باكتشافهم الولادة أحرز البشريون نصراً فائقاً وأخيراً على صعيد نشاط الجسد. وهو نصرٌ فائقٌ لأن الولادة كانت العملية الثنائية التي منحتهم أول حصيلة فيزيائية حية ينتجها الجسد، (بعد انمحاق المحاولات الأحادية الأولى لإنتاج كائن حي بالعون الذاتي)، ولا يزالون يحملون عبء إنتاجها مراراً وتكراراً، مع ما تقتضيه من احتشاء وتغذية. وهو نصرٌ أخير لأنهم اكتفوا به في ما يبدو، وأضربوا عن ما يليه بداهةً من انتصارات كانت أدنى إلى منالهم منه، بحكم ما يتيحه النمط التكراري لأية عمليةٍ إنتاجية ذات طابع إحصائي من إمكانات الانتقال (خطِّياً بأهون الاعتبارات) إلى ما يليها قفزةً أبعد في النسيج الأعمى للحدوث، لولا أنهم أقاموا الولادة الثنائية عائقاً، فالتفتوا من ثَمَّ، لا إلى حصيلتها، بل إلى العملية ذاتها، مأخوذين بشرطها الثنائي يكررون النصر إلى غير نهاية، حتى لم تعد الولادة البيولوجية شيئاً يثير، فتنادوا إلى كواكب الذهن ينهبونها نهباً يتصايحون: هيا نلد الكتب!. ولكن كما رأينا؛ لا يزال قَصْر الإنسان مشيداً، وبئر الخيال معطلة، وقد لم تأخذهم الصيحة إلا بمقدار. اتجهوا في أعقابها، لا إلى ولادة الكتب كما صاحوا، بل إلى استقصاء الممكنات داخل سلسلة التكرار ذاتها يستنتجون منها انتصارات تعاونية منطقية على صعيد الذهن؛ يراكمون المعلومات والملاحظات تخزيناً وتعليماً وتجريباً وتعبيراً وطباعةً وتخابراً وتوارثاً نحو المزيد من الدقة والإتقان في إنتاج الفنون والصناعات، فضاع، ربما إلى غير رجعةٍ، الأمل في أن يحقق الواحد نصراً بمفرده، ودع عنك تعطيلاً وإنشاءً لفظياً؛ ما يتغنى به الرائعون حَمَلة الأرحام العقيمة من (مخاض الكتابة) وما شاكله من تعابير ميتة.
ليس خافياً أن الكتاب الورقي لم يكن أول وحدة تخزينية للكتابة في تاريخ البشرية، سبقته أوعية كثيرة أودعها السابقون أعمال الخيال والتفكير، ولما لم تكن تلكم الأعمال ذات نازعٍ مَنَوِيٍّ إلا من وجه المجاز فقد تعذَّر على أوعيتها الحوامل أن ترقى بها إلى أفق المشيمة الأعلى، فبقيت خزائن ربك لا حَيَّة الكهرباء تصلكم بها فتبصرون فتُطردون، ولا قوارب الذهن تحمل من سفينة البطن يونس، وبقي الضبّ يرتعد على الجدار ينظر آسفاً إلى ذيله المبتور يرقص.
الكتاب الورقي، حيوان المكتبة، عامل الأرشيف المجنَّد، هو (روح) معذَّبي ميشيل فوكو التي تنمو طارئة على أجسادهم تغزوها يا دووب أثناءما هم معلقون على (شاشة الإظهار) لإكمال عملية (إنتاج الحقيقة) التي لا بد لنجاحها من نشاط الروح المستحدَثة. وهو على أية حال لا يغادر موضعه إلا ضمن سلسلة الفعاليات المجازية والإحداثات الداخلية التي يجود بها الشهود. أي لا يعمل الكتاب الورقي إلا من خارجه، من روحه الوعائية الخُلَّب التي استحدثها الشهود في أحشائهم لتستقبل فيض الحقيقة. الكتاب الورقي ليس شخصاً، ولا هو كاتبه.
الكتاب المولود من لحم ودم، الكتاب الشخص، هو الحيوان الخلاء المفترس الضَّاري، الحيوان الخرافي، (خيال) شخصيات جيل دولوز المفهومية التي تنمو على (مسطَّح المحايثة) أثناء عملية (إبداع المفهوم) التي لا بد لحصولها من نشاط الشخصية المفهومية.
وهل تخلو من المغزى كتبٌ قبل ولادة الكتاب الورقي سُطِّرت على جلود الحيوانات الميتة؟.
الآن، هل نحن شهودٌ على ما ينذر باندثار الكتاب الورقي؟، بل نحن شهود على ما يبشر بالكتاب المولود. ولا حتى الكتاب الإلكتروني يفي بذلك. ولكلّ (ميتافيزياء) أن تصير (علماً) كما أراد كانْت. لا أريد الولادة المجازية الباكية لأصحاب (مخاض الكتابة)، بل أريد الكِتَاب الذي يولد فعلاً، كما تلد الأمهات أوغاد الكوكب. وكان محمد المهدي المجذوب بشيراً به إذ كتب: (أحلم بجيل يجعل الكتابة جزءاً من العَيْش). وترجمتها: أحلم بأرضٍ تجعل السديم جزءاً من الإقليم. أحلم بإنسان يلد كتاباً من لحم ودم، يتنفس. أحلم بي ألتهم كتاباً من اللحم لا من الورق، بفمي لا بعيني. أحلم بي طريح الفراش يسعفونني بمصل الإقليم خمساً وعشرين حقنةً في السرَّة خوفاً من عدوى السديم؛ عضَّني كتاب مسعورٌ، ولا أتعافى.
يحدث هذا عندما يصعب التمييز حقاً بين (الكاتِب) و(العايِش). عندما يغدوان لحمةً واحدةً، عندما لا تعرف أيَّ النعتين تطلق على شخص؛ فهو مستوجب الكتابة والعيش شيئاً واحداً. وكان لطفاً من المجذوب أن يَلِي بحلمه (جيلاً)؛ لأن نازعاً كهذا لا ينتسب إلى حقبة ولا إلى إطار زمني. إنه ضرب دمويّ من التفكير ما كان المجذوب ليلغ فيه لو أنه فكِّر حقبياً. بل هي حال؛ بالاستخدام الصوفي لـ(حال)، أعني أن تغدو الكتابة قطعةً حيةً من عيش العايش؛ عضواً يجوع ويرتجف، ولا يتجزأ عن ما يملأ الجسد من سُعَار التنفُّس والحياة و(العَيْش). أن لا يعود الكتاب جليساً وحسب، بل جَسِيداً، يداً، عيناً، قلباً، كبداً، كتاباً، أماً، ولداً، أباً، حبيباً، فريسةً، مفترساً.
إذن، هل يموت الكتاب الورقي؟، لا أعرف هذا، لكن، ليموت شيء ما؛ عليه أن يحيا أولاً، أليس كذلك؟.