُ الهواءَ
وِصَالْ.. وِصَالْ.. وِصَالْ
ثلاثَ قَرْعاتٍ،
وأناديني.

بحقِّ اسمِكَ الكثيرِ الكثير
بحقِّ صديقِكَ الموتِ هذا
بحقِّ الجمراتِ يا ذا النار
بحقّ يديكَ في مُوْرِقِ السِّدرةِ
ما تريد؟،
قل ما تريد؛
أنت يا مَن لم تَعُد حتى النارُ تُشبِعُك.