عقدتُ وكتابي حلفاً، بنينا أصابعنا بسرعةٍ عرقانَةٍ، صحنا منتصبَين: (لاااا بُدّ لنا منا)، كأنا عسكر. ورُحْنَا فرحانَين.
صاح كتابي مستثاراً يفرك جلده بجلدي، ناظراً إلى أمِّنا بيقين المرتاب: (الخجل هذا، لا بُدّ بنت، ها؟، ماما؟. والصحراء، الصحراء التي نتقاطع فوقها هذي، ولد الخجل، صحيح ماما؟).
وحين تبرز (إسماعيلية) من كتلة الجدري، صاخبةً وملتهبةَ الأحشاء ومكتظةً بالدم، تهوي نيزكاً على الكتاب المفتوح يقلِّب أوراقه بين ردفيه، يهبّ الكتاب مسرعاً من اللمسة يتفادى، قابضاً على البيضة المشقوقة، يقرأ الكهوف عليها مرحاً، ثم يلتفت إلى (نفسي) الواقفة بالمنظار على مقدمة (إسماعيلية) هاتفاً، كأنه يعيِّرها: (رواية، خجل، بنت!). وحين ينام في بطنه الأسد الصغير منقلباً كلباً، يصحو، ومن تحت جناحيه مواء المنيّ والصخور المتكلّمة، فيبحث في منيِّ (الرواية) عن يده.
ـ كتابي. ويمشي أمامنا يوم بهيأة الطير، مكتوب على لحمه قاربُ الذهن، وأعشاش من مُخٍّ منير تتجول في نومه حاضنةً مصابيح مطفأةً ترْجُم بالدموعِ الموتَ فتغرق (الرواية).
ـ كتابي. ويغزل بالحذق والأنامل مسرحاً من متانة جماله، يوزّع فوقه أكواب الهوانم انطرحَتْ سائلةً على اليوم المجنح الماشي، فيرتعد اليومُ كالشيء، والرأس تومض.
ـ كتابي. يتعتعه الوعي، فيبكي مناجياً الخواء الطاهر المطروح بجلده على طريق سلالتنا: (وكيف جُنَّ الجنون تحتي أيها الشيطان، كيف نالت مني زهور الإنسان)، مطمئناً إلى ما احتسبه بكاء لساني تحت صخرة رائحته.
ـ كتابي. وتسكره الرؤيا. يلمح بجعاً ذهبياً في دمه يحتسي الأفق، ملمِّعاً بأصابعه سرة اليوم، فيتأوَّه من كفاية اللذة، يلتقط حبل الدجاجة منحدراً إلى قارب الإسماعيل المنفيين في الوعي، يمضغون باكين شموس توليداتهم، ويبدِّدون الحصن.
نظرَتْ أمُّنا، دون أن تعاتب أحداً على التعيين، إلى جمع صغير مُطْرِق من الإسماعيل، مُصفّدٍ أمامها بحبالٍ تحت سقف الحظيرة، وكتابي لامع العينين مشدود القامة كالقضيب، اجتمعَتْ بيده الحبالُ، منتقماً يسوطنا بجماله، زأرَت: (مَن منكم قرأ الكتاب؟)، فأطرقنا مزيداً، وأطرقت الوقاحة، وحين مدَّت رقَّتها التقطتني، كانت الرأسُ خاليةً، والأُسود الصغيرة تطَّاير كالفراشات هاربة، وريش مبهم ينبت في رأسي، والكلب يعضّ يدي مشجّعاً ولا يجد، واليوم يترنح دائخاً مع اهتزازات جسد أمنا وانحناءاتها الهيستيرية الغاضبة من كهرباء مريبة تصعق صدغها المعروق. قمتُ منكراً اتِّهامي لي. السلالة قامت بأسرها تهتز مصعوقةً بالجحود.
وتجلَّى كتابي عن وجودين من كتلة الجدري؛ لسانين ينتحبان في ملكوت مَن طفق ينتحب داخل قارب من النحول الشفاف. بحثنا لاهثِين عن هلامات مدفونة في غرائزنا نريد الموت من بغتة الحالة البطّالة، فانتظم الموتُ باباً من اللعاب إلى بطني، وقسَّم الموتُ علينا كتباً لا تُقرأ؛ مكتوبةً بالمنيّ على جلود حيةٍ، محزومةَ الصناديق بأحماض هضمية أنارت الطريق لنا، فسِرْنا كالنادبات حاملِين المشاعل مبلولة بسوائل البطن نريد شيئاً من الظلام وسط نور أمنا وكتابي، يفتكان بنا، حتى أدركتنا الأرض، باحت لنا بيديها الضاحيتين، تهالكنا على القوارب نبتعد.
أخبرَتْنا: (بين الآبار والحجارة لثمةٌ من حدود تتفتق، كتابة جسدية سوداء لمْسَتُها تَشوي، جمالٌ شريرٌ وطاهر، جلودٌ، وأبوابٌ فيها كزهور السعير تلتهم الإنسان). (والإنسان كذلك حَجَر، صحيح ماما؟)، هبّ كتابي يتعرض، فلطمته الأرض: (والإنسان بئر).
عادت فانحنت برفقٍ تمسد خدّ إطراقتنا، ثم أومأت إلى كتابي ينتحب منهاراً على القارب البعيد المتباطئ، فانتصب في الحال وأطلق بابين سائلين من لحم يديه كأنه يلعب، وقعَتْ من البابين الطرابيز والأبواب الكثيرة، قمنا نركب الطرابيزَ مرتكزين بأردافنا على القضبان ندور، وقامت الطرابيز بنا تتهارش، وتندفع كالجواميس مجنونةً نحو الأبواب الكثيرة، حتى إذا بلغَت الأعتابَ انغرسَت أظلافُها بالفرامل تحفر في التراب أخاديدَ كأنها على حافة هاوية، والأبواب الكثيرة مفتوحة تتقلّب في الأخبية. صرنا نلمح، كلما نظرنا إلى خارج البطن، بنات أَرْخَيْن أوراكهن في الماء يردن المنيّ القارب، حتى إذا انقلبنا ناظرين إلى داخل البطن هبَّت الزغاريد في القضبان تأكل الإنسان لمرأى كتابي كاملاً على مصراعيه يستمني بين يدَي أمنا، ويدق بالبيض بابَ الكهف يعوي بمنجاةٍ في أنْ استَغْفَلَنا بالبنات.
تسيل مني يدٌ مفؤوسةٌ فائرة تمشي، وكُلِّي طَمَع، وعلى رأسي المطارق، تحت مواسمَ هضميةٍ ثقيلة بغازات الرعب والدخاخين والأبخرة الملونة، ولما تكاملَت أجزائي من اليوم عند كتابي، وجدتُني لفافةً محشوة بالمكان تجرني يدي كالإنسان القتيل إلى القارب، على رأسي أسدٌ صغير يومض كلما امتصَّ كتابي مِنِّي نَفَساً. وبدا الكون كحولاً في المعسكرات.