للتفسير سلطة أقوى من سلطة الحقيقة المجردة، وأقوى من سلطة الممارسة الفعلية.
يعجز جل البشر عن قبول ما لم يألفوا من الحقائق والممارسات التي تلامسهم ضمن حزمة وجودهم في العالم، فتبقى مكبوحة عند عتبات إدراكهم جنباً إلى جنب المتخيلات بشتى أنواعها في جمهرة واحدة، لا يعبر منها إلى وعيهم إلا ما ظفر بأختام التفسير (المدارج النظرية نحو الإدراك والقبول). وتاريخ التجربة البشرية حافل بالتفسيرات الراسخة التي تتوارثها الأجيال بمختلف سبل التلقين المباشرة وغير المباشرة جزءاً من زخيرة المعرفة الموثوقة والمألوفة. وجميع الحقائق والممارسات المشفوعة بتلك التفسيرات تعبر عتبات الإدراك حال مثولها عندها فلا شيء يكبحها ولا حتى تآكل التفسيرات وفقدانها صلاحيتها. والتفسير يتآكل، ويفقد صلاحيته كل حين، لأنه وحده هو ما سمح ويسمح بعبور المتخيلات أيضاً وليس الحقائق والممارسات وحدها إلى نطاق الإدراك والقبول. التفسير يحب المتخيلات، والمتخيلات لا تحب التفسير وتنسى بطبعها كل غواياته ولا تعرف كيف تمنع نفسها من تقويضه.
لكن كذلك في غياب التفسير (وإذاً الحقيقة والممارسة المقبولتين)، أو في وجود تفسير يمارس سلطة مرتهنة لسلطة أخرى، يميل الناس إلى اختلاق أمزجة متخيلة من الحقائق والممارسات على هواهم ويروجون لها ولتفسيراتها عند بعضهم البعض وربما يستقبلونها عند عتبات الإدراك بالمعازف والزغاريد، فهذه لذائذ يستمرئها الخيال وتستمرئه. هذا ما يحدث في عوالم الدين والفن والأدب بعامة. وهي حقائق وممارسات، ما في ذلك شك. سوى أنها من عيار آخر. إنه عيار الذي "ما كان" إن جاز لنا تقسيم الحقائق والممارسات إلى العيارين اللذين كانت الحكايات واعية بهما معاً بوضوح صاعق إذ تبدأ كل حكاية بعبارة: "كان، يا ما كان"، أي "ربما حدث، أو ربما لم يحدث"، ثم تتقاطر الأحداث. توجد إذاً حقائق وممارسات يمكن أن نزنها بعيار "الذي كان" وأخرى نزنها بعيار "الذي ما كان"، ولا يعيب أياً منهما ألا تكون الأخرى، ولا ينبغي أن يضير أياً منهما أن تكون الأخرى موجودة وفاعلة.
مع ذلك فقد شهدنا كثيراً من "الذي ما كان" قط يوزن كثيراً بعيار "الذي كان" ويُلطم بأختام التفسير ليعبر عتبات الإدراك منكراً ذاته. مثال: الله.
وشهدنا كثيراً من "الذي كان" كثيراً يوزن كثيراً بعيار "الذي ما كان" ويُحرم من القبول. مثال: الغول والعنقاء والخِلّ الوفي.